ياسر قدورة - مخيم البداوي
يعيش الحاج أبو جميل بلشة في دولة الامارات العربية ولكنه يأتي في زيارات مطولة إلى لبنان أحياناً، وعندما علمت أنه قادم إلى لبنان صيف العام 2011، انتظرته بفارغ الصبر لأنني عرفت أنه يملك شجرة عائلشة بلشة، إذ كنت أواجه مشكلة في ربط بعض أفرع هذه الشجرة.
في البداوي كان لقاؤنا، وقد ذهبت بصحبة الوالد ( ابن عمة أبو جميل)، وكان لي فب اللقاء أكثر مما طلبت بل أكثر مما توقعت. هو اليوم في الرابعة والستين من العمر، إذ أنه من مواليد عام النكبة 1948 وبموسم الدخان أي في شهر أيار كما يقول، ولكنك عندما تستمع إليه تظن أنك تتحدث لمن عاش في سحماتا سنوات وسنوات.
وأول ما بدأ الحديث، بدأ بنفسه: "أنا إسمي محمد جميل عبدالله عبد اللطيف قاسم أحمد محمد بلشة من بلدة سحماتا قضاء عكا، فلسطين. عندما طلعنا من فلسطين كان عمري أشهر، كنت باللفة، وعلى قول الآباء والأمهات أنه جاءت الطائرات تضرب سحماتا بليلة 30 تشرين الأول 1948 .
ولما بدأت الطائرات الضرب ، صاب الخوف والذعر الناس، فخرجوا من منازلهم، تاركين وراءهم كل شيء خوفاً من القصف، وعلى حسب الأخبار كان هناك 3 طائرات ترمي أزانات (صواريخ) مثل البراميل ، فالبعض اتجه نواحي الجنوب والقرى ، مثل البقيعة وكفر سميع وقسم نحو الشمال دير القاسي وقسم نواحي ترشيحا في الغرب ، ونحن من ضمن الجماعة الذين ذهبوا على الزيتون، وكان حاملني ابن عمي صدقي ناجي بلشة. وهم ماشيين ويريدون الراحة وكانت أمي حاملة أخي الصغير وعمره حوالي سنتين. وعند الاستراحة وتوقف القصف، أمي تريد أن تحمل عبد الرحيم الذي كان على ظهرها، فوجدته ميتاً، يمكن من الخوف مات، وإبن عمي كان حاملني بالحرام ، وعندما نبش الحرام ويريد أن يحملني لم يجدني بالحرام ، فصارت أمي تصرخ ، وبدأوا التفتيش علي ، فوجدوني مرمياً بأحد الوديان وأخذوني".
توجهنا نواحي الرميش قطعنا دير القاسي ورحنا لرميش ومن الرميش الى جباع ، كان عمي علي الحلج أسعد بلشة زوجته من جباع ، فذهبا الى هناك وبقينا حوالي 20 يوماً، وبعد ذلك الى النبطية وبقينا حوالي 3 سنوات ، وبعد ذلك بيت عمي ذهبوا إلى منطقة بعلبك ثكنة غورو وبعد ذلك ذهبنا نحن الى ثكنة غورو ، وسكنا هناك.
منذ الصغر، منذ أن كان عمري 6 سنين ، كان الأهل يحدثوننا نحن من أي بلد وقرية ، وكانوا يحدثونا عن أسماء الأراضي التي لنا ، وما هي الأماكن التي كانوا يعيشون فيها.
بالنسبة لسحماتا كانت تقع على تلّين مرتفعين ، البيوت كانت في حارتين ، التل الشرقي وإسمها الحارة الفوقا ، والتل الغربي وكان إسمها الحارة التحتا ، وكان في عائلات متوزعة في المناطق الشمالية والجنوبية في البلد ، بلدتنا طريقها كان يأتي عن طريق نهاريا ، بيننا وبين نهاريا على الساحل مستعمرة يهودية ( حوالي 18 كلم ) بعيدة عن البلد ، ولكن نحن نبعد عن عكا حوالي 30 كلم شمال شرقي عكا ، كانت تحدنا بلاد دير القاسي وفسوطة من الشمال، ترشيحا من الغرب، من الجنوب كانت كفر سميع والبقيعة، من الشرق كانت حرفيش وسبلان، من الجنوب الشرقي كانت بيت جن وعين الأسد.
نحن بلدنا عريقة لأنه فيها خرب كثيرة تدل على انها كانت على زمن الكنعانيين والرومان وعلى زمن الإسلام. كانت الدولة الأموية، ما في بلد بفلسطين، إلا ومات فيها واحد أموي، من ضمن الأمويين الذين كانوا عايشين ببلدنا، واحد إسمه يحيى بن عبدالله بن عبدالله بن خالد بن يزيد بن معاوية بن أبي سفيان وكان يعيش بخربة قرحاتا. بالنسبة لبلدنا كانت من المدن التاريخية على زمن الرومان، على زمن الدولة البيزنطية كانت مطرانية وما زالت آثارها موجودة في منطقة الدوير، جاء الغزو الفارسي لبلاد الشام فتغلّب على الرومان فنزح أهالي بلدنا كلهم مسيحيين في القرن 6 ميلادي وتوجهوا من منطقة الدوير وذهبوا الى جنوبها إلى منطفة قرحاتا وهناك سكنوا فيها وعندما دخل الإسلام عاش فيها الكثير من المسلمين فأصبحت البلدة فيها مسلمين ومسيحيين.
سحماتا هي مثل جزيرة ، لأنها كانت محاصرة بعدة أنهر، النهر المشهور بشرقي البلد اسمه وادي الحبيس ينبع من جبال بيت جن وعين الأسد وينزل بوادي كان يتجه شمالاً ثم يتجه إلى الغرب، كان يلاقيه وادي آخر ينبع من جبال البقيعة وبيت جن ويتجه الى الغرب يمر بوادي القواطيع ووادي الخرب ويلتقي مع وادي الحبيس في المنطقة الشمالية الغربية لسحماتا ، وهناك يسموه وادي القرن. هذا الوادي يرفده عدة روافد من وادي الحبيس ومن وادي الخرب. هذا أكبر نهر بفلسطين كان طوله 43 كيلومتر ومشهور بالزراعات والورود التي كانت فيه ووصل لعلو 830 متراً عن سطح البحر، بالنسبة لنا، موقع البلد (حسب الوثيقة الموجودة لسحماتا والقرى التي تحدّها).
الناس كانت آمنة بسحماتا ، ولكن عند قدوم البريطانيين على بلادنا ، جاءوا بنيّة سيّئة باتفاق مع اليهود على أساس إعطاء هذه الأراضي لليهود، وبالتالي بدأت الخطة بعد الإنتداب البريطاني 1918 حتى 1948، الاحتلال البريطاني ترك البلاد بحالة اقتصادية مزرية وكان يساعد بهجرة اليهود إلى فلسطين ، وبالتالي عشرات الألوف ومئات الألوف هاجرت الى فلسطين ويساعدوا اليهود في بناء المستوطنات، وكانوا يضيقون على العرب لجهة ملكية الأراضي، ويساعدونهم بالأسلحة وذلك نتيجة مؤامرة دولية على الفلسطينيين ، لأنه لم يحدث في التاريخ مثل ما حدث من ذل وإهانة للشعب الفلسطيني، أمم الأرض كلها تآمرت على هذا الشعب طرد الفلسطينيين وإحلال شعب ىخر اليهود ، الذي ليس لهم أرض".
ليست العبرة في المعلومات التي ذكرها الحاج أبو جميل فكثير منها موجود في الكتب، ولكن الطريقة والطلاقة التي يتحدث بها عن سحماتا توحي للمستمع أن سحماتا تعيش في قلب وذاكرة الحاجج.. يتحدث عنها وكأنه عاش فيها عمراً، رغم أن ايامه فيها لم تتجوز ستة أشهر. ويتأكد هذا الانطباع عندما يبدأ الحديث عن بعض التفاصيل داخل البلد.
" بالنسبة لسحماتا، مدخل سحماتا من المنطقة الشمالية على طريق صفد نهاريا عكا ، ولما كانوا يدخلوها ، الطريق كانت مرصوفة بلاط ( مثل الاسفلت ) عند الدخول على اليمين كان في زيتون وكان في بوابير الزيت، حتى تصل منطقة الرحبة ، كان فيها بركة ، مساحتها حوالي 5 دونم ، وكان أهل البلد يرعوا الطرش فيها ، وأحياناً الأطفال والشباب يسبحوا فيها. عند الوصول إلى البركة والإتجاه يميناً كان في دكانة على طرف الطريق للحاج عبد الله عبد اللطيف بلشة ( شراكة مع المرحوم حسين علي قدورة ) وطلوعاً نحو طريق دار الحوش ، وبعد ذلك نمشي نلاقي بيوت دار حسين علي قدورة ( أول بيت ) ، مصطفى الحسين ، ثم عبد الرحمن الحسين ، وبعد ذلك الحاج هاشم ثم بيوت لدار توفيق عبد القادرعلي قدورة ، ومنهم كان أبو محمود توفيق ومحمد توفيق ثم طلوعاً شوي دار بيت أحمد فايز ، ودار الحجارية ودار نايف ريمي وثم تطلع لفوق بنفس الطريق عاليمين ، ولكن على جهة الشمال كانت فاضية وادي اسمها العبية وبعدها الباط، وبعد الوصول للحجارية في بيت لدار علي عبد القادر قدورة ، كان البيت موجود لكامل العلي ، وبعده يأتي بيت الحاج عبد الله ، كان له أخوين، هم جميل العبدالله ( والدي ) وناجي عبد الله عمي ، ثم بيت خالد علي خزنة، ودار ابراهيم خليل، ولفوق شوي تصل لمنطقة جبلية وتنزل فتجد دار حسين اليمني، من الجهة المقابلة لبيتنا بالضبط ، كان في مقام لوحدة اسمها ستنا الزاوية، كان بجانب بيت احمد عسقول ، محمد عسقول ، وعباس توفيق قدورة .
كان في البلد فرن لجميل بلشة ( والدي ) كانت الناس تخبز على الوقادة والتنور ، فحب والدي ان يحدّث الأمر ويسرع لأنه احتياجات البلد كثرت ففكر ان يعمل الفرن ليوزع الخبز على البلد وبالتالي لإراحة الناس ، وأيضاً فيها منفعة . احيناً مواد الفرن يحصلوا عليها من داخل البلد وأحياناً من خارجها مثل القمح ويطحنوه .
وكان هناك دكان علي الحاج أسعد بلشة ، كان فاتح دكان فيها قماش وملابس ، بجانب دكان الحاج عبدالله الذي كان شراكة مع حسين علي قدورة .
بالنسبة لأهلنا لم يستطيعوا أن يخرجوا معهم أي شيء ، طلعوا ملابسهم ، والقليل من الفرشات ، لأنه ليس هناك مجال لذلك، الطائرات صارت تقصف على البلد، بنهار 29 قصفوا ترشيحا ودير القاسي وقصفوا البقيعة ، حتى نهار الجمعة 30 تشرين الأول إلا والناس صاروا بالزيتون أو بطريق ترابية وعرة طويلة، غير الطريق الإسفلتية (طريق صفد-عكا) نواحي دير القاسي ومروا بدير القاسي ، وطلعوا لمنطقة توصل الحدود اللبنانية الفلسطينية والى الرميش ، فمعظم أهل البلد عنا ذهبوا الى الرميش .
ومن هناك توزعت الناس ، البعض ذهب حداثا والبعض الى النبطية أو صور. نحن عند خروجنا كان الوالد مخبىء ذهب بتنكة بالحيط ومسكرين عليها. عند وصولنا النبطية ستي جميلة كان معاها صرة وافتكر أبي وأمي أن ستي أخذت الذهب ووضعتهم بالصرة وهي راكبة على الحمار، فأبي وعمي دائماً يسألوها: وين الذهبات ؟ فتقول لهم : هياهن موجودين. الظاهر أنها لم تعرف أنها لم تحمل الذهب.
وعند الوصول الى النبطية ، نزلوها عن الدابة فلم يجدوا الذهب ، وأبي بعث أخي فارس ونجيب على سحماتا بعد شهر تقريباً ودخلوا إليها فوجدوا ناس عم يبحشوا ويسرقوا البلد، ودخلوا فوجدوا ناس ببيتنا، فسألوهم : ماذا تفعلون فقالوا نبحث عن بعض الأغراض... المهم ، تركوهم ليذهبوا ، وحفروا الحيط وأخذوا الذهب ، ولفوهم بملابس ، وجابوهم للوالد .
كانت الناس ترجع على سحماتا ، فكان أخي نجيب وفارس يتاجروا بأقلام الحمرة ( أحمر الشفاه ) ، يأخذوها من لبنان، الجمرك مسكهم وحبسهم بالرميش، ففي واحدة من رميش إسمها خيزران إتصلت بأبي وقالت له أن فارس ونجيب ، وعلي نجلا ( علي الحاج أسعد بلشة ) محبوسين بالرميش ، وأخرجوهم بعد فترة وأبي فرح لخروجهم ورجعوا على النبطية.
وكثير من الناس كان لها أغراض بسحماتا فترجع عليها وتاخذ أغراضها ، وظلت هذه العملية حوالي 4 أشهر ، لأنه عند خروجنا من سحماتا بقي حوالي 450 شخص داخل سحماتا ، فجاء اليهود يطردوا هؤلاء ، فقسم يطلع وقسم لا يخرج، وآخر شي ء اليهود في شهر كانون الأول جاءوا ودمروا البلد تدمير ، حتى لايبقى فيها أحد. حتى الجامع والكنيسة هدموهم ، ولم يبق من الكنيسة إلا الحائط الغربي والحائط الجنوبي والجامع دمّروه. أهالي البلد اللي بقيوا ، توزعوا على قرى أخرى مثل بلدة الرامة وترشحا وفسوطة، المزرعة وحيفا.
اليوم عدد السكان من سحماتا الباقيين حتى هذه الأيام حوالي ألف نسمة موجودين بفلسطين ولكن ممنوع يرجعوا على أراضيهم لأنها مهدمة".
تعلق أبو جميل بسحماتا ليس مجرد "كلام" يحفظه ويردده بل هو مشروع يعمل للحفاظ عليه منذ سنوات طويلة.. كانت الزيارة للحاج أبو جميل دسمة جداً، فبالإضافة إلى ما سبق ذكره، زودنا بنسخة عن خريطة لأراضي سحماتا مستخرجة من الأرشيف البريطاني ( مسح عام 1932) وكتبت عليها أسماء أراضي البلد باللغة الإنجليزية، وقد كتب أبو جميل الأسماء بالعربية على ورقة منفصلة، كما زودنا بنسخ عن مجموعة من أوراق بيع وشراء أراض في سحماتا لعائلة بلشة.. وأكثر من ذلك فقد فتح لنا مغكرته التي دون فيها كثيراً من الملاحظات خاصة فيما ينعلق بعائلات سحماتا، وبعض هذه الملاحظات عمرها 20 أو 25 عاماً، فكان عنده شجرة عائلة بلشة، ما ساعدنا على ربط شجرة عائلة عسقول إضافة إلى مجموعة أخرى من المعلومات عن أهل البلد.
بالطبع لم يكن لنا أن ننهي اللقاء دون أن نسأله عن فكرة العودة إلى سحماتا..
" سحماتا مغروسة بدمنا وقلوبنا ومحشية بعظامنا كما يقولون ، خاصة بعد خروجنا كان لنا بعض الفرص على الحدود ونرى مشارف جبال سحماتا والقرى التي حولها.
مهما يكون نحن نربي أولادنا وأولادهم على أساس أن هذه الأرض لا بد أن ترجع في يوم من الأيام ان شاء الله، لأنها بفضل إيماننا بالله سبحانه وتعالى ووعدنا من ربنا سبحانه وتعالى لاسترجاع هذه الأرض، الأرض مثل الأم، إذا ماتت الأم يعتبر الواحد يتيم، فعلاً نحن الأرض مثل أمنا، بدون أرضنا ليس لنا كرامة ولا شهامة ولا شيء. لا نعيش سعداء وكرماء ولو عنا كنوز الأرض كلها إلا اذا رجعنا لأرض سحماتا ولن ننساها أبداً.
نحن ربينا أولادنا وأولادهم على أساس ان سحماتا أرضنا وأرض آبائنا من ألاف السنين ونحن لن ننسى أن شعباً غريباً جاء إليها وطردن، كيف ننسى؟!
تعذبنا 63 سنة وعانينا من القريب والبعيد، لن نرتاح إلا بحضن أمنا وهي أرضنا ـ أرض فلسطين.
أما عملية الحلول التي يقولون عنها ، حلول سلمية هي حلول استسلامية كيف نبيع أرضاً لا تقدر بثمن!! الواحد ما بيرتاح إلا ببيته. هذه الارض التي طعمتنا وربتنا، وعاش عليها الآباء والأجداد غير معقول أن تتركها .
ومش متل ما قال اليهود، الأباء غدا يموتون والابناء سينسون بل بالعكس انا ابن النكبة 1948، عمري 63 سنة طالعين من فلسطين، ولكن من كثر ما حكولي عنها ، بتصورها أمامي ورحنا على الحدود وشفناها، فلن ننساها".
انتهت المقابلة ولم ينته اللقاء، فبعد تناول الحمص والفول طاف بنا الحاج أبو جميل في مخيم البداوي، واستطعنا في ساعات قليلة أن نلتقي بعائلات سحمانية كثيرة مثل بيت برهان اليماني، وأبناء حسن فاعور ( المعروف بـ حسن عيشة) وكذلك عائلة صالح، ثم بأبناء المرحوم عبد المجيد قدورة.. ثم كان الوداع على أمل اللقاء مجدداً.
.