سنعود قريباً بإذن الله، وأرى أرضي في كل ليلة
لن نهاجر مرة ثانية حتى لو قتلونا جميعاً
حوار وائل المناعمة - غزة
«بلادي قطعة من الجنة على الأرض، فيها الخير والسعادة والهناء، يخرج من أرضها زهر النرجس والأقحوان والحنون، فيها البرتقال والتفاح والمشمش والعنب والتين، فيها تشعر بالأمن والأمان وراحة البال، فيها ذكريات كل ما هو جميل، أحسنّا فيها إلى جيراننا اليهود، وتعاملنا معهم بديننا وأخلاقنا، لم نتوقع منهم الغدر والخيانة».
بهذه الكلمات بدأت الحاجة صديقة عبد الجليل محمد حسن من أسدود حديثها إلينا، وعن ذكرياتها في قريتها، عن آلامها وآمالها بالعودة حيث هاجرت منها وهي في السابعة عشرة من العمر.
أسدود
سألنا الحاجة صديقة عن قريتها وعن أرضها وخيرها، فتنهدت وراحت ببصرها بعيداًً ثم قالت: أرض أسدود زراعية خصبة فيها خيرات كثيرة، ففي الشتاء نزرع القمح والشعير والعدس والذرة البيضاء، وفي الصيف نزرع الخضروات والفواكه، وكان في أسدود خمس عشرة بيارة لجميع أنواع الحمضيات كالبرتقال والكرافوت والماندلينا والليمون الحلو والمالح، وفي أسدود الكثير من الأشجار المثمرة كالتفاح والمشمش واللوز والعنب والتين والجميز، ويخرج من أرضنا أزهار جميلة لها رائحة عطرية مميزة كالنرجس والحنّون والأقحوان.
موسم الحصاد
كانت لنا أعياد نفرح بها ويشترك الكبير والصغير والرجل والمرأة، ومن هذه الأعياد موسم الحصاد. وأضافت الحاجة صديقة: كانت المرأة تعمل بجانب الرجل وتساعده في عمله على مدار العام، خاصة في موسم الحصاد، إذ كنا نخرج إلى المارس (الأرض الزراعية) لنبدأ بجمع العدس أولاً، ثم القمح، ثم الذرة والسمسم، ويأتي التجار من كل مكان ليشتروا الغلال، وكانوا يحملون السمسم للمعاصر في غزة وبيت دراس (لصناعة الحلاوة والطحينة)، ويحمل أهل البلد من الرجال ما يزيد على حاجتنا بعدالتخزين على الجمال لبيعها في يافا والفالوجا، ويشترون ما نحتاج ، وخاصة أدوات الفلاحة كالنير والمنساس والسكة وغيرها.
التعليم والصحة
وفي سؤالنا عن حال التعليم والصحة في القرية قالت الحاجة صديقة: كان عندنا مدرسة للأولاد تقدم خدمة التعليم من الصف الأول حتى السادس الابتدائي، يذهب إليها أطفال القرية، ومن أراد إكمال دراسته بعد ذلك يذهب إلى غزة، وقبل الهجرة بسنة واحدة تم بناء مدرسة للبنات لم نفرح بها كثيراً.
واستطردت في حديثها عن الوضع الصحي في القرية مؤكدة وجود عيادة واحدة للعيون في أحد منازل القرية اسمها (دار البيك) يحضر إليها طبيب من غزة وآخر من المجدل، ويذهب المرضى إليها للتداوي، أما في الحالات المرضية الصعبة فيذهب المرضى إلى مستشفى المعمداني في غزة للعلاج، وكنا نتداوى بالأعشاب من حولنا مثل غَلْي أغصان الكينا وشربها، ونشفى بإذن الله.
الأعراس والمناسبات
«أعراسنا جميلة لم نعد نراها اليوم، كان العرس يستمر سبعة أيام ولياليها، ويحيي السامر هذه الليالي» هكذا تذكرت الحاجة صديقة مبتسمة أفراح القرية قبل الهجرة، وقالت: لم يكن العريس يرى العروس قبل الزواج إلا خلسة أثناء ذهابها أو إيابها في الطريق، وكان المهر بالعملة الفلسطينية حوالى سبعين جنيهاً، أما (طلعة العروس) فحوالى ثلاثين جنيهاً، وتُحمل العروس على الفرس الأصيلة، ويحضر أهل العريس لأخذ العروس من بيتها، حيث يقفون أمام بيت والده اوينشدون:
يا أبو العروس حن علينا الوقفة أَتعبت رجلينا
لتذهب العروس بعد ذلك إلى بيتها الجديد. وفي (الصباحية) ثاني يوم يأتي أهل العروس يحملون خروفاً معهم لبيت العريس، لتناول طعام الغداء.
وتطرقت الحاجة صديقة إلى شهر رمضان المبارك، حيث قالت: كان رمضان من أجمل شهور السنة، فيه تزداد الروابط بين الناس، وتتجمع العائلة في الديوان، وتزداد العبادة والطاعات، وكان في البلد آل السعدي عبارة عن (مسحراتي) يوقظون الناس لتناول طعام السحور الذي هو عبارة عن (القمردين) المشمش المجفف، أما طعام الإفطار فكان يتركز على الفاكهة بشكل أساسي مثل الصبّار والتين والمشمش.
وكنا قبل الهجرة نتعرف إلى المواقيت من خلال الراديو حيث دخل البلد جهاز راديو وحيد كان في قهوة غبن حيث كان الرجال يتجمعون فيها للتسامر.
النكبة
لم أدرك ما أصاب الحاجة صديقة عند سؤالي إياها عن عام النكبة، حيث اختلطت لديها مشاعر الحزن مع الألم والحسرة، وظهر ذلك جلياً في خلجاتها وتجاعيد وجهها، وخرجت الكلمات من فمها صعبة متحشرجة، حتى إني آثرت إنهاء الحوار في هذا اليوم والإكمال في وقت آخر، إلا أنها أصرت على الحديث فقالت: كان اليهود يسكنون بجوارنا وكنا خير جيران، لم نعتدِ عليهم أو نظلمهم في يوم من الأيام، بل كنا نُحسن إليهم عملاً بديننا الذي يحثّنا على إكرام الجار، وإذ باليهود يتحالفون مع الإنجليزضدنا لطردنا من أرضنا، وعندما شعر أهل البلد بغدر وخيانة اليهود قاموا بشراء الأسلحة من مالهم الخاص، حتى إن أبي قام بشراء بندقية انجليزية لمقاومة اليهود، وشكّل أهل البلد فرق لحراسة البلدة من هجمات اليهود على الحدود، ولم يجرؤ أهل البلدعلى الوصول إلى أراضيهم لمراعاتها، حتى أصبحت بوراً، وبدأ أهل الرملة وحيفا وياف اواللد يهاجرون ويسكنوا أسدود هرباً من مجازر اليهود وقتلهم للعرب، حتى جاء الجيش المصري إلى أسدود في مطلع عام 1948. ونصب الجيش المصري المدافع حول البلدة للدفاع عنها من اليهود بعد خروج الإنجليز، ولكن بعد ثلاثة أشهر ودون أسباب واضحة أبلغ المصريون المخاتير في البلدة أنهم سينسحبون غداً ونصحوهم بالهجرة وترك البلد لئلا يُجهز عليهم اليهود، وفعلاً انسحب الجيش المصري وترك البلدة دون مقاومة حتى حاصراليهود أسدود من جميع الجهات عدا طريق البحر، وأطلقوا الرصاص علينا وضربونا بالمدافع حتى استشهد سبعة من المقاومين الذين دافعوا عن البلدة حتى آخر رصاصة لديهم في سلاحهم الذي لا يقارن مع سلاح اليهود الحديث والثقيل.
بدأ الناس بجمع ما يتمكنون من حمله والخروج من البلدة وبقي فيها بعض العائلات، وعند دخول اليهود أخبروهم أن معهم أوامر من بن غوريون شخصياً بقتلهم جميعاً،
وقاموا باعتقال الشباب وطرد النساء والأطفال،وإطلاق النار على كل ما يتحرك، وهاجرنا إلى قرية حمامة، إذ ترك الناس مالهم وبيوتهم على أمل العودة، ثم خرجنا من حمامة إلى المجدل سيراً على الأقدام، ثم إلى قرية هربيا التي مكثنا فيها أربعة أيام، وعند اقتراب اليهود وقتلهم للناس خرجنا إلى غزة حيث استمرت رحلة الهجرة ستة أيام ونحن نسير على أقدامنا دون طعام أو ماء إلا ما يبقينا أحياء، وعند وصولنا إلى غزة افترشنا الأرض والتحفنا السماء لا نملك شيئاً حتى حضر الكويكرز للمساعدة وقاموا ببناء المخيمات للاجئين.
أمل في العودة
وعندما أردت أن أنهي حديثي مع الحاجة صديقة سألتها عن أملها في العودة إلى أسدود، وكدت أندم على سؤالي لشدة ما بكت، حيث ذرفت دموعاً غزيرة، وقالت بصوت متحشرج: لم أنسَ بلدتي يوماً، حتى إني أراها كل ليلة في منامي، وكأني لمأخرج منها، فهي أرضي التي عشت فيها أيام العز والهناء وراحة البال. ثم تماسكت أكث رونظرت إلى أحفادها الذين تحلقوا حولها طوال حديثي إليها، وكانوا يكملون عنها بعض الحكايات عن البلد وكأنهم عاشوها.. قالت: سنعود قريباً بإذن الله ولن يطول الفراق فالأرض أرضنا والحق لنا، وهنا قلت لها إنهم يتحدثون عن هجرة ثانية، فأجابت بسرعة: لن نهاجر مرة ثانية حتى لو قتلونا جميعاً، بعد تجرعنا لمرارة الهجرة في حلوقنا حتى يومنا هذا وسنعود قريباً بإذن الله.
أنهيت الحوار الذي لن ينتهي إلا بعودة الحق لأصحابه، وسلمت على الحاجة صديقة وودعتها وانصرفت، وهي لا تزال تحكي لأحفادها عن أسدود، وأحفادها يحفظون ما تقول، ويرسمون صورة وردية لبلدتهم التي لم يروها مطلقاً.
مجلة العودة