أخي سمير، رحمة الله عليه، كان أذكى طالب في الكلية الاسكتلندية في مدينتنا المحبوبة صفد فلم يسبقه اي طالب آخر طيلة سنوات الدراسة الأربع. ثم كان الأول في امتحان الماتريكوليشن (مثل البكالوريا) بين جميع ابناء فلسطين. وعندما عُيّن معلما في المدرسة الثانوية في مدينة حيفا عام 1932 كان عمره سبعة عشر عاما فحسب. فلا عجب ان كان أبوانا معتزين بنجاحه الباهر. كنا يومئذ نقيم في مدينة عكا وكان سمير يسافر الى المدرسة في حيفا كل يوم من ايام العمل. ولم يعجبه عمل التعليم، رغم شرف التعليم، وذلك بسبب طموحه، فقرر ان يدرس القانون في مدينة القدس.
ونجح نجاحا باهراً في امتحان المحاماة في القدس وفي امتحان المحاماة البريطاني (بالمراسلة) وصار خبيراً في القانون الدولي وأيضاً في الفقه الاسلامي. ووالدتنا، رحمة الله عليها، أرادت ان تهديه هدية بمناسبة نجاحه الفائق في امتحان المحامين، وتفوّقه على جميع اقرانه منهم. فقامت بزيارة أفخم متجر في فلسطين في ذلك الزمان، وكان اسمه متجر 'سبني' Spinny في مدينة حيفا. ولم يعجبها العجب، كما يقولون، لان كل ما شاهدت في ذلك المتجر الفخم، رأته دون ما يستحق ابنها البطل، ولا يليق بمكانته. وطلبت من صاحب المتجر، مستر سبني، ان يرشدها الى هدية فذة لا يوجد لها مثيل... فعرض عليها ما كان عنده من قمصان، وربطات عنق، وصدريات... فرأت ان تختار صدرية صوفية جميلة ودافئة، خاصة لانها كانت تشفق على ابنها من برد القدس... وقلبت ما في المتجر من الصدريات، فلم تعجبها اي منها، وقالت لمستر سبني 'اني استطيع ان احيك خيرا من اي من هذه المجموعة!' فاقترح عليها ان تشتري الخيوط الصوفية وتحيك الصدرية التي تختار شكلها. فأعجبتها الفكرة وعــــرض عليها ما كان لديه من الخيوط الصوفية المختلفة الاشكال والالوان، فلم يعجبها اي منها، فأطلعها على عينات من خيوط صوفية في غاية الجودة والنقاء والنعومة، وذات جمال رائع، مصنوعة في المانيا، وقال انه لا يملك منها شيئا في المعرض، لانها غالية الثمن جدا، وليس لديه منها سوى تلك العيّنات، يستجلب منها الكمية التي يطلبها المشتري فحسب، خشية ان تكسد اذا اشترى منها كمية قد يحجم معظم الناس عن شرائها لغلاء ثمنها. فاختارت الوالدة أجودها ودفعت له نصف الثمن رهينة... وانتظرت وصول الخيوط من المانيا... وطال انتظارها... وراحت من عكا تكلم مستر سبني بالتلفون، بين حين وآخر، تسأل عن موعد وصول تلك الخيوط... فلم تصل الا بعد نيّف وشهرين. وكانت فرحتها عظيمة بوصولها... فراحت تحيكها على النحو الذي اختارته... حتى ابدعت صدرية في اقصى الجودة وغاية الجمال، اعجبت كل من رآها... وكان اخي الذي لبسها، أول المعجبين بها، حريصاً اشد الحرص على نظافتها، لا يكثر من لبسها، بل لا يلبسها الا في المناسبات الهامة.
في تلك الايام كنت أقيم في القدس مع اخي سمير، بعد رجوعي من القاهرة، وكنت ابحث عن عمل، فاستدعاني اخي للاقامة معه ليبحث لي عن عمل معه في القدس، وأقمت في غرفة في الشقة السكنية التي اكتراها في حي الطالبية الأنيق.
وفي احد ايام الشتاء الباردة تلقى اخي سمير دعوة من احد وجهاء القدس (المرحوم روحي الخطيب من آل الخطيب الكرام) الى وليمة عشاء. وأصرّ المضيف عليّ (أحسن الله ثوابه) ان ألبي الدعوة مع اخي، فلبسنا خير ما لدينا من الثياب، ولبس اخي سمير صدريته الرائعة... ولبيّنا الدعوة، فنعمنا بأمسية من أسعد الأمسيات في قدسنا العربي الشريف الحبيب... قبل ان تدنّس ارضه! وعدنا الى المسكن في ســـيارة اخي.. فلما أودع الســــيارة في مربضها ودخلت وإياه باب العمارة، رأينا حارس العمارة جالساً تحت الدرج، وهو يرتج... بل يرتـــعد جسمه من شدة البرد... فأقبل عليه اخي سمــــير يسأله لماذا يرتجف جسمه، قال 'اني أقوم بواجب الحراسة يا سيدي'. قال 'اما تخشى الأذى على صحتك في هذا البرد القاسي'؟ قال 'وما حيلتي يا سيدي... لا استطيع ان اترك الحراسة ولا املك دثاراً يحميني من البرد'.
فما راعني الا ان رأيت اخي سمير ينزع عن جسمه صدريته الرائعة ويلبسها ذلك الحارس المسكين.
وهمست الى اخي باللغة الانكليزية معترضا عليه... وذكّرته بأن الوالدة قد تغضب اذا علمت بانه فرط هكذا بتلك الصدرية التي كلفتها ثمناً باهظاً يكاد يوازي ثقلها، وصرفت اكثر من شهرين تنتظر وصول خيوطها الممتازة من المانيا، وصرفت اياما عديدة وهي تحيكها بيديها... وباهت بها الامهات... وقلت له 'دعني اعطيه صدريتي... واحتفظ بصدرية الوالدة'... فلم يقبل... وأسرعنا الى دفء البيت وهو يقول لي: ألم تسمع قول الله تعالى في كتابه العزيز 'لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون' صدق الله العظيم. ولعلك تعلم مقدار حبي لهذه الصدرية. فلا تعجب اذا أنفقتها طلباً للبر من الله الكريم'.
ومرت الأيام، وجاءت والدتنا، رحمها الله، لتزورنا في القدس وتطمئن علينا. وفرحنا بقدومها. خاصة واننا نعمنا بأكل طبخاتها الشهية الرائعة. فقد كانت، رحمها الله، من اشهر الطاهيات. وعندما تفقدت بعنايتها ملابسنا لم تر الصدرية الشهيرة... بل رأت صدرية اخرى عادية مصنوعة بخيوط صوفية خشنة. فلما سألت أخي سمير عن الصدرية الرائعة، لم يزد على ان قال 'راحت في سبيل الله'. ولم تعلّق الوالدة بكلمة واحدة على ما سمعت منه. ولكنها حزنت. وبعد ان ذهب سمير الى عمله، دخلت الى الشرفة لأجلس الى جانب الوالدة فرأيتها تسرع الى تجفيف دموعها، فذعرت وسألتها ان كانت تشكو من الم... فقالت لي مطمئنة 'لا... والحمد لله على العافية'. فلما ألححت عليها مستفسراً عن سبب حزنها قالت 'ما كنت أتوقع من سمير أن يفرّط بصدريته التي أهديتها اليه'. فأخبرتها كيف أنه أهداها لذلك الحارس الفقير... وأخبرتها باعتراضي على عمله وبما ردّ على اعتراضي... وذكره لتلك الآية الكريمة 'لن تنالوا البر حتى تنفقوا مما تحبون'. وما قال لي 'انك تعلم مقدار حبي لهذه الجرزاية، فلا تعجب... اذا أنفقتها طلباً للبر من الله الكريم'... واذا بي أرى حزن الوالدة قد زال وفرحت وابتسمت، وحمدت الله تعالى وشكرته... ودعت لأخي سمير ولي بأطيب الدعوات.
منير شماء
كاتب فلسطيني
عن (القدس العربي)
|