تقرأ رواية "حديث القريتين" الصادرة مؤخرا، للكاتب غالب محمد سمرين، سيرة المأساة الفلسطينية من إحساس الفرد الجزئي، إلى الإحساس العام للشعب المرتبط بأرضه، معاينا التبدل الكبير الذي طرأ على فلسطين في النواحي الإنسانية والحياتية والاقتصادية.
والرواية تمثلُ قصة كل فلسطين، وهي قصة الجيل الجديد الضائع التائه بين شتى النزاعات، الذي يتعلم الصدق كما يتعلم الدجلّ، يتعلم الحب كما يتقن الكُره. هي بعد كل هذا قصة الرغبة في النهضة التي تكبلها مطامع الخونة وجشع وتسلط اللامنتمين.
"حديث القريتين" سيرة شعب في أحلك فترات حياته لما حَفِلَت به من عوامل البقاء والفناء، والرواية توحي بأن سبب كتابتها نبع من المعاناة التي أحسها الكاتب، خصوصا وأنَّ حالة الشعب المشرد وقضيته ومحنته ما تزال ماثلة واضحة للعيان من دون أن تحرك في المجتمع الدولي أي مشاعر إنسانية أو تعاطف اجتماعي رقيق.
تمثل الرواية نظرة ارتدادٍ نحو الماضي استحضره الكاتب وجعلنا نقرأه، مُدمجاً مع حاضر يزهق الأرواح ومستقبلٍ ستقرأ صورته القاتمة من وجهة نظر يتحكم فيها مفهومه وموقفه من مجتمعه. كل هذا في صيغةٍ تكتسب جماليتها لتشد القارئ إلى النص الروائي ليصبح شريكا فيه.
واستندت الرواية في استجلائها للوقائع التاريخية وللنضال الوطني ضد الظلم والطغيان الذي مارسه الحكم التركي ومن بعده الاحتلال البريطاني والاستيطان اليهودي، على الميراث الشفوي ومعه كل السبل المتاحة للمعرفة، منفتحا على التاريخ والمجتمع والسياسة لتشكل المادة التي يُراد التعبير عنها. وهي الصورة لما يصطرع في الحياة المعيشية في قضايا وصراعات تعبر عن الجماعة من خلال الفرد، وواقع الفرد من خلال الجماعة. واستكملت الروايةُ صورتها بتوفر المادة المستندة إلى المقروء والمرئي وهو ثقافة الكاتب الذاتية والمحكي على لسان شهود العيـان.
ورأى الكاتب التاريخ بأساليب جديدة، ووجد أهمية عميقة في معاني الحياة حوله. إن ما يعنيه هو علاقة ذلك الماضي بعملية التطور التاريخي الذي أسلمنا إلى حاضرنا البائس. فالرواية تعج بالعديد من الشخوص وعشرات الأحداث والوقائع والتفاصيل. والكاتب ينقلنا بين تلك الأحداث والوقائع والتفاصيل في ذلك الزمان وهذا الحاضر المؤلم. وينجح في إظهار جوهر الموضوع عن طريق اختياره لتلك الوقائع والتفاصيل وعرضها للقارئ.
وقدَّم الكاتب الشخصيات بواقعية كما هي بالحياة لدرجة أنه نجح في تصويرها إلى المستوى الذي يجعل القارئ لا ينساها. فهو يستعرضها فيصفها وصفاً تصويرياً ربما ليقول بأن قيمتها تكمن في مقدرتها على نقل الأفكار إلى حيز الوجود.
ويغلب على الرواية السرد والوصف ويسيطر عليها جو من الاسترسال والتلقائية في التعبير يمتاز بها الكاتب على الرغم من أنه بدأ أسلوبه بما فيه من التصعيب في البناء اللفظي ومن التلاعب بالتركيب والإكثار من الجمل المعترضة، كما ويغلب عليها العاطفة بما فيها من حنين وأسى وذكريات على الرغم من جدية الموضوع.
وتبدو لغة الكاتب ذات طبيعة مضمونية يركز فيها على الاسترجاع والتمهيد والتكرار، وكذلك على التشخيص الذي يتضح بالصور والأخيلة، ويعتمد على المحكي وعلى الأوصاف والمشاهد الاشتمالية.
ولم يغفل الكاتب تضمين روايته شتى أساليب البلاغة كالتورية كما في "حديث القريتين" فـ "حديث" لفظ مفرد له معنيان قريب ظاهر غير مراد وهو "تواصل" وبعيد خفي هو المراد وهو"جديد"، وكما هو في مثال آخر (رشدان وما هو برشدان) فـ "رشدان" لفظ مفرد له معنيان قريب ظاهر غير مراد وهو "اسم الشخص" وبعيد خفي هو المراد وهو "الواعي"، والجناس كما في (السهول والحقول) والطباق كما في (نجاستها وطهرها) و(نسيت ولم أنسَ)، والاقتباس القرآني كما في (حتى يطهرن) والاقتباس اللهجي Dialect Borrowing كما في (ترى أبوك وعمك خُوتْهُم ما مثلها) و(كان عمك رشدان ترميه بأخر الطَّعِش) الخ من لهجة "حبوس" البدوية وهي تسرد قصة العم رشدان، والتي ألقى الكاتب الضوء عليها كما لو كانت درسا في علم اللغة والصوتيات. والتشبيه كما في (غرف كالأكواخ) و(ساقونا كالدواب) و(فيكون مصيري مصير أولاد مصلح الحْمَيِّد)، والكناية كما في (الرحيل مع الطيور) و(حتى استوت شمسه كبد السماء)، والسخرية كما في (إذ رفض جهينة إعلامهم) وكذلك التكرار الذي يعتبر إحدى ركائز تأكيد المعنى والجمل الخبرية التي تعمل على تقرير الفكرة وتثبيت المعنى.
إن رواية "حديث القريتين" غنية باللقطات الجميلة التي ركزت على الزاوية التي يريد الكاتب إظهارها. وكذلك الحبكة القصصية والجو النفسي الذي ينقلنا إلى جو حياة الناسِ رجالهم ونسائهم، وأسلوب العيش الذي لا جديد فيه. كل ذلك يؤكد أن نسق الرواية الفني لم يُقصد به إلا أن يكون نابعا من الفكرة ذاتها ومن الشخصية.
جريدة الغد - عمان
3/1/2010