قبل 61 عاماً تركت العروس فتحية الجرف التي لم يمض على زواجها آنذاك ثلاثة شهور مصاغها وحليها خلفها في منزلها بقرية الخيرية قضاء يافا، ورحلت مع العائلة على أمل العودة بعد يومين أو ثلاثة، دون أن يكن بحسبانها إن الرحيل سيطول وسيضيع البيت والمصاغ وكل شيء.
وتعود الحاجة فتحية (أم ماجد) التي يبلغ عمرها اليوم 77 عاماً وتسكن مخيم عسكر شرق مدينة نابلس بالذاكرة للخلف وتروي لـ«القدس» حكايتها المرة عندما اضطرت عام 1948 لترك منزلها والرحيل عنه مع العائلة.
وتقول أم ماجد: «تزوجنا وسلفاي في يوم واحد وكان عرساً لا مثيل له، حيث كان عمري في ذك الوقت 16 عاماً، وبعد حوالي شهرين بدأ اليهود يحتلون الأراضي المحيطة بنا وينفذون أعمالاً عسكرية لترهيبنا، فالتحق زوجي بالثورة، وعندما اقتحم الاحتلال قريتنا، هرب سلفاي مع زوجتيهما، ولم يبق في المنزل احد سواي، وعند سماع زوجي بدخول الجيش الإسرائيلي إلى القرية حضر ليطمئن علي، وحين شاهدهم في ساحة المنزل اختبأ بين أشجار الصبر القريبة، فلاحظوا وجوده ولحقوا به لكنهم لم يتمكنوا من إمساكه، فقد استطاع الهرب».
وتضيف أم ماجد وهي اليوم أم لعشرة أبناء أنجبتهم بعد الهجرة «في تلك الليلة بدأ الجنود الإسرائيليون بدخول المنازل، وإجبار سكانها على تركها وهم يطلقون النار، وألقى الجنود الإسرائيليون ثلاثة قنابل داخل منزلي حتى كاد الدخان يقتلني، ومن ثم دخلوا فوجدوني ملقاة على الأرض، ثم اقتادوني بلا حذاء إلى منزل «حماي» القريب حيث توجد ساحة كبيرة عملوا على تجميع سكان القرية فيها، وبعد أن انهوا تفتيش البيوت أطلقوا الرصاص على الشباب فقتلوهم أمامنا وانذرونا أن الذي سيبقى في القرية سيكون مصيره مثلهم، فهربنا حفاة عراة على أمل العودة بعد ساعات أو حتى أيام قليلة دون علم أن رحلتنا ستمتد إلى 61 سنة».
قتل بدم بارد:
وتتابع الحاجة أم ماجد والدموع تنهمر من عينيها، «في طريق التهجير الطويل مررنا بقرى مدمرة عديدة كقرية بيت دجن، ورأينا جثث الشهداء الفلسطينيين متناثرة في كل مكان، والتقينا مجدداً بالجنود الإسرائيليين وأطلقوا النار علينا فاخترقت رصاصة ظهر فتاة من أقرباء زوجي وخرجت من صدرها فاستشهدت على الفور، كما قتلت رصاصة أخرى خالة الفتاة، ولم نستطع حملهما لدفنهما. وفي المساء حينما حل الظلام على المكان أبا والد الفتاة العجوز إلا أن يعود ليحضر الجثتين لإتمام مراسم الدفن وتم له ذلك، وبعد تنقلنا من منطقة إلى أخرى وصلنا أخيراً إلى الأردن حيث أقام لنا الصليب الأحمر الخيام لنقيم فيها لحين البت في أمرنا».
وحول كيفية لقاء فتحيه بأهلها الذين هاجروا من مدينة يافا إلى دمشق، تقول بأنها قد التقت مع عمها في عمان واتصل بدوره بأشقائها ليعلمهم بوجودها هناك، وبعد سنتين على الهجرة حضر شقيق فتحية من دمشق واقترح عليها العودة معه ولكنها فضلت البقاء مع زوجها وذويه الذين التقتهم في الطريق إلى الأردن.
ذكريات لم تمحوها سنوات الهجرة الطويلة حيث تتعمد الجدة رواية قصتها إلى أبنائها وأحفادها ليرووها بدورهم إلى أحفادهم حتى تبقى القضية حية في نفوسهم، وليعلموا جمعياً ما يملك أجدادهم من أراض مغتصبة دون أن تخلو كلماتها من ألم وحرقة على المنزل الجديد والبيارات الست التي يمتلكها زوجها، فكل ذلك سلب من بين أيديهم في غمضة عين.
وتروي أم ماجد ما حصل أيضاً مع أناس آخرين أيام الهجرة وتقول «هناك من تركت ابنها في سريره وحملت «المخدة» بدلاً منه من شدة خوفها وذعرها، في حين أن آخرين قد أضاعوا أبناءهم أثناء التنقل من مكان لآخر».
عائلة يهودية سكنت منزلها
بعد مضي خمس سنوات على التهجير تمكنت أم ماجد من زيارة منزلها في الخيرية، ووجدته كما هو ولكن يسكنه يهودي وزوجته طاعنان بالسن، وحين أخبرتهما أن هذا منزلها أنكرا ذلك وقالا انه ملكهما ولن يأخذه احد منهما. صعقت الحاجة فتحية لهول ما سمعت حيث العجوز يتمسك بمنزلها هي، فهنا وضعت أواني المطبخ، وهذه الخزانة احتوت على ملابسها وهذا سريرها الجديد كل ذلك وضعته قبل خمس سنوات، وبعد كل ذلك يقول العجوز اليهودي هذا بيته!.
خرجت الحاجة فتحيه من المنزل بخطى منثاقلة كأنها تتعلم المشي للمرة الأولى، وهي تلعن ذلك اليوم الذي جاء فيه هؤلاء الغرباء وسيطروا على منزلها. وقبل أن تغادر صرخت على مسامع العائلة اليهودية التي سكنت المنزل «سنعود ولو بعد قرون من الزمان».
ويذكر أن قرية الخيرية تقع على بعد 7.5 كم شرق مدينة يافا المحتلة عام 1948، وشهدت القرية أعمالاً عسكرية عدوانية قبل أن يتم احتلالها نهائياً. وسقطت في قبضة لواء ألكسندروني بتاريخ 29 نيسان (ابريل) 1948، وسكنها 1.647 نسمة قبل النكبة، والآن يقدر عدد لاجئيها بما لا يقل عن 16 ألف نسمة.
المصدر: شبكة بيت الذاكرة الفلسطينة