يا لها من امرأة قوية بكل الصفات، تحتمل مالا يحتمل، كالزيتونة صابرة، مثمرة للريح تتصدى، وتثمر رغم الجفاف. إمرأة لا تعرف الكلل أو الملل، مطلوب منها أن تدمع بابتسامة، وأن تشقى من المهد إلى اللحد، وأن تنوب عن الأب والأخ في غيابهما، وأن تقدم الفداء تلو الفداء دون توقفٍ أبداً إنّها الأم الفلسطينيّة. ومن هؤلاء الحاجّة فطوم حسنة "أم حسين زيدان"، صاحبة الـ 98 عاماً. ولدت عام 1913م في قرية الصمود والبطولة طيطبا، حيث عاشت وترعرعت في عائلة ملتزمة دينياً، ومحافظةً على تقاليدها الفلسطينيّة الأصيلة.
مرارةُ النّكبة:
تقول الحاجّة أم حسين زيدان، كان عام 1948م عاماً غير عادياً مرّ على أهل فلسطين الحبيبة، ففي ليلة صافية الجو خضراء العشب نقيّة، فقد البدر بسبب ذئب غاشم مكار تمسكن في بداية الأمر حتى تمكن، ومن ثمّ استغل الفرصة وانقض على فريسته لينهش لحمها ويكسر عظمها ولم يبق لها أيّ أثرٍ وكل ذلك بسبب إدعاءٍ كاذبٍ أنّ هذه الفريسة هي ملكه، ويستطيع أنْ يفعل بها ما يشاء دون رقيبٍ أو حسيب. إنّه العدو الصهيوني الغاصب الذي اغتصب أرضنا ودمر بيوتنا وشردنا في أصقاع الأرض، ومزقنا كل ممزق آخذاً منّا أغلى شيءٍ في حياتنا إنّها "فلسطين".
طيطبا، وحديث ذو شجون:
وعن قرية طيبطا وحياتها تقول الحاجّة أم حسين، في الصباح يخرج الرجل لمزرعته لكي يفلح ويزرع ويأتي بالخير لبيته وعياله لكي تستمر الحياة حيث كان العمل يبدأ بعد صلاة الفجر مباشرةً، وكانت النّسوة تحضر الطعام والشّراب وتلفه وتأتي به لرب العائلة في المزرعة لكي يتغداه ولا يعود الرجل لبيته إلاّ بعد المغرب ليجد أنَّ أهل البيت قد اعدوا له الطعام. ومن النّسوة من يعملنَ مع أزواجهنَّ في الزراعة. وكنّا نعتمد على خيرات الأرض في مونة البيت، أما الزائد فكان الرجال يضعونه في صناديق وينزل رب المنزل حاملاً هذه الزيادة على بغلته ليبيعها في المدينة. ومن الأمور التي تميزت بها طيطبا العرس الفلسطيني، وقبله تقتنص أم العريس لابنها فتاةً معينة من فتيات القرية دون أن يراها وتخطبها له، ومن ثمّ يأتي الرجال ويتفقوا على المقدم والمؤخر مع والد العروس، ويتمّ الاتفاق على موعد العرس حيث تبدأ الاحتفالات قبل أسبوع من موعده، تستنفر نساء العائلتين ويبدأ الطبخ والنفخ وإطعام النّاس إلى أن يأتي موعد العرس، فيأخذ العريس إلى الحمام. ويلبَسُ أفضل الثياب وتبدأ الفرق الإنشاديّة بإنشاد أناشيد وأغاني العرس الفلسطيني ويصير الرجال يدبكون على أنغامها. ومن هذه الأغاني مثلاً :
دير الميه ع السريس مبارك عرسك يا عريس
دير الميه ع الليمون مبارك عرسك يا مزيون
دير الميه ع التفاح مبارك عرسك يا فلاّح
وعدينا المال في فيّ التفاحة
نسبنا رجال وأخذنا الفلاحة
عدينا المال في فيّ الليمونة
نسبنا رجال وأخذنا المزيونة
خرزة زرقة"خرزة زرقا ترد عنك العين"
أما في حال إنْ رزق الزوجان بمولدٍ، فيتم دهن الولد بزيت زيتون، ويقوم جد المولود عادةً بالتأذين في أذنه اليمنى وإقامة الصّلاة في أذنه اليسرى. وتميّزت بيوت طيطبا بأنّها مبنيةٌ من طين بني اللون، ولا يتعدى كل بيت الغرفتين مع المطبخ والحمام. اما عن الخضار فكانت تتميّز طيطبا بالكرسني، والبصل، والفجل، والكزبرة، والنعناع، وغيرهم كثير. أما عن الحبوب، فالبرغل، والحمص، والفول، والعدس. وكنّا إذا لدغ الرجل من أفعى في أرضه نشربه الحليب مرات ومرات، حتى يتقيأ ويخرج سمّ هذه الأفعى مع الحليب، إن كانت حالته سيئةً للغاية نضطر لإرساله إلى أقرب مستشفى وعادت لم يكن في قريتنا مستشفى فنضطر لإرساله إلى المدينة، وربك عليم هل يصل سليماً إليها أم غير ذلك.وتتابع الحاجة أم حسين فتقول "ومهما ذكرت لك لنْ أفي طيطبا حقها فالعادات والتقاليد كثيرة جداً، منها ما بقي في الذاكرة ومنها ما نسي والعمر كما يقال له حق".
الأم الفلسطينيّة الصابرة:
تقول الحاجّة أم حسين عن الأم الفلسطينية، هي مصنع الرجال يوم أن عز الرجال، هي زيتونة فلسطين، التي يضئ زيتها ولو لم تمسسه نار. هي من يدرأ هموم الجرحى، هي التي تشعل نور الكتب، هي محور الأسرة، تعلمت من أمنا الكبرى فلسطين، كيف تكون الأمومة. وفلسطين يا بني، شمعة تضئ، ومنارة تخلد، وقمر يضئ أيامنا، وهي في الأحشاء أغنية. لن يطول بعدنا عنها وستثبت لك الأيّام صدق كلامي، سواءٌ أكنت على قيد الحياة، أم تحت التراب ولكن ستذكرون ما أقول لكم، وأفوض أمري إلى الله تعالى.
المصدر: الملتقى الفلسطيني للحوار