أبو المرق، محمد باشا: (توفي سنة 1227ه/1812م)
(غزّي، من عامة الناس، دخلت عائلته الدولة العثمانية فتسلم بعض أفرادها مناصب عالية في الإدارة المحلية. أما محمد باشا فقد حكم منطقة جنوب فلسطين(ألوية القدس ويافا وغزة) مرتين على الأقل، واصطدم بأحمد باشا الجزار والي عكــا. ثم أوكلت إليه مهمـة محاربــة الوهابيين وفتح طريق الحج، لكنه لم ينفذ المهمة، فغضبت الدولة عليه وطردته من الحكم. تولى حكم سيواس(ديار بكر) ثم توطن حلب في آخر حياته وقُتل فيها، كما يبدو، سنة1812 بأمر من السلطان.)
هو محمد بن علي آغا بن شعبان أبو المرق «من عاملة الناس وابن عرب»، على حد قول المؤرخ اللبناني حيدر الشهابي. ويضيف عثمان الطبّاع في «تاريخ غزة» أن جده الأعلى كان من جراكسة مماليك الأمير سنجر الجاولي، نائب غزة.
خدم محمد مع والده حكام غزة من آل مكي، وخصوصاً حسين باشا مكي. وقد عُين والده متسلماً لغزة ثم القدس، وسافر هو إلى الآستانة غير مرة، وتعرف هناك إلى رجال الدولة، وسعى للحصول على حكم غزة والقدس وتوابعها. لكن طموحه أثار أحمد باشا الجزار، الذي تمكن من أخيه أحمد آغا وقتله، فهرب إلى الآستانة، وانتمى هناك إلى رجال الصدر الأعظم يوسف ضياء باشا.
ولما حضر يوسف باشا على راس الجيش العثماني لإخراج الفرنسيين من مصر سنة 1216ه/1801م، اصطحب محمداً إلى بلاد الشام، ثم إلى مصر، وولاه عليها. لكن هذا التعيين أثار حفيظة المماليك وعساكر الترك، «إذ كانت مقامات ابن العرب عند ابن الترك مخفوضة وراياتهم منقوصة» على قول الشهابي. وبقي محمد أبو المرق مع حاشية الوزير الأعظم يوسف باشا حتى استدعاه السلطان سنة 1802. وقبل مغادرته المنطقة عينه الوزير المذكور متصرفاً لألوية القدس وغزة ويافا. ولم يخف عن الجزار مغزى هذا التعيين الذي قصدت الدولة به التضييق على امتداد حكمه وتوسعه، فقرر التخلص من محمد أبو المرق، الذي عُين في تلك المدة والياً على الشام وأميرا للحج، فسارع الجزار إلى إرسال جيوشه لمحاصرة يافا لمنعه من الوصول إلى منصبه في دمشق. وتدخلت الدولة وطلبت من الجزار إعادة جيوشه وفك الحصار لكن من دون جدوى، فاضطرت إلى إعادة عبد الله باشا العظم والياً على الشام.
بقي محمد أبو المرق محاصراً مدة طويلة بانتظار نجدة عسكرية من الدولة العثمانية، لكنه يئس في النهاية، وفر بحراً إلى اللاذقية، ومنها إلى حلب. ويروي الجبرتي أنه في 14 شوال 1217ه وصلت الأخبار من الجهات الشامية بشأن هروب محمد باشا أبو المرق من يافا واستيلاء عساكر أحمد باشا الجزار عليها، وذلك بعد حصاره فيها عاماً واحداً أو أكثر.
وفي تلك المدة (1803-1804) تنقل محمد أبو المرق بين ديار بكر وحلب. وكان واليها آنذاك إبراهيم باشا المصّل، الذي تزوج ابنته. ثم عين إبراهيم باشا والياً على دمشق، فجاء محمد أبو المرق إلى المدينة ضمن حاشية الباشا. ولما توفي الجزار في السنة نفسها (1804) وصل الإثنان، بحسب أمر السلطان، إلى مشارف عكا لاستخلاصها وحكمها. لكن الدولة العثمانية غيّرت موقفها وعينت سليمان باشا، أحد مماليك الجزار، خلفاً له على عكا. في تلك الفترة واجهت الدولة تحدياً سياسياً ودينياً تمثل في احتلال الوهابيين للحجاز ومنعهم المسلمين من أداء فريضة الحج إلا وفق شروطهم. وانتهز أبو المرق الفرصة وقدم إلى الدولة عرضاً تعهد فيه بفتح بلاد الحجاز وتسليك طريق الحج شرط أن يعطى حكم يافا وغزة والرملة واللد والقدس ودعماً مادياً قدره 7500 كيس (الكيس يساوي 500 غرش أسدي).
جاء محمد أبو المرق إلى المنطقة وضبط الألوية التي وُجهت عليه سنة 1220ه/1805م. وأخذ يتظاهر بالتحضير لقيام الحملة على الحجاز من غزة، عن طريق معان. وطالت مدة التجهيز للحملة. وكانت الدولة كلما حثته على الإسراع تذرع بالصعوبات ووعد بقرب خروجه في مهمته. ومضى أكثر من عام واحد ولم يفعل أبو المرق شيئاً لفتح طريق الحج للمسلمين. وبدلاً من ذلك شدد قساوته على الحجاج المسيحيين، فازدادت الشكاوى من ظلمه وقساوته. وتوجه الأهالي بالشكاوى إلى والي صيدا، سليمان باشا العادل، فكتب له هذا ينصح له وينهاه عن أفعاله، فلم يرتدع. وعندما مر الوقت، واقتنعت الدولة بأن أبو المرق خدعها واستغل أموالها، حل غضب السلطان عليه، وصدرت الفرمانات بتوبيخه وتعزيزه. ومن جملة ما جاء: «إنه قد كثر شاكوك وقل شاكروك ولذلك صرت مستحق القصاص على ما قدمته يداك.»
وألقى السلطان على والي صيدا، سليمان باشا، مهمة محاربة محمد أبو المرق إنزال أقصى العقوبة عليه. واستعان سليمان باشا بمشايخ المناطق المجاورة لمحاربة أبو المرق الذي تحصن في يافا، وأرسلت الأوامر من عكا إلى يوسف الجرار والشيخ عبد الهادي أبو بكر، شيخ وادي الشعير، ومشايخ بني صعب، وغيرهم، فانضموا إلى جيش الوالي. وطالت مدة الحصار على أبو المرق في يافا، فقرر سليمان باشا إرسال قوة جديدة بقيادة محمد آغا أبو نبوت لإتمام المهمة وفتح المدينة. وتدخل محمد علي، حاكم مصر، عند السلطان وشفع لأبو المرق لكن من دون جدوى، وحين يئس هذا هرب من يافا بحراً مرة أخرى، ووصل إلى مصر، حيث نزل ضيفاً على واليها.
بقي محمد أبو المرق في ضيافة محمد علي عدة شهور، لكنه حين يئس من وساطة مضيفه لدى الباب العالي، سافر إلى حلب حيث كانت له هناك علاقات قديمة، كما ذكرنا. وعاش في حلب أعواماً عدة حتى اتُّهم بإثارة الفتن بين الإنكشارية ووالي المدينة، فأُعدم بموجب فرمان سلطاني سنة 1227ه/1812م، بحسب رواية الشهابي. لكن إبراهيم العورة ذكر في تأريخه لسليمان باشا العادل ما يناقض رواية الشهابي. فحين توفي علي باشا، نائب الوالي، جاء المعزون إلى عكا من جميع البلاد المجاورة. ومن ضمن التعزيات ذكر المؤلف كتاب تعزية من محمد بابا أبو المرق أشار فيه إلى ضيق حاله وحاجته، فأرسل سليمان باشا له جواباً لطيفاً وأهداه 7500 غرش. وفي السنة التالية أيضاً (1232ه/1816-1817م) أرسل أبو المرق تحريراً ثانياً بخط يده يلتمس المساعدة. ومن جملة ما كتبه بيت شعر يقول فيه:
مـــن عـــود النـاس إحســـانـا ومـكرمــة لا يعتبـنّ عـلـى مــن لــحّ فـي الطلــب
وذكر العورة أن سليمان باشا جاوبه جواباً لطيفاً هذه المرة أيضاً، وأرسل إليه إكرامية بقيمة 7500 غرش، فكانت تلك الرواية آخر ما وصلنا من أخباره. وهكذا، بينما اتفق المصدران على أن أبو المرق أنهى حياته في حلب مغضوباً عليه من الدولة وفقير الحال، فإنهما اختلفا في سنة وفاته. ولو اعتمدنا على هذين المصدرين فقط لكان علينا الإختيار بين الروايتين، وكنت أميل إلى رواية العورة. لكن سجل المحكمة الشرعية يعطي الجواب الفصل في هذه المسألة، ولا يترك مجالاً للحدس أو التخمين. فالصفحات الأخيرة من السجل رقم 295، والصفحات الأولى من السجل الذي يليه، حافلة بالفرمانات والأوامر والحجج المتعلقة بتركة محمد باشا أبو المرق والي جرة سابقاً. وقد صدرت الفرمانات والأوامر لكشف وتسجيل أملاك وعقارات أبو المرق في محرم 1228ه/ كانون الثاني (يناير) 1813م، وهو ما يؤكد رواية الشهابي من أن أبو المرق أُعدم بأمر سلطاني في نهاية سنة 1227ه/ سنة 1812م.
أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
عادل مناع