الخالدي، يوسف ضياء باشا: (1258-1324ه/ 1842-1906م)
(رئيس بلدية ونائبها في مجلس المبعوثان الأول 1877-1878. سياسي قدير وخطيب جريء ناصر الإصلاح والدستور، وعارض السياسة الحميدية. كان كاتباً مثقفاً منفتحاً على الحضارة الأوروبيــة. وقد تنبه إلى أخطار الحركـة الصهيونيـة وكتب في ذلك إلى زعمائهـا وعلى رأسهـــم هيرتسل. وبالجملة، فهو من أبرز أعلام فلسطين الأفذاذ المغمورين في تاريخ فلسطين في القرن التاسع عشر.)
هو يوسف ضياء الدين بن محمد علي، قاضي مرعش وأرضروم، وحفيد موسى الخالدي، قاضي الأناضول، من ناحية الأم طلب العلم صغيراً في جوار الأقصى، وأراد إتمام تحصيله في الأزهر لكن والده رتب له، عن طريق مطران الكنيسة الإنجيلية في القدس، أن يدرس في الكلية البروتيستانتية في مالطا، فبقي في الكلية عامين حتى تدخل أخوه الأكبر ياسين ونقله إلى الآستانة لدراسة الطب فيها. لكن دراسة الطب لم تستهوه، فتركها بعد عام واحد، والتحق بكلية روبرت الأميركية للهندسة، التي أسست سنة 1863. وترك تلك الكلية بعد عام ونصف العام بسبب وفاة والده، وعاد إلى القدس. وشاهد في الآستانة افتتاح المدارس الحيدثة ونمر حركة الإصلاح والتطوير، فحاول تطبيق ذلك في القدس. ونجح سنة 1284ه/1867م، وبمساعدة من راشد باشا، والي سوريا، في إنشاء أول مدرسة رشدية في القدس، بعد جهود كبيرة. لكن، يوسف أصيب بشيء من خيبة الأمل لأنه لم يعين مديراً للمدرسة، بل تسلم زمامها تركي جيء به من استنبول. وعرض على الخالدي منصب رئيس بلدية القدس فقبله وتقلده أعواماً ستة. وفي عهده نفذت مشاريع كثيرة لتطوير المدينة مثل إصلاح وإنشاء الشوارع ومد شبكة المجاري، وتعبيد طريق صالحة لسير العربات بين القدس ويافا، بالتعاون مع متصرف القدس. واختلف مع كامل باشا، متصرف القدس الجديد، وبتدخل والي سوريا راشد باشا، عُزل المتصرف المذكور عن منصبه.
وفي بداية سنة 1874 عين صديقه راشد باشا، من حزب الإصلاح، وزيراً للخارجية، فدعي يوسف ضياء إلى الآستانة كي يعمل ترجماناً في الباب العالي. وعمل في وظيفته تلك ستة شهور فقط، عُين بعدها نائباً للقنصل العثماني في بوتي، الميناء الروسي على البحر الأسود. لكن حين أقصي راشد باشا عن وزارة الخارجية خسر يوسف الخالدي منصبه. وأراد يوسف أن يتعرف إلى البلاد الروسية فقام بزيارة لها مر خلالها في أوديسة وكييف وموسكو ثم بطرسبورغ، وسافر منها في نهاية كانون الثاني (يناير) 1875 إلى فيينا، حيث كان راشد باشا سفيراً لبلده. وفي فيينا حصل يوسف ضياء، بمساعدة صديقه السفير، على وظيفة مدرس اللغة العربية في مدرسة اللغات الشرقية.
وفي تلك الفترة المبكرة من شبابه، أظهر يوسف اهتماماً بالأمور السياسية وشؤون الطوائف الدينية في القدس، وعلى رأسها الطائفة اليهودية. ففي آب (أغسطس) 1875، وحين كان في فيينا، كتب رسالتين بشأن أوضاع اليهود في القدس نشرتها جريدة The Jewish Chronicge البريطانية، يعقب في الأولى على تقارير مراسل الصحيفة عن أوضاع اليهود الصعبة في القدس، وكان عددهم آنذاك خمسة عشر ألفاً. أما رسالته الثانية فكانت في مناسبة زيارة الصهيوني الثري موشيه (موزس) مونتفيوري لفلسطين، ينصح له فيها بمساعدة أبناء طائفته عن طريق بناء المدارس لتعلّم صنعة مثمرة، ولا سيما الزراعة، فيعيلوا عائلاتهم بشرف بدلاً من انتظار أموال الجباية السنوية «حلوكاه» وتوزيعها عليهم.
وفي تلك الرسالتين تظهر شخصية يوسف وفلسفته الإنسانية المتنورة البعيدة عن التعصب. فقد كان عثمانياً مسلماً لكن إصلاحياً يريد بناء الإنسان الحر بمحاربة الجهل، أكبر عدد للإنسان، بغض النظر عن عقيدة هذا الإنسان الدينية. وفي آب (أغسطس) 1875 عاد يوسف إلى القدس لترتيب بعض الأمور العائلية. لكن إقامتها امتدت، فتأجلت عودته إلى فيينا، واختير مرة أخرى لرئاسة البلدية. وفي بداية سنة 1877 اختاره مجلس إدارة القدس نائباً عن المتصرفية في مجلس المبعوثان العثماني. ونافسه في المنصب عمر فهمي الحسيني، لكنه فاز عليه بالتصويت بنسبة ثمانية إلى أربعة.
عضويته في البرلمان:
لم تقتصر أفكار يوسف الخالدي الإصلاحية والليبرالية على مجالي النهضة الثقافية والإجتماعية، بل تعدتها إلى أمور السياسة والحكم. وقد كان النائب الوحيد عن فلسطين في أول برلمان عثماني، وواحداً من أربعة عشر عضواً عربياً من بين أعضائه المئة والعشرين. وخلال الدورتين القصيرتين لذلك المجلس، في 1877-1878، أثبت أنه أحد الأعضاء النشيطين والمتحمسين لفكرة الدستور والإصلاح، وبرز في مقاومته ونقده لسياسة السلطان عبد الحميد وفي ازدرائه للدستور. وقد تنبه إلى مواقفه الجريئة مراسلو الصحف، فنشروا تصريحاته ونبذاً من أقواله في البرلمان. وفي 13 أيار (مايو) 1877 وصفه يوجين شيلر، القنصل الأميركي في العاصمة العثمانية، بقوله:
«لقد أثار يوسف زويعة في البرلمان بجرأته وفصاحته ولدهشتي إنه يتكلم الإنكليزية والفرنسية بطلاقة. يوسف ضياء ليبرالي مثل جمهوري فرنسي في السياسة والدين. ورغم كونه مسلماً فإنه اختار العيش داخل دير يوناني. إنه ينتقد السلطان والموظفين الفاسدين والأتراك بشكل عام بألفاظ فظة، وليس هذا بغريب فهو عربي والعرب لا يحبون الأتراك.»
لكن السلطان عبد الحميد، الذي ضاق ذرعاً بالبرلمان والدستور ونقد المعارضة لسياسته، قرر حل البرلمان في 13 شباط (فبراير) 1878. وبعد يومين، تقرر نفي عشرة أعضاء بارزين من المعارضة، كان على رأسهم يوسف الخالدي، أحد أخطر ثلاثة في قيادة المعارضة. وذهبت الإحتجاجات التي أثارتها تلك الخطوة سدى، وركب أعضاء البرلمان السفينة «فارس» النمسوية، التي غادرت ميناء إستنبول في 20 شباط (فبراير) 1878.
وظائفه وأعماله الأخرى:
وصل يوسف الخالدي إلى ميناء يافا في 14 آذار (مارس) وانتقل منها إلى القدس، فتسلم رئاسة البلدية مرة أخرى. وفي تشرين الأول (أكتوبر)، أرسله رؤوف باشا على رأس أربعين فارساً لإحلال النظام في الكرك. لكن المتصرف كان في الوقت نفسه يخطط لإقصاء بعض الشخصيات القوية عن المدينة، وعلى رأسهم يوسف. وفي خريف سنة 1879 وأتت المتصرف الفرصة لذلك، حيث جرت انتخابات جديدة لمجالس الإدارة والمحاكم المحلية. فأُعيد يوسف ضياء عن رئاسة البلدية وعُين عمر فهمي الحسيني، منافسه في تلك الوظيفة، وفي عضوية مجلس المبعوثان قبل ذلك. وسافر يوسف إلى فيينا في أواخر أيلول (سبتمبر) 1879، بعد أن استقال من رئاسة البلدية، بحسب ما كتب مراسل «الثمرات» في القدس. وفي السنة التالية أصدر في فيينا ديوان لبيد العامري، الشاعر المخضرم. وكان يوسف الخالدي قد عمل على جمعه وتقديمه للمطبعة حين درس العربية في مدرسة اللغات الشرقية. وقد اعتمد المستشرق الألماني هوبر تلك الطبعة في نقل شعر لبيد إلى الألمانية سنة 1891.
وعن تعيين يوسف ضياء مدرساً في جامعة فيينا، جاء في جريدة «الجوائب» التي كانت تصدر في الآستانة [العدد 984، 7/1/1880] ما يلي:
«ذكر في جرنالات أوستريا (النمسا) أن حضرة عزتلو يوسف ضياء أفندي الخالدي، الذي كان مبعوث القدس الشريف بالآستانة، عُين الآن معلماً للغات الشرقية في مدرسة ويانه (فيينا) الجامعة. وزار البارون هايمر لي كبير وزراء دولة أوستريا والبارون روتشيلد الصرّاف المشهور وذاكره ملياً في أحوال القدس وأخبره بمكانة اليهود هناك وبمستشفياتهم وأشار بأنه يسعى في مد سكة الحديد من يافا إلى القدس فيظهر من ذلك أن الغربة لم تلهه عن السعي في نفع بلاده.»
وفي سنة 1881 عاد يوسف ضياء إلى فلسطين وعُين قائمقاماً في يافا، ثم في مرجعيون في السنة التالية. وبعدها عُين حاكماً على مقاطعة موطكي في الشمال الغربي من بتليس (في الشمال الشرقي من تركيا)، التي يسكنها الأكراد. وهناك أتقن اللغة الكردية، فوضع بعد ذلك قاموساً وصدر في الآستانة سنة 1310ه/1892-1893م تحت اسم «الهدية الحميدية في اللغة الكردية». ويظهر أن يوسف تصالح مع الباب العالي والسلطان عبد الحميد، فعاد إلى الآستانة للعيش فيها. فقد ذكره السياسي والكاتب البريطاني أمري في مذكراته، My Political Life (ص 69-70)، بقوله:
«إن يوسف ضياء، كشاب متحمس، تمتعع في الماضي بحرية واسعة في البرلمان في نقد الدولة وسياستها، وذلك يعود إلى أن عزت باشا، سكرتير السلطان عبد الحميد، بدأ حيات في بيت الباشا. وحتى في قصر السلطان، وبحضوري، كان هذا الباشا الصريح يردد على مسامع عزت باشا الحديث عن شرور نظام عبد الحميد، وهذا يسمعه بخنوع ويطلب منه فقط ألا يرفع صوته عالياً.» كما قال عنه السياسي البريطاني المذكور في كتابه: «إن هذا الباشا العربي العجوز (سنة 1896) طبعه الحلم والكرم، وكان لطفه وكرمه يغمران حتى الجواسيس الذين يترقبون خطواته خارج بوابة داره.» وقد تردد يوسف ضياء على مجلس الشيخ جمال الدين الأفغاني في تلك الأعوام حتى توثقت بينهما عرى الصداقة. وقد نشرت جريدة «الجامعة الإسلامية»، بتاريخ 14 كانون الأول (ديسمبر) 1934 صورة لـ «جمال الدين الأفغاني على فراش الموت (سنة 1897) وإلى جانبه صديقه وصفيه الفيلسوف الكبير يوسف ضياء الدين باشا.»
يوســـف ضيــــــاء والصهيونيـــــة:
رأينا في الصفحات السابقة أن يوسف أظهر اهتماماً بالغاً في أمور السياسة والحكم عامة، وأيد الإصلاح والتطوير، وخصوصاً موطنه القدس. وبعد المؤتمر الأول للحركة الصهيونية ومحاولاتها المنظمة في تطبيق المشروع الصهيوني على أرض فلسطين، تنبه يوسف الخالدي إلى هذا الخطر، وكتب في الأول من آذار (مارس) 1899 رسالة إلى تيودور هيرتسل بالفنسية، بوساطة صدوق كاهن، حاخام الطائفة اليهودية في فرنسا وأحد زعماء الحركة الصهيونية. وجاء في رسالته تلك:
«الصهيونية نظريا فكرة طبيعية وعادلة تماماً كحل للمشكلة اليهودية، لكن لا يمكن التغاضي عن حقائق الواقع التي يجب أخذها بالحسبان. ففلسطين تكون جزءاً لا يتجزأ من الإمبراطورية العثمانية، وهي مأهولة اليوم بغير اليهود. ويقدس هذه البلاد أكثر من 390 مليو مسيحي وثلاثمائة مليون مسلم. فبأي حق يطالب بها اليهود لأنفسهم؟ إن الأموال اليهودية لن تستطيع شراء فسطين. ولذا فإن امتلاكها لن يكون إلا بقوة المدافع والسفن الحربية. إن الأتراك والعرب يعطفون على اليهود بشكل عام. ولكن هناك منهم من أصيبوا بحمى الكراهية لليهود مثلما حدث في أرقى الشعوب المتحضرة. كما أن المسيحيين العرب، لا سيما الكاثوليك والأرثوذوكس، يكرهون اليهود بشدة. لذا حتى ولو حصل هيرتسل على موافقة السلطان عبد الحميد على المخطط الصهيوني، فعليه ألا يفكر بأنه سيأتي اليوم الذي يصبح فيه الصهيونيون أسياد هذه البلاد.»
ثم يضيف يوسف الخالدي بعد ذلك استنتاجه ونصيحته:
«لذلك، فمن الضروري من أجل سلامة اليهود في الدولة العثمانية أن يتوقف تنفيذ المخطط الصهيوني عملياً. إن العالم واسع الأرجاء وفيه كثير من البلاد غير المأهولة والتي يمكن إسكان ملايين اليهود المساكين فيها، ولعلهم يجدون فيها السعادة والحياة الآمنة كشعب. وقد يكون هذا الحل الأمثل والمعقول للمشكلة اليهودية. لكن بحق الله اتركوا فلسطين بسلام.»
ورد هيرتسل على رسالة الخالدي في 19 آذار (مارس) 1899. واقترح في رسالته أن يعيش اليهود بسلام في الدولة العثمانية، مقللاً من أهمية الصعاب والمشكلات التي قد تثور مع العرب. ثم يضيف: «إن الصهيونيين لا ينوون تجريد العرب من أملاكهم بل العكس فإنهم سوف يثرون من جراء إدخال الأموال اليهودية للبلاد.» ويظهر أن هيرتسل حاول أن يوسط يوسف عند السلطان عبد الحميد للموافقة على المخطط الصهيوني، ولذا ينهي رسالته بقوله: «إذا لم يوافق السلطان عبد الحميد على الخطة الصهيونية لتمويل ديون الإمبراطورية العثمانية فإن الصهيونيين سيذهبون إلى بقعة أخرى من العالم.»
ولم يكتب لهذا الإتصال الأول والمباشر بين ممثل النهضة العربية الحديثة في فلسطين وبين رئيس الحركة الصهيونية الإستمرار، لاختلاف وجهات النظر. لكن رسالة يوسف الخالدي تشكل وثيقة تاريخية بالغة الأهمية في تلك المرحلة المبكرة من بداية الصراع الصهيوني- الفلسطيني، وتثبت مدى الوعي والفهم الكاملين لمعنى الصهيونية ومغزاها وخطرها على المنطقة منذ ذلك العهد.
توفي يوسف ضياء الخالدي سنة 1906 في العاصمة العثمانية، وهو حتى آخر أيامه، مثل صديقه الأفغاني، تحت مراقبة جواميس السلطان عبد الحميد. وقد أمضى آخر سنواته يندب حظ حركة الدستور والإصلاح التي أمن بها حى آخر أيامه. وعلى الرغم من المناصب التي شغها آل الخالدي أيام عبد الحميد، فقد تدهورت مكاننته في القدس وتقدم عليهم آل الحسيني، الأمر الذي أفسح في المجال لنشوء منافسين جدد لعائلة الحسيني في القدس عشية الحرب العالعمية الأولى، وهم آل النشاشيبي.
أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
عادل مناع