عاطف دغلس-نابلس
17/5/2012
رغم طول السنين لاتزال الحاجة مريم غوراني "أم العبد" من قرية الفارعة شمال الضفة الغربية تتذكر قصة لجوء ونكبة عائلتها بكل تفاصيلها الأليمة بعد أن هجروا قسرا من قرية "التينة" قضاء الرملة جنوب فلسطين المحتلة على يد العصابات الصهيونية.
ولعلّ ما ميّز رواية الحاجة التسعينية أم العبد مواكبتها للثورة الفلسطينية إبان النكبة، وشهادتها الحيّة على مقاومة والدها الشيخ يوسف أبو صالح ومقارعته للإنجليز والعصابات الصهيونية.
ولم تغب عن بالها أدقّ التفاصيل رغم الأمراض والأوجاع التي تُلمّ بها، وبكائها حينا وصمتها أحيانا كثيرة خلال استذكارها لما جرى.
شرارة المقاومة
فقد أطلق والدها الشيخ يوسف أبو صالح -كما كان يُعرف آنذاك- شرارة المقاومة ضد المحتلين الإنجليز واليهود في قرية "إذنّبة" القريبة من قريته "التينة"والتي كان اليهود حينها يقيمون على أراضيها "الكبانية" أو مستعمرتهم الاستيطانية.
وتقول أم العبد إن والدها شكّل أواخر ثلاثينيات القرن الماضي مجموعة ثورية من الشبان لمقاومة اليهود الذين كانوا يُعدّون للسيطرة على قرى الفلسطينيين ومدنهم تمهيدا لطردهم وتهجيرهم.
وأضافت أن والدها كان يدرك خطورة مخططات الإنجليز الذين كانوا يسعون لإحلال اليهود مكان الفلسطينيين "وتسليمهم مقاليد الحكم"، وأن هذا ظهر جليا بتدريب اليهود ودعمهم بتشكيل "عصابات" وتزويدهم بأحدث الوسائل القتالية.
وكانت "عملية الحافلة" بداية العمليات الثورية التي نفذها والدها، حيث أعد خطة لتفجير حافلة كانت تستقلها مجموعات من اليهود الذين يأتون لزيارة المستوطنين في الكُبانية "المستعمرة" بقرية "إذنبة" كل يوم سبت، ورصد تحركاتهم لأيام عدة، إلى أن تمكّن فعلا من زرع أحد الألغام في طريق عودتهم.
وأضافت "تفجّرت الحافلة ولكن دورية الحماية المرافقة لها لم تتأذ "ورأيت الإنجليز واليهود يجمعون الأشلاء".
وتابعت أن هذه كانت أولى الرسائل التي وجهها والدها والثوار الفلسطينيون لليهود لإرهابهم ووقف أطماعهم بالسيطرة على الأرض سيما وأنهم كانوا يعيشون مرحلة "الضعف" آنذاك.
بعدها بدأت قصة المطاردة للشيخ يوسف، فقد اقتفت سلطات الانتداب البريطاني التي لم تكن تألُ جهدا في خدمة اليهود أثره مرارا، لكنها لم تفلح بإلقاء القبض عليه.
وأخفت الحاجة أم العبد بندقية والدها خلال إحدى عمليات التفتيش المباغتة للإنجليز، وعندما لم يعثروا عليها جنّ جنونهم وأصدروا قرارا بهدم المنزل، الذي قاموا بتفجيره لاحقا بلغم أرضي بعد طردهم منه.
رفيق العذاب
وعلى غير العادة في ذلك الحين، لم تتزوج أم العبد من ابن عمها أو أحد أقاربها، وتزوجت من عبد الخالق الذي يكبرها بخمسة وعشرين عاما ورفيق درب والدها في النضال وأكثرهم قربا منه، وتقول "كان والدي يحبه كثيرا ويأمنه على أسراره".
لكنّ هذا الزواج أضاف معاناة أخرى لها، فلم يعد خوفها على والدها فحسب، بل حملت همّ زوجها أيضا.
وتكبدت أم العبد وعائلتها وأهالي قريتها الكثير من المعاناة عقب أي عملية كان يُنفذها والدها والثوار، فلم يكن أي منزل يسلم من الاقتحام والتفتيش على أيدي الإنجليز "والعصابات الصهيونية" التي كانت تعتقل وتعذّب المواطنين محاولة بذلك رسم أولى خطوات التهجير.
ألم التهجير
وأكدت الحاجة أن اليهود كانوا يتلقون دعما غير محدود من بريطانيا، وأن هذا ما شجعهم لمهاجمة قرى بأكملها وتنفيذ حرب إبادة ضدها "كما حصل في قرية ياسين".
وشكّل هذا الطرد بداية المعاناة لحكايتها الأخرى، حيث هُجّرت وعائلتها من قريتهم "التينة" إلى قريتي مغلّس وعجّور المجاورتين اللتين مكثت بهما فترة من الزمن في انتظار العودة إلى قريتها من جديد.
لكنّ هذه الأيام طالت لتمتد لأكثر من أربعة وستين عاما، تنقلت خلالها الحاجّة الفلسطينية من بلد لآخر إلى أن استقر بها الحال في قرية الفارعة شمالا.
ولم تقف قصة اللجوء هنا، فقد رحلت عن القرية المهجّرة إليها "الفارعة" عام 1967 إبان نكسة الفلسطينيين بالضفة الغربية إلى الأردن.
وزادت معاناة "أم العبد" بعد أن استشهد زوجها وهو في طريق عودته من الأردن على الحدود، ولم تعرف بذلك إلا بعد سنة من استشهاده.
وتحاول أم العبد مواساة نفسها وتصبيرها والتخفيف من آلامها بسرد قصتها لأحفادها الذين يتحلقون حولها بين الفينة والأخرى للاستماع إليها.
المصدر : الجزيرة