2/7/2019
سارة الدجاني-القدس
تزخر ذاكرة المعلمة عليا نسيبة (92 عاما) بذكريات ستة عقود أمضتها في جهاز التعليم بمدينة القدس، عاشت خلالها تتابع النكبات على المدينة، فآثرت أن تكون ضمن حماة المنهاج المدرسي من التهويد بعد الاحتلال عام 1967، واضطلعت بـ"تربية جيل من الفتيات القويات العاشقات لوطنهن ولمدينتهن".
ولدى زيارتها في بيتها الواقع على بعد عشرات الأمتار من أسوار المسجد الأقصى في حي واد الجوز المقدسي، بدا تعب العقود الست التي أمضتها في مجال التربية والتعليم واضحا عليها، لكنها لا تكف عن التبسم وهي تسترجع مسيرتها طالبة ثم معلمة ثم مديرة مدرسة.
ولدت عليا إبراهيم نسيبة عام 1927 لعائلة مقدسية عريقة، ومنذ نعومة أظفارها مكّنها شغفها بالتعلم والتعليم من الالتحاق بالمدرسة المأمونية طالبة رسمية، وهي لم تتجاوز الرابعة من عمرها بعد.
نبوغ مبكر
سبقت عليا بنات جيلها ووجدت نفسها بين طالبات يكبرنها بعدة سنوات في الكلية الإنجليزية بالقدس الغربية، عندما كانت فلسطين ترزح تحت الانتداب البريطاني في ثلاثينيات القرن الماضي، وتخرجت عام 1940 بعد أن نالت الثانوية العامة "المترك"، وهي شهادة لم يكن يسمح إلا للمتفوقين بخوض امتحانها.
تتابع حديثها قائلة "أكملت بعدها عامين آخرين في قسم التربية والتعليم التابع للكلية حتى حصلت على شهادة تسمح لي بأن أكون معلمة في المدارس عندما كان عمري 18 عاما، لكنني لم أجد شاغرا في القدس بعد تخرجي، وعملت في إحدى مدارس مدينة الخليل عام 1942".
سرعان ما عادت نسيبة إلى مدرسة المأمونية التي درست فيها المرحلة الابتدائية، وهناك درّست مادتي اللغة الإنجليزية والرياضيات لمدة خمس سنوات، حتى حلّت نكبة فلسطين عام 1948.
وعلى وقع مجازر ارتكبتها العصابات الصهيونية، وجدت نسيبة نفسها مع آلاف الفلسطينيين في سوريا إبان النكبة، ومكثت هناك ثلاث سنوات قبل أن تتمكن عائلتها من العودة إلى القدس عندما كانت تحت الحكم الأردني الذي استمر حتى احتلال المدينة عام 1967.
وعن تلك المرحلة، تقول "كانت فترة صعبة مليئة بالضياع، لم أعمل في ذلك الوقت لمدة عامين كاملين، وفي كل يوم كنّا نقول سنعود غدا إلى القدس".
صورة تعود إلى عام 1966 تضم الملك الحسين ملك الأردن مع ثلاث طالبات من مدرسة بنات رام الله الثانوية ( مواقع تواصل)
مسيرة
بعد العودة إلى القدس، سافرت نسيبة مع عائلتها إلى الكويت وعملت في مدارسها، ثم عادت إلى القدس ومدارس الخليل، قبل أن يستقر بها الحال معلمة في مدرستها الأم (المأمونية) ما بين عامي 1952 و1960، إلى أن أصبحت مديرة للمدرسة وهي لم تتجاوز الثلاثين من عمرها.
بعد احتلال القدس، تصدت نسيبة وزملاؤها التربويون في القدس لمحاولة المحتل تهويد المنهاج المدرسي، مما اضطرها للإضراب عن العمل والعودة إلى مدرسة المأمونية.
لم يرق الأمر لسلطات الاحتلال، فبدأت حينئذ بطلب مقابلتها ومن ثم بدأت رسائل التهديد، لكن عليا تقول "لم ألب أي استدعاء وصلني منهم، ولم يستطيعوا رؤية وجهي على مدار السنين".
تطور الصراع مع الاحتلال إلى أن شلّ إضراب شامل المدارس إذ لم يلتحق بها المعلمون طوال ثلاث سنوات كاملة، بعد أن قرر الاحتلال حذف المضامين الوطنية من المنهاج، وهو ما جعل البحث عن بدائل للمدارس الحكومية أمرا ملحا.
أدركت نسيبة خطورة تلك المرحلة فاتفقت مع إحدى قريباتها المعلمات على العمل مع "جمعية الفتاة اللاجئة"، لفتح مدرسة تستوعب أكبر عددٍ من الطالبات وإخراجهن من المدارس الواقعة تحت سيطرة الاحتلال، وأصبحت الفكرة واقعا عام 1970، بعد أن قدّم الشيخ سعد الدين العلمي بيته ليصبح أول مدرسة تمتلكها الجمعية.
لم تتوقف نسيبة عند مدرسة الفتاة اللاجئة، فبدأت العمل بجد لفتح مدرسة أخرى في حي بيت حنينا شمال القدس لاستيعاب أعدادٍ أكبر من الطالبات، وبجهودها الفردية.
تقول نسيبة "لا أذكر أن أي معلمة قمت بالتواصل معها رفضت العمل معنا، أو قامت حتى بالسؤال عن قيمة الراتب، كان الجميع يرغب في المساعدة رغم الأوضاع المادية الصعبة".
وبالتزامن مع افتتاح مدرسة الفتاة اللاجئة عام 1970، افتتحت المدرسة النظامية للبنات، وكانت الأولوية فيها تسجيل الطالبات القادمات من المدارس التي تعلم المنهاج الإسرائيلي.
عليا نسيبة في مدرسة النظامية في بداية التسعينيات (مواقع تواصل)
رسالة
تكفلت عليا في تلك الفترة بدفع الكثير من نفقات المدرسة من أموالها الشخصية، لتغطية إيجار المبنى وتوفير الأدراج وكافة المستلزمات، وكان همها الأول والأخير إيجاد مدارس بمنهاج فلسطيني خالص ودون أي سيطرة من الاحتلال.
تقول عن تلك الأيام "كنت أول الواصلين وآخر المغادرين من المدرسة، كنت أشعر بخوفٍ شديدٍ على الطالبات، لم أسمح بالضرب أبدا داخل المدرسة لأي سبب كان، وكنت أقف كل يوم على ممر المشاة لمساعدة الطالبات الصغيرات في العبور بأمان".
بدأت مدرسة النظامية بالتوسع أكثر بعد أن ضمتها نسيبة تحت جناح دائرة الأوقاف الإسلامية، كي تمنع الاحتلال من التدخل في شؤونها أو فرض أوامره عليها. وكانت أول مدرسة تعلّم مادة الحاسوب في مدينة القدس عام 1985، وكانت طالبات المدارس الأخرى يأتين إليها للتعلم على أجهزتها.
استمرت عليا نسيبة في إدارة مدرسة النظامية منذ عام 1970 وحتى 2005، حيث قدمت استقالتها بعد أن بلغت الـ78 من عمرها.
تقول "كنت أحرص على التجول كل يوم في كل أرجاء المدرسة وبين الصفوف، وحين شعرت أنني لم أعد قادرة على القيام بهذه المهام يوميا، آثرت أن أترك الإدارة وأستريح من مشواري الطويل".
اختيرت المربية عليا نسيبة شخصية القدس عام 2011، وهي تقول دائما "بذلت الغالي والنفيس لتحقيق حلمي وهو تأسيس جيل من الفتيات القويات المحبات لوطنهن وللقدس".
المصدر : الجزيرة