ثورة صفد بداية الصراع العربي الصهيوني
في صفد شاع الخبر بأن اليهود اعتدوا على الحرم الشريف وهدموه وأحرقوه، فهرع الناس مساء يــ29/8/1929إلى الجامع الكبير في السوق للاستماع إلى ما يقوله الخطباء في ذلك، ولم يمض إلا القليل حتى دخل المسجد "الميجر فردي "مساعد مدير الشرطة البريطاني وخاطب الناس بالعربية متظاهراً بمحاولة تهدئتهم: ايها الإخوان، لاتصدقوا كل ماقيل، إن اليهود لم يهدموا الحرم، بل هاجموه، واستولوا على البراق، لكن حكومتنا لايمكن أن تسكت على هذا.
لم تمكنه الجماهير من تكملة كلامه وارتفعت بينهم دعوات الانتقام والثأر، وفي هذه الاثناء صاح قادم أن المجاهد أحمد طافش قد قتل فخرجت الجماهير هادرة متجهة إلى حارة اليهود التي كانت تقع في القسم الشمالي من المدينة، وأخذت جموعهم تخلع أبواب المحلات التجارية وتشعل النار فيها، فتدخلت الشرطة البريطانية، ونقلت اليهود، ولاسيما النساء والأطفال، إلى السراي حيث مكثوا ثلاثة أيام والتزم أهالي صفد خلالها بسجاياهم العربية وإنسانيتهم فكانوا يحضرون الطعام لأولئك المحتجزين، وحدث أثناء ذلك أن ألقى مجهولون قنبلة قتلت أربعة من اليهود وثلاثة من خيول الشرطة فقدمت في اليوم الثاني 30آب القوات البريطانية من الجاعونة وطبرية، ودخلت حارة اليهود، وأطلقت النار على كل عربي وجدته فيها.
ولم يكن دخول القوات البريطانية إلى المدينة سهلاً لأن شباب صفد أقاموا حاجزاً من الحجارة الضخمة عند مدخل البلدة، مما حمل الجنود على أن يترجلوا عن خيولهم وسياراتهم، فتعرضوا لنيران وحجارة انهالت عليهم مما زاد في خنق الجنود فصاروا يطلقون النار على كل من يرون، محارباً أو مسالماً، وصوبوا نيران بنادقهم إلى قريتي عين الزيتون وبيريا القريبتين من صفد، ودخلوا حارة اليهود وهم يغلون حقد على العرب، فسقط من نيرانهم عدة قتلى وجرحى من العرب
تمكنت القوات البريطانية من السيطرة على الموقف، وأعادت اليهود إلى بيوتهم، وتولت حراسة حارتهم، ثم قامت قوات الشرطة بحملة تفتيش في بيوت العرب إرهاباً لهم، وألقت القبض على نحو 400 عربي، وأفرج فيما بعد عن كثيرين، وسيق الباقون إلى سجن عكا حيث تعرضوا للإهانة والتعذيب، وقد وجه مدير السجن، وهو ضابط بريطاني، إهانات شديدة إلى الحاج توفيق غنيم فهجم ابنه نايف على الضابط وألقاه أرضاً، فحكم على نايف وأخيه عارف غنيم بالسجن
المؤبد، كما حكم بالسجن المؤبد على كل من توفيق عبيد، وأحمد صالح الكيلاني، ورشيد سليم الحاج درويش، وأخيه علي ومحمد علي زينب، وجمال سليم الخولي، ورشيد محمد الخرطبيل، ومصطفى أحمد دعيس، ومحمد مصطفى شريفة، وسعيد شما، وأعدمت السلطات البريطانية الشهيد فؤاد حجازي من صفد مع الشهيدين عطا الزير ومحمد جمجوم من الخليل يوم 7 / 6 / 1930.
وقد جاء في البلاغ الرسمي رقم 14 الصادر في 31 / 5 / 1930 مايلي ا قتل من العرب عبد الغفور الحاج سعيد، والعبد سليم الخضرا، وفوزي أحمد الدبدوب، العبد ذياب العيساوي.
وورد فيه أن عدد قتلى اليهود وجرحاهم بلغ 45 رجلاً.
وبعد هدوء الحالة في المدينة خرج نفر من شباب صفد واعتصموا بالجبال حيث شكلوا جماعة مناضلة لمقاومة الانكليز والصهيونيين، وقد أحضرت حكومة الانتداب كتيبة فرسان من قوة حدود شرق الأردن تمركزت في قرية ميرون الواقعة عند سفح جبل الجرمق على مسافة 10كم إلى الغرب من صفد.
وأخذت هذه الكتيبة تقوم بالدوريات ليل نهار في الأودية والجبال بحثاً عن هؤلاء المجاهدين، و استمرت تعمل أكثر من عام، وتمكنت من القبض على اثنين منهم فقط واختفى الباقون.
ومن أهم نتائج معركة صفد هذه أن اليهود أخذوا يهجرون المدينة تدريجيا، فبعد أن كان عددهم يتراوح بين 7 و 9 آلاف لم يبق منهم في المدينة حتى عام 1948 أكثر من ألفين.
نتائج ثورة 1929:-
بدأت الحالة في نهاية شهر آب 1929 تتجه نحو الهدوء، باسثناء عدد ضئيل من الهجمات و الحوادث
كانت حصيلة أحداث ثورة 1929 وقوع 133 قتيلاً من اليهود وجرح 239 من بينهم 198 إصاباتهم بالغة، أما العرب فقد قدموا 116 شهيداً في حين بلغ عدد جرحاهم 232 شخصاً، ودمرت القوات البريطانية عدة قرى مثل لفتة ودير ياسين و ألحقت أضراراً كبيرة بعدد آخر.
قدمت السلطات البريطانية إلى المحاكمة ما يزيد على ألف شخص أكثر من 900 منهم من العرب،....تتعلق بأحداث شهر آب 1929 وصدر الحكم بإعدام 26 شخصاً هم 25 عربياً ويهودي واحد كان شرطيا دخل على أسرة عربية مؤلفة من سبعة أفراد جميعاً.
وقد أصرت السلطات البريطانية، فيما بعد على إعدام ثلاثة من العرب هم عطا الزير، ومحمد جمجوم، وفؤاد حجازي، ونفذ الحكم فيهم يوم الثلاثاء 17 / 6 / 1930 في سجن عكا.
وأبدى الشهداء الثلاثة من رباطة الجأش والشجاعة والتفاني في سبيل الوطن ماجعلهم مخلدين في قلوب أبناء الشعب، ومادفع الشاعر الفلسطيني ابراهيم طوقان إلى تخليدهم في قصيدة الثلاثاء الحمراء.
وإلى ذلك طبقت السلطات البريطانية أحكام قانون العقوبات المشتركة على سكان المدن والقرى التي دينت بالاشتراك في الهجوم المنظم على اليهود في الخليل، وموتزا، وعرتوف، وفرضت عليهم غرامات كبيرة.
وكان المندوب السامي البريطاني تشانسلور في بلاده حين وقعت أحداث آب، وإثر عودته إلى القدس أصدر يوم 1 / 9 / 1929 بياناً أثبت فيه تحيزه للصهيونية والصهيونيين، وافترى على العرب، وكان كاذباً فيما ذكره في بيانه، ووقحاً جداً في تعابيره، وقد شجع هذا البيان الصهيوني على الادعاء بأن العرب مثلوا بجثث القتلى اليهود وشوهوها في الخليل، وتحدى العرب الصهيوني وطلبوا إجراء تحقيق في ذلك فألف المندوب السامي البريطاني لجنة من أطباء بريطانيين لفحص تلك الجثث بحضور ممثلين عن الجانبين العربي واليهودي، وفحصت اللجنة الجثث وقدمت تقريراً ذكرت فيه أنها لم تعثر على دلائل تثبت تهم وقوع التمثيل في الجثت واعتبر تقرير اللجنة الطبية نصرا سياسياً ومعنوياً للعرب الفلسطينيين.
أما بيان المندوب السامي البريطاني فقد أثار جواً من التوتر، تتالت احتجاجات العرب الفلسطينيين عليه، وعقدت مؤتمرات للرد عليه وتفنيده، ومن ذلك الاجتماع الوطني العام الذي عقده أهالي منطقة ياخا يوم 3 / 9 / 1929 واحتجوا فيه بشدة على بيان المندوب السامي وطالبوا بلجنة تحقيق من عصبة الأمم، واجتماع اللجنة التنفيذية وهي اللجنة المنبثقة من المؤتمر العربي الفلسطيني واصدارها بياناً كررت فيه مطالب الاجتماع الوطني في يافا واتخاذها مجموعة من القرارات كان من أهمها الاهتمام بالجرحى وأسر الضحايا، وبالموقوفين والدفاع عنهم.
كلفت الحكومة البريطانية لجنة برلمانية عرفت باسم لجنة شو نسبة الى رئيسها والترشو، كلفتها التحقيق في أسباب ثورة 1929 وقد وصلت اللجنة إلى فلسطين في 23 / 9 /1929 وانتهت من تقريرها في 6 / 3 / 1930 وقد عزت اللجنة السبب الرئيسي للأحداث إلى شعور العرب بالعداء والبغضاء لليهود، وهو شعور نشأ من خيبة أمانيهم السياسية والوطنية وخوفهم على مستقبلهم الاقتصادي.. بسبب الهجرة اليهودية وشراء الأراضي.
وكان المندوب السامي تشانسلور كتب إلى وزير المستعمرات البريطاني باسفيلد يوم 12 / 10 / 1929، أي في أعقاب الثورة، يقول : إن العرب لا يزالون يكنون مشاعر البغض لليهود ولا يزال فرض المقاطعة مستمراً.. ولدى العرب الآن شعور متصاعد بالعداء للحكومة تعززه دعاية بارعة يقوم بها الزعماء العرب، ولقد قيل لي لم يعد هذا الشعور مقتصراً كما كان في السابق على الأوساط السياسية، بل هو يمتد الآن ليشمل الطبقات الأدنى من الشعب، كما يمتد إلى القرويين.
وبعد هذا التقرير بأسبوع رفع تشانسلور تقريراً آخر إلى باسفيلد قال فيه :يبدو أن السكان المسلمين يقتربون من حالة اليأس بالنظر إلى تخلف الحكومة عن تلبية مطالبهم بأي شكل من الأشكال.
وهذا الشعور لايقتصر على القيادة فحسب، بل هو منتشر في صفوف الطبقات الدنياوسكان الأرياف أيضاً.
لقد كانت أحداث ثورة 1929 سبباً في زيادة إيضاح ثلاث حقائق وجلائها أمام الجماهير الفلسطينية :-
1- الحقيقة الأولى:- أن الصهيونية والوطن القومي اليهودي كانا يعتمدان،في الأصل والنهاية، على الحراب البريطانية، ومن ثم تجب محاربة بريطانيا والصهيونية معاً إذا أريد للصراع ضد الصهيونية أن يحقق أهدافه.
2- الحقيقة الثانية:-عدم قدرة زعماء الحركة الوطنية الفلسطينية على قيادة الجماهير في الصراع ضد الصهيوينية والاستعمار البريطاني في فلسطين بسبب عدم إدراكهم الحقيقة الأولى، وجهلهم للرابطة العضوية بين الصهيونية والاستعمار البريطاني.
3- الحقيقة الثالثة:- وعي الجماهير بأن الأسلوب المتبع في القتال ضد الصهيونية والاستعمار البريطاني، وهو أسلوب الاحتجاج والتظاهر غير ناجح، ولابد من اللجوء إلى استعمال السلاح وتشكيل منظمات مناضلة مقاتلة، وكانت عصابة الكف الأخضر، اول منظمة مقاتلة فلسطينية تشكلت إثر أحداث ثورة 1929.
الهوامش:-
1- هيئة الموسوعة الفلسطينية القسم العام، الجزء الأول، الطبعة الأولى 1984، ص615، 616، 617.