الحاج سالم حنفي علي الشرفا 66 عاماً كان في الصف الرابع عندما طردت عصابات الصهاينة أسرته من مدينة بئر السبع جنوب فلسطين.
حارة المشاتهه:
بدأ حديثنا عن منزل العائلة فقال الشرفا: 'كنا نقطن في حارة المشاتهه (آل مشتهى) في المدينة في بيت مكون من طابق واحد بني بحجارة الباطون، وكان بيتنا على ناصية مفرق يطل على أربعة شوارع، وأسفله دكان حبوب وغلة لوالدي الذي كان يعمل في حراثة الأرض كذلك، باستخدام تراكتور كان شريكاً في ملكيته مع الحاج هاشم الشوا رحمهما الله'.
التحق الشرفا بمدرسة بئر السبع الابتدائية ويصفها قائلا: 'كانت مبنى مكوناً من عدد من الفصول وعدد كبير من الطلاب والأساتذة'، ويحدد موقع المدرسة بأنها كانت بجوار مقبرة الإنجليز، ومركز شرطة بئر السبع، وفي هذه المدرسة أتم الصف الرابع الابتدائي عام 1948 م. يقول الشرفا: 'في الصف الرابع بدأنا نتعلم اللغة الإنجليزية وكان يدرس معي زملاء من عائلات (مشتهى، الجمالي، الشرفا، البيطار، الرياطي).
تسامح
ومن ذكريات الطفولة يسرد لنا الشرفا حكاية تنم عن روح التسامح وكرم الأخلاق التي كان يتشح بها أناس تلك الحقبة ويقول: 'تزوج أبي من ثلاث نساء آخرهن أمي لأنه لم ينجب من السابقتين، وكنا نعيش جميعاً في منزل واحد وتسوده المحبة، وأذكر أنه بينما كنت ألعب مع بعض الصبية أصابني أحدهم بحجر في رأسي وجرحني فعدت باكياً للمنزل لتقابلني زوجة أبي التي استشاطت غضباً وشكت الحادث لأبي بعد أن نقلوني لعيادة الطبيب، وكان أهل الطفل الذي قذفني بالحجر لحقوا بنا عند الطبيب من أجل الاطمئنان عليّ والاعتذار من أسرتي وتطييب خاطرهم، وبدا أبي متشدداً معهم وأصر أن يأتوا بالطفل ويعاقبوه أمامه ولما فعلوا وأتوا به فاجأهم وقام بمكافأة الطفل وأعطاه بعض الحاجيات والحلوى وقال: أنا في اليوم اللي يكون لي ولد ويأتيني الناس من أجله'.
ويتذكر الشرفا كيف كان يذهب للعب في الأراضي المحيطة بالمدينة ويقول: 'كانت خالتي (زوجة والده) تخيم بعد أيام الحصيدة وجمع الغلة في ربوع قضاء المدينة عند بعض القبائل لتحصّل ما لها من نقود على نساء تلك القبائل اللواتي كن اشترين منها بعض الثياب والبراقع التي تبيعها لهن طوال العام، كما كانت تعمل داية (قابلة) لدى هذه القبائل وكثير من أبنائهم وُلدوا على يدها رحمها الله' ويضيف: 'ذهبت في مرة إلى خالتي وبصحبتي أخي الصغير وقد كانت عند إحدى القبائل بالقرب من طريق بئر السبع الخليل، ولم نخبر أبي وأمي أننا ذاهبان هناك، فلما غبنا لفترة بحث أبي عنا كثيراً حتى وجدنا وكان في حالة خوف وقلق كبيرين وقد خشيت أن يضربنا ولكنه لشدة حبه لنا وحنانه علينا اكتفى بأن يطلب منا عدم تكرار الأمر مرةً أخرى، ونجونا يومها من علقة كانت واجبة' وتعلو الضحكات حديثنا.
استشهاد الجد
الحياة كما أخبرنا أبو حنفي كانت هادئة وهانئة في ربوع المدينة وما حولها من قضاء فسيح تعكسه رحابة الناس وكرم أخلاقهم، ولم يتعكر صفو تلك الحياة حتى صيف العام 1948م عندما بدأ اجتياح الصهاينة مدينة بئر السبع. حول تلك الأيام المشئومة كما يصفها الشرفا قال: 'أتذكر كيف كانت طائرات الصهاينة تقصف منازل المواطنين في المدينة حيث كانت تلقي قنابل على شكل براميل كبيرة، وبعض المنازل هدمت على أصحابها، لذا اقترح جدي لأمي أن نلوذ بأحد الآبار الفارغة هرباً من القنابل التي كانت ترميها الطائرات على المواطنين، فخرجنا نساءً وأطفالا وبعض الرجال إلى حيث البئر في طرف المدينة ونزلنا جميعاً إلى جوفه باستخدام سلم خشبي' واستدرك: 'رفض جدي النزول مع الآخرين وأصر أن يعود لقلب المدينة ليلتحق بابنه خالد الشرفا الذي كان مع المقاومين المدافعين عن مدينة بئر السبع الذين واجهوا العدوان بأسلحة بسيطة، وبعد يوم عاد خالي وحده ليزف خبر استشهاد والده جدي رباح الشرفا، ولتسقط المدينة، وعندها قرر الجميع الهرب بالأطفال والنساء إلى مكان أكثر أمناً، خوفاً من إجرام القتلة الذين لم يتورعوا عن قتل شيخ مسن'.
إلى سيناء مشياً
يتجه مجرى حديثنا إلى مسيرة اللجوء وبعض تفاصيلها، يرويها شيخنا الذي عاصر بدايتها طفلا في الحادية عشرة من عمره، ولا يزال يعيش فصول مأساتها كهلا وجداً ويقول: 'عاد أبي وعمي إلى منزلنا وحاولوا جمع ما يستطيعون من متاع وحملوه في سيارة نقل ركبناها بعد أن خرجنا من البئر، واتجهنا جنوباً حتى وصلنا إلى نقطة تفتيش للجيش المصري اسمها نقطة الشريف، وعندها تعطلت الشاحنة واضطررنا لإكمال المسيرة مشياً على الأقدام، بعد أن تخلينا عن كثير من أغراضنا التي تركناها في الشاحنة المعطلة' ويكمل بشيء من الحسرة 'عبرنا صحراء سيناء مشياً على الأقدام حتى وصلنا منطقة اسمها القصيمة شرق العريش ومنها إلى العريش والشيخ زويّد وحتى القنطرة في الجنوب، وبقينا نتنقل من مكان إلى آخر حتى وصلنا قطاع غزة بدءاً من رفح حتى استقرينا أخيراً في مدينة غزة'.
الفاقة وترك المدرسة
وبعد أن كانت أسرة الحاج سالم ميسورة الحال تبدل الوضع بفعل الهجرة واللجوء وهنا يسرد لنا قصة تركه للمدرسة، التي كانت بسبب الفاقة وقسوة معلم المدرسة على حد قوله ويقول: 'كنا نسكن رفح جنوب القطاع، أسرة مكونة من ثمانية أفراد أنا وأخوتي وأمي وأبي في غرفة وصغيرة واحدة، وكنت أنا في الصف الثالث الإعدادي، وطلب مني المعلم -وأذكر أن اسمه أحمد النجار- أن أقصر شعري، وبسبب حاجة وفاقة أسرتي لم أجرؤ على طلب نقود من أبي لأحلق شعري وذهبت في اليوم التالي إلى المدرسة ولم أحلق شعري، ليضربني الأستاذ ضرباً مبرحاً، حتى فقدت صوابي وقذفته بحجر أصابه في رأسه وهربت باتجاه مركز الشرطة حيث استدعوا أبي الذي استغرب فعلتي، حتى أخبرتهم ما فعل الأستاذ بي فغضب الضابط المصري من ذلك الأستاذ وعنفه وعدت أنا مع أبي، ولم أعد للمدرسة منذ ذلك اليوم'.
زيارة بعد 30 عاماً
أخذ الشرفا يعمل، وعلى نهج والده في التجارة، وقاده هذا في بداية الثمانينات من القرن الماضي للعودة إلى مدينته بئر السبع بائعاً في سوقها. وعن ذلك يحدثنا: 'كنت أعمل تاجراً متنقلاً في غزة واللد والرملة والسبع وغيرها من أسواق فلسطين الشهيرة، وأتاح لي ذلك زيارة حارتنا في السبع بعد أن هجرنا منها قبل نحو 30عاماً، لأجد بيتنا قد هدم وسوي بالأرض ووجدت منزل أحد معارفنا وهو من عائلة الجمالي، لا يزال كما هو بالقرب من وادي بئر السبع وكان بناه الجمالي باستخدام الحجر القدسي وبناه قبل النكبة بفترة بسيطة، وجدت يهوداً استولوا عليه ويعيشون اليوم بداخله' ويصف شعوره في تلك اللحظات ويقول : 'افتقدت ساعتها ديارنا كما يفتقد أحدهم ابنه العزيز وعز عليّ حال الديار التي شرد أهلها'.
سيعود سالم يوماً
بينما كنا نتحدث مع الحاج سالم دخل علينا حفيده الصغير5 سنوات واسمه أيضاً سالم، وعندها اختتم سالم الكبير حديثه مشيراً إلى الصغير: 'سيعرف سالم عندما يكبر أنه لاجئ وأن جدوده طردوا من ديارهم في مدينة بئر السبع ظلماً وعدواناً'، وأضاف مؤكداً: 'إن لم يعد سالم الكبير فسيعود يوماً سالم الصغير أو أحد ذريته بكل تأكيد' قالها بلهجة كلها ثقة وإصرار.
المصدر: موقع صحيفة اخبار النقب