عائلة البديري كانت حالة غير اعتيادية بين علماء القدس وأعيانها في أوائل القرن التاسع عشر. فبعكس العائلات الأخرى، كانت هذه الأسرة حديثة العهد في تاريخ المدينة، فقد هاجر جد العائلة محمد بن بدير، المعروف بابن حبيس، من المغرب، ووصل إلى مصر، حيث التحق بالأزهر عدة سنوات، وصار من مشايخ الطريقة الخلوتية، ثم جاء إلى القدس، كما يبدو، في سبعينيات القرن الثامن عشر، فأحبه أهلها وأجلوه وأصبح من أبرز علمائها. ومثل الشيخ محمد أبو السعود فإن البديري لم يدخل حلبة التنافس في شأن الوظائف العلمية الرسمية، الأمر الذي اكسبة احترام الاهالي وتقديرهم. وورد اسم البدير أيضاً الى جانب أبو السعود في عدد كبير من الأوامر السلطانية ومراسيم ولاة الشام وعكا أيام الحملة الفرنسية، كما ذكره محمد باشا أبو المرق في مراسلاته الرسمية، وكذلك في رسائله الشخصية إلى أبناء عائلة الحسيني، واصفاً إياه بأستاذه المبجل. لقد كسب البديري احترام العديد من اهالي القدس وحكامها إذاً، بسبب وفرة علمه وكراماته كشيخ للصوفية، وابتعاده عن الصراعات بشأن الوظائف الحكومية.
كتبَ محمد البديري عدة مؤلفات في شؤون الدين والأدب، حُفظت كمخطوطات في مكتبته العائلية الخاصة، كما أنه قرض الشعر، واشتهرت إحدى قصائده التي كتبها في مدح أحمد باشا الجزار بعد تغلبه على الفرنسيين ورده جيوش نابليون عن أسوار عكا. وكان حسن بن عبد اللطيف، الذي صار مفتياً للقدس، أحد تلاميذه، فشمله في تراجمه لأهل القدس في القرن الثاني عشر الهجري. وحظي البديري وعائلته بحماية آل الحسيني ودعمهم، الأمر الذي عزز مكانة هذا الشيخ في المدينة. ومن الجدير بالذكر أن البديري لم يتقلد منصباً رسمياً حتى وفاته في القدس، على الرغم من سعة علمه واحترام الأهالي وتقديرهم له. وقد سار أولاده على خطاه، وعرف منهم عبد الله أفندي أحد زعماء ثورة 1834 ضد الحكم المصري، والذي نفاه ابراهيم باشا إلى مصر، ورفض محمد علي باشا قبول التماسات كثيرة قدمها أفنديات القدس من أجل السماح له بالعودة الى موطنه.
لقد قُبلت عائلة البديري في مجتمع القدس ونخبتها، وتم اندماجها بنجاح، لكن مثل هذه الحالة صار نادراً منذ أواخر القرن الثامن عشر وخلال القرن الذي تلاه.
لواء القدس في أواسط العهد العثماني
عادل مناع
(بتصرف)