حكاية خصيب - صفحة: 20 عامر خصيب
يذكر أن أحد الخلفاء من بني العباس رضي الله عنهم غضب على أهل مصر. فآلى أن يولي عليهم أحقر عبيده، وأصغرهم شأنا، قصدا لإرذالهم والتنكيل بهم وكان خصيب أحقرهم إذ كان يتولى تسخين الحمام فخلع عليه، وأمره على مصر، وظنه أنه يسير فيهم سيرة سوء، ويقصدهم بالإذاية، حسبما هو المعهود ممن ولي عن غير عهد بالعز. فلما استقر خصيب بمصر، سار في أهلها أحسن سيرة. وشهر بالكرم والإيثار. فكان أقرب الخلفاء وسواهم يقصدونه، فيجزل العطاء لهم، ويعودون إلى بغداد شاكرين لما أولاهم. وأن الخليفة افتقد بعض العباسيين وغاب عنه مدة ثم أتاه، فسأله عن مغيبه، فأخبره أنه قصد خصيبا. وذكر له ما أعطاه خصيب. وكان عطاء جزيلا. فغضب الخليفة، وأمر بسمل عيني خصيب، وإخراجه من مصر إلى بغداد، وأن يطرح في أسواقها. فلما ورد الأمر بالقبض عليه حيل بينه وبين دخوله منزله وكانت بيده ياقوته عظيمة الشأن فخبأها عنده، وخاطها في ثوب له ليلا وسملت عيناه، وطرح في أسواق بغداد.
فمر به بعض الشعراء فقال له يا خصيب: إني كنت قصدتك من بغداد إلى مصر مادحا لك بقصيدة فوافقت انصرافك عنها، وأحب أن تسمعها. فقال: كيف بسماعها وأنا على ما تراه ? فقال: إنما قصدي سماعك لها. وأما العطاء فقد أعطيت الناس وأجزلت جزاك الله خيرا قال فافعل فأنشد:
أنت الخصيب وهذه مصر
فتدفقا فكلاكمـا بـحـر
فلماأتى على آخرها قال له: افتق هذه الخياطة، ففعل ذلك. فقال له: خذ الياقوتة. فأبى، فأقسم عليه أن يأخذها. فأخذها وذهب بها إلى سوق الجوهريين. فلما عرضها عليهم قالوا له إن هذه لا تصلح إلا للخليفة. فرفعوا أمرها إلى الخليفة، فأمر الخليفة بإحضار الشاعر واستفهمه عن شأن الياقوتة، فأخبره بخبرها. فتأسف على ما فعله بخصيب وأمر بمثوله بين يديه، وأجزل له العطاء، وحكمه فيما يريد. فرغب أن يعطيه هذه المنية، ففعل ذلك، وسكنها خصيب إلى أن توفي وأورثها عقبه إلى أن انقرضوا.
وكان قاضي هذه المنية أيام دخولي إليها فخر الدين النويري المالكي، وواليها شمس الدين أمير خير كريم. دخلت يوما الحمام بهذه البلدة، فرأيت الناس بها لا يستترون. فعظم ذلك علي وأتيته، فأعلمته بذلك. فأمرني ألا أبرح، وأمر بإحضار المكترين للحمامات، وكتبت عليهم العقود، أنه متى دخل أحد الحمام دون مئزر فإنهم يؤاخذون على ذلك. واشتد عليهم أعظم الاشتداد. ثم انصرفت عنه وسافرت من منية ابن خصيب إلى مدينة منلوي وهي صغيرة مبنية على مسافة ميلين من النيل وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الام وكسر الواو. وقاضيها الفقيه شرف الدين الدميري بفتح الدال المهمل وكسر الميم الشافعي. وكبارها قوم يعرفون ببني فضيل بنى أحدهم جامعا أنفق فيه صميم ماله. وبهذه المدينة إحدى عشرة معصرة للسكر - ومن عوائدهم أنهم لا يمنعون فقيرا من دخول معصرة منها فيأتي الفقير بالخبزة الحارة، فيطرحها في القدر التي يطبخ السكر فيها، ثم يخرجها، وقد امتلأت سكرا فينصرف بها. وسافرت من منلوي المذكورة إلى مدينة منفلوط وهي مدينة حسن رواؤها، مؤنق بناؤها على ضفة النيل، شهيرة البركة وضبط اسمها بفتح الميم وإسكان النون وفتح الفاء وضم الام وآخرها طاء مهمل.