الحاجة وفيقة.. أرشيف فلسطين الحي
"أرى دوما بالمنام أني أطل من نافذة منزلنا على حقول القمح والذرة والسمسم, أستيقظ سعيدة جدا, لم أنسها لحظة، هل أحد منا يتخلى عن روحه, هي روحي ومهجة فؤادي, أتمنى أن أدفن فيها".
بهذه الكلمات بدأت الحاجة وفيقة محمود أبو العطا (77عاما) والتي تنحدر من قرية "المسمية الكبيرة" تستذكر تفاصيل حياتها التي عاصرته قبل النكبة.
ورغم أنها خرجت من البلاد صغيرة السن (12 عاما تقريبا), إلا أنّ ذاكرتها لازالت تعج بتفاصيل الحياة بقرية المسمية قبل النكبة, تستذكر ما كانت ترتديه النساء في المسمية من الثوب المطرز, من نوع: المفتش والزعيم والتعاني وكماد السرار.
خيرات كثيرة
وتشتهر قرية المسمية الكبيرة بزراعة القمح والذرة البيضاء والسمسم, تقول الحاجة وفيقة: "كنا نطحن الذرة البيضاء ونضيفها إلى الطحين ونخبزها, والسمسم يعمل على شكل ضمم لها قرون مثل البازيلاء, ثم يقلب وينزل حب السمسم, ونطعم القش للبقر".
"كان الحصيد بشكل عام يكفينا سنة كاملة, نخزن القمح والذرة والسمسم من الموسم للموسم, وتشير إلى أن السمسم من قريتنا كان من أجود أنواع السمسم على مستوي فلسطين".
وتضيف "كنا نربي البقر والأغنام, ونحلبها ونأخذ منها حليبا للشرب, وكذلك ترويب الحليب بالسمن لإخراج السمنة منه, ثم نضع السمنة الناتجة بجرات مصنوعة من الفخار".
وحسب الحاجة وفيقة، المفتول هو أكثر الأكلات الشعبية المشهورة في المسمية, "كنا في العزائم والولائم نذبح الذبائح, ونطهو المفتول, فهو طعام الأفراح والأتراح".
رمضان والعيد
وتعود الحاجة وفيقة بذاكرتها سنوات طويلة للوراء حيث الحياة في شهر رمضان في "المسمية الكبيرة", وبابتسامة أمل وألم قالت: "ما أجمل رمضان في المسمية، قبل حلول الشهر المبارك نبدأ بتجهيز قمر الدين واللبن والتمر والمخلات, ونجهز أنفسنا لاستقبال الضيف الكريم".
شهادة تسجيل
تتذكر الحاجة وفيقة أغاني وأهازيج المسحراتي في قريتها لدى إيقاظ الناس للسحور، ومنها: يا سامعين الصوت صلوا على النبي.. أبو حلاوة يلف دار بدار.. عبد القادر بالقدرة.. في يده سبحة خضرة.. يلا نزوره قبل الموت.. لا إله إلا الله..
تقول: "كنا نعطي المسحراتي سحوره كل ليلة, كنا نسعد كثيرا عند سماع طبلته وأهازيجه".
وفي يوم العيد تجلس النسوة في حلقات وينشدن الأغاني, ويبدأ الصغار باللعب حولهم، تستذكر الحاجة وفيقة منها: يا بنات العيدي العيدي.. كندرته حمرا وطربوشه جديدي..
مدرسة القرية
وعن بعض تفاصيل الحياة هناك، أشارت الحاجة السبعينية إلى أنه "كان في قريتنا مدرسة يدرس بها الطلاب من قريتنا وقرى مجاورة مثل تل الترمس وتل الصافي وقزازة وجليلة وخلدة, كانوا يأتون على الحمير للدراسة".
كما يوجد عيادة بالقرية لعلاج المرضى, كان العلاج مجانيا. وتصف الحاجة وفيقة منازل الناس بالقرية, تقول: كلها منازل مبنية من الطين والكلس, أرضية البيت ممدودة بالطين, السراج هو وسيلة الإنارة الوحيدة, نستخدم الكاز في إشعاله".
ترابط اجتماعي
وتبين أن "التآلف كان كبيرا جدا بين الناس, يشارك أهل القرية بعضهم بعضا بالأفراح والأتراح", وتتابع "كان الناس يحدون على الميت عاما كاملا, لا يتزوجون ولا يقيمون الأفراح في جميع أرجاء القرية" حسب ما قالت.
الحاجة وفيقة: سنرجع يوما إلى المسمية
وعن طبيعة الأعراس في قرية المسمية تقول: "تقام الأفراح, وتدق الطبول, وينصب السامر, وتبدأ الدحية من قبل 7 أيام, وتشارك جميع نساء القرية في إعداد الطعام للعرس".
كان العريس وأهله يأتون إلى بيت العروس والعربات المزينة تجرها الخيول, وفرق الدبكة تؤدي وصلت جميلة, بالإضافة إلى قرع الطبول, كأننا في مهرجان, تقول الحاجة وفيقة.
ومن أهازيج الأفراح في تلك الحقبة: على دلعونا وعلى دلعونا.. ريح الشمالي غير اللونا.. على دلعونا وما دلعتني.. وأربع قناني عطر ما عطرتني.. جفرا ياهالربع جفرة جفروية.. ضرب الخناجر ولا الندرفية..
مواقف لا تنسى
وفي موقف لا ينسى، قالت الحاجة وفيقة إن أخاها عبد الله استشهد غدرا على يد الإنجليز في البلاد. وتتابع والدموع تملأ عينيها أن أخاها كان يعمل مساعد سائق شاحنة إنجليزي, وذات يوم طلب منه السائق الإنجليزي النزول فنزل ودهسه عمدا حتى الموت.
ولم تنس الحاجة الطاعنة في السن يوم هجم الإنجليز على بيتها برفقة كلاب بوليسية, بحثا عن والدها, وذلك بعد عملية فدائية قام بها المواطنان عبد الهادي أبو نعمة ويوسف مهنا, "وكانت أختي الكبيرة يومها حردانة عنا في البيت, وأبي بمستشفى أبو كبير بمدينة يافا".
وعن سبب الهجوم والتفتيش تقول الحاجة: "اعتقد الإنجليز أن والدي من الثوار ومن منفذي الهجوم, وعندما علموا أنه في المستشفى ذهبوا هناك, وقاموا بتجريده من ملابسه بحثا عن جروح, لأن منفذي العملية أصيبا في الحادث".
"ومن شده الخوف خلال التفتيش كانت أختي الكبيرة تحملني, قلت لها: ضعيني في بطنك" تقول الحاجة المكلومة.
وتكمل "ذهب الإنجليز إلي بيت عبد الهادي أبو نعمة بحثا عنه, وأثناء التفتيش قام جندي إنجليزي بدفع زوجته عن الدرج, فوقعت وانكسرت رقبتها وتوفيت إثر ذلك". كان منفذي العملية, مختبئين بمكان ما, توفيا من الإصابة التي أصيبا بها بفعل نزيف الدم, وفق الحاجة وفيقة.
أمل بالعودة
وتشير الحاجة إلى أنه "عندما سمعنا خبر مجزرة دير ياسين قمنا بحفر خنادق أمام أبواب بيوتنا حتى لا تستطيع المدرعات العبور إلينا".
وتستذكر من بين الأغاني التي كان تنشدها وحدات الهاغانا الصهيونية "احنا الهاغانا وطنا هانا"، كما تتذكر أنه "كان على مقربة منا معسكر إنجليزي لتدريب الفتيات اليهوديات على القتال".
وعن سر احتفاظها ببعض "القواشين" والأوراق الثبوتية التي يزيد عمرها عن 65 من السنين, تقول: "سنرجع يوما إلى المسمية".
في نهاية حديثها، بكت الحاجة بكاء شديدا وهي تقول "نفسي أرجع للمسمية, نفسي أشوفها, لو يوم واحد وأموت وأدفن فيها".
المصدر: وكالة صفا