ياسر قدورة - صيدا
لم أحتج لكثير من الوقت لترتيب زيارة للشيخ محمود (محمد عارف ) الجشي في مدينة صيدا .اتصلت به هاتفيا لترتيب موعد، فقال : يمكنك الحضور الآن . توجهت مباشرة إلى منزل الشيخ في منطقة عبرا فوجدته بالانتظار وكانت إحدى بناته حاضرة وكذلك ابنه محمد . ولم نحتج لفترة تعارف فالشيخ محمود هو من عقد قراني عام 2000 كما كان هو نفسه من عقد قران والد زوجتي عام 1975 ، ولكننا احتجنا للتعريف بالمشروع ( هوية ) عبر شرح موجز مرفقا بكتيب تعريفي عن المؤسسة، فتقبل الشيخ الفكرة ورحب بها.
كانت الانطلاقة مع شجرة العائلة، ابتداء من الجد محمد ثم ابنه محمد عارف – اسم مركب – والد الشيخ محمود، ولمحمد عارف ثلاثة أبناء : محمود ،أحمد وعبد الرحيم وكلهم من مواليد سحماتا ، وابنتان هما وهيبة ورحيبة. خضنا في تفاصيل الأسماء للأبناء والأحفاد بمساعدة من ابنة الشيخ وابنه، مع بعض الصعوبة في ذكر كل الأسماء لأن التواجد الأكبر للعائلة هو في سوريا وليس في لبنان. لهذا أحضر لي الشيخ محمود من غرفة مجاورة رسماً كبيراً لشجرة عائلة الجشي يتضمن فروع عائلة الجشي في لبنان وسوريا ، إلا أن الشجرة تضمنت أسماء الذكور فقط دون الإناث.
يحدثني الشيخ عن نفسه قائلا : (كنت أنا أصغر مشايخ آل الجشي في سحماتا ، كان هناك الشيخ شحادة الجشي في البلد ولكن أنا كنت إماماً، انتقلت من سحماتا إلى الغابسية إماماً عام ( 1946 – 1947 ) ثم عينتني الأوقاف أواخر عام 1947 في البصة ، وكنت أقوم بمهام المأذونية في سحماتا . كنا نعقد القران ونسجله في المحكمة في عكا عند القاضي أسعد قدورة وكان عندنا رئيس قلم صفد اسمه سمير ومفتي القدس سعد الدين العلمي ، وقد زرته بعد ما خرجنا من فلسطين في القدس ، زرته وأحضرت راتبي من الأوقاف وكان الملك عبد الله في القدس في ذلك الوقت .
الشيخ شحادة الجشي والشيخ يونس الجشي كانا يمارسان مهامهما داخل البلد ، قبل النكبة بفترة كان الشيخ شحادة في الصفصاف ولكنه عاد إلى سحماتا . أما الشيخ يونس فكان في البلد وكذلك كان أبوه الشيخ يحيى الجشي في البلد، وبقي الشيخ يونس إماما فترة من الزمن .
كان الجامع قريبا من دارنا ، تقريبا نخرج من الباب وندخل إلى الجامع ، وكان المكان عندنا شبيها بالمضافة ، إذا جاء القائممقام ينزل عندنا ، كذلك الضباط والدرك والعسكر إما عند المختار وإما عند الشيخ الجشي، وكان عمري 17 – 18 سنة ) .
أما عن العلاقة الاجتماعية بين المسلمين والمسيحيين في سحماتا فيصفها بأنها من أروع ما يكون : ( المسيحيون أيام رمضان ما حدا بطلع من الدار وبطلع معو علبة دخان ، يوم العيد كلهم مع بعض يدوروا على البيوت بيت بيت، و آخر واحد كانوا يتغدوا عنده ، ونفس الشي المسلمين بمناسبات المسيحيين، كنا نزورهم حتى في الكنيسة، أنا بلفتي ( عمامتي ) وجبّتي كنت أدخل عليهم إلى الكنيسة ) .
لم يكن الشيخ في سحماتا ولا حتى في البصة يوم النكبة لأنه كان قد غادر قبل فترة وجيزة إلى بيروت ، وكانت زوجته هناك أيضاً. عندما خرج إخوته توجهوا إلى سوريا فلحق بهم واستقر معهم ولكنه عاد إلى لبنان فيما بعد واستقر فيه في العام 1949 تقريبا. لم يخرج الشيخ محمود معه شيئا من فلسطين لأنه كما ذكرنا كان خارجها أصلا، باستثناء جواز سفر فلسطيني صادر عن السلطات البريطانية.
في هذا الجواز سجل الشيخ محمود من مواليد 1917 ، وله حكاية طويلة:
(استخرج لي المختار في سحماتا الأوراق المطلوبة حينها لاستخراج الجواز وقدمتها وبعد اسبوعين أتاني ضابطان : مكارثي وحسن فارس وأحضروا لي الجواز إلى البيت . حضرت إلى لبنان وبقي جواز السفر معي ولكنني في باقي الأوراق الثبوتية مسجل من مواليد 1925 .
كنت أعمل في الأنروا وسافرت إلى أبو ظبي ، وكنت يوما عند الدكتور عوض قدورة، وعيادته في نفس المبنى الذي توجد فيه المحكمة الشرعية . دخلت إلى المحكمة، وعندما دخلت سألني أحدهم : من أين فضيلة الشيخ ؟
قلت له : من فلسطين .
قال : أعرف ولكن من أين ؟
قلت له : من لبنان .
سألني : تشتغل عنا ؟
قلت له : شو بدي أشتغل ؟
قال : مأذون شرعي .
وكان معي قرار من رئيس المحكمة في لبنان للمأذونية ( كان في جيبي ) ، دخلنا على الشيخ أحمد عبد العزيز وكان رئيس قضاء فقال له الرجل : مولانا ، بدنا مأذون شرعي والله بعث لنا هذا الشيخ .
سألني : أتعرف الشيخ حسن خالد ؟
قلت له : اتصل بالشيخ حسن خالد وقل له عندي الشيخ محمود الجشي .
نظر إلي وقال للرجل خذه إلى المدير. ذهبنا إليه وأمر بتعييني فذهبت مباشرة إلى المستشفى لإجراء الفحوصات المطلوبة لأخذ الوظيفة .. في نفس اليوم ذهبت مع الدكتور عوض واستلمنا نتائج الفحوصات وعدنا إلى المحكمة فقال لنا المدير عليك أن تنتظر 20 يوما لاستلام الوظيفة . وربما كانت هذه أسرع عملية توظيف.
لم أكن لانتظر هذه المدة فرجعت إلى لبنان ، اتصلت بمدير المنطقة في الأنروا وقلت له : معي جواز سفر فلسطيني مواليد 1917 ووثيقة لبنانية مواليد 1925 ، إذا قبلوا الجواز الفلسطيني فعمري 60 سنة أتقاعد وأخرج من الأنروا .. شو رأيك ؟ قال : ( هات الجوازين ). أعطيته اياهما وفي اليوم التالي اتصل بي وقال :لقد اعتمدوا الجواز الفلسطيني، وهكذا تقاعدت وسافرت إلى الامارات ).
في خضم الذكريات عن سحماتا يتحسر الشيخ أكثر ما يتحسر على مجموعة كتبه التي فقدها في البلد وتحديدا كتاب ( شرح الأحوال الشخصية ) الذي كان قد استعاره من الشيخ سعد الدين في محكمة عكا ، وبعد استعارة الكتاب اشترى الشيخ مجموعة من الدفاتر والأقلام وبدأ بنسخ الكتاب وكان مجلداً كبيراً . بعدها صار الشيخ سعد الدين يطالب ملحا بإعادة الكتاب فأرسل له قاضيا يسأله عن الكتاب ، فلما رأى هذا القاضي ما يفعله الشيخ محمود من نسخ للكتاب اجتهد وقال له : خليه عندك.
قبل نهاية اللقاء، زودنا الشيخ محمود بعنوان أخيه عبد الرحيم ورقم هاتفه في الشام ثم لبس عمامته والتقطنا له مجموعة من الصور ترون بعضا منها في هذا الموقع .