في الوقت الذي يحيي فيه الفلسطينيون الذكرى الـ 62 عاماً على التهجير وضياع الوطن مازال الكثير منهم يستذكر عبق البرتقال والليمون، وأصوات عصافير قراهم ورمل أرضهم الذهبي.
يجلس الحاج أحمد أبو الفول على رصيف الذكريات يقلب صفحات الحكاية ويعيد سرد تفاصيل نكبة عمرها ستة عقود.
"نافذة الخير" التقت الحاج أحمد طه محمد أبو فول وبدأت تحاوره عن تهجيره من قريته حمامة في الحوار التالي:
*بطاقة تعريفية عنك؟
أنا أحمد طه محمد أبو الفول "79 عاماً" بلدتي الأصلية حمامة جنوب فلسطين المحتلة، متزوج ولي ثلاث بنات وولد واحد، هاجرت أسرتي إلى قطاع غزة وأنا في السابعة عشر من عمري.
*حدثنا عن بلدتك الأصلية "حمامة"؟
بلدة حمامة قضاء المجدل لواء غزة وتقع في الجنوب الغربي من ساحل فلسطين قبل حرب 1948, على بعد 2 كيلو متر من الشاطئ، وعلى مسافة 3 كيلو متر شمال مدينة المجدل وعلى بعد 31 كيلومترا من مدينة غزة قريبا من الخط الحديدي والطريق الساحلي.
أراضي بلدة حمامة على شكل مربع من الأرض, طول كل ضلع 6 كيلو مترات أي 36 كيلو مترا مربعا أي ما يعادل 36 إلف دونم، وتبلغ مساحتها يزيد عن 41 ألف دونم حتى عام 1948م، ويبلغ عدد سكانها أكثر من 12 ألف نسمة.
واعتمد أهالي البلدة على الزراعة والصيد وذلك لكونها تقع على شاطئ البحر ولكبر مساحتها الزراعية، وتعود أهمية حمامه الزراعية لأنها تمتد وسط منطقة يزرع فيها الحمضيات والعنب والتين والزيتون والمشمش واللوز والجميز والبطيخ ومختلف أنواع الخضار والحبوب، بسبب ملائمة المناخ لزراعة الحمضيات في حمامه فقد اهتم أهاليها بزراعة الحمضيات أو ببساتين البرتقال.
*هل لك أن تُحدثنا عن طبيعة الحياة في "حمامة"؟
اتسمت حياتنا في بلدة حمامة بالبساطة والتواضع، فأهالي البلدة كانوا يعتمدون على أنفسهم في إعداد الطعام وصنع الملابس، وكانت النساء تلبس الثوب المطرز أما الرجال فكانوا يرتدون العباءات والطربوش. وتعتبر عائلة كلاب و مقداد من أكبر العائلات الفلسطينية التي البلدة.
وكان لشهر رمضان نكهة خاصة فأهالي البلدة يجتمعون عن المختار بعد صلاة المغرب ويجلبون معهم الطعام والشراب ونتسامر حتى منتصف الليل, وفي أغلب الأحيان كانت تجتمع العائلات في وقت الفطور ويجهزوا الفطور معاً أما السحور فكانت كل أسرة لوحدها.
وكانت توجد مدرسة ابتدائية للبنين، وأخرى للبنات وكانت تقع على طرف البلدة من جهة الشمال الغربي، وهي مبنية من الآجر والاسمنت والحجارة بعكس غالبية بيوت البلدة المبنية من الطين اللبن المخلوط بالقصل لتقويته _القصل هو التبن الخشن الذي كان يحصل عليه الناس عادة بعد درس المحاصيل الزراعية_ وبعض البيوت بنيت من الاسمنت والحجارة والبازلت.
كان يوجد في البلدة أربع أبار للمياه نستخدمها للشرب والطبخ والغسيل ولري الأشجار، وتعود ملكية هذه الآبار لعائلة أبو عوده والشيخ عوض، كانت مهمة نقل المياه للبيوت على النساء والفتيات عن طريق جرار الفواخير، والرجال ينقلوها المياه للأراضي الزراعية على ظهور الدواب و الحمير والأبقار.
* كيف كانت البلدة قبل هجرة 48؟ وهل كان الأهالي على وعي وإدراك للمخططات الإسرائيلية للاستيلاء على الأراضي الفلسطينية؟
كان الأمن والأمان يسود بلدة حمامة ولم نكن نعرف لغة الحرب والسلاح، وأهالي البلدة كانوا لا يتقون سوى الزراعة والحرث والصيد ورعي الأغنام، والمحبة تسود الجميع سواء الفقراء أو الأغنياء، وكان أهالي القرى القريبة كالمجدل وبيت دراس والجورة يتبادلون الزيارات مع بعضهم البعض ويقدمون الهدايا من محاصيلهم الزراعية كالفواكه والحمضيات.
وقبل النكبة كان هناك أرض تسمي "جعل" وهي قريبة من مدينة أسدود وهي أرض بور مليئة بالحجارة والحصمى وتقدر بـ 150 دونم" واشتراها رجل فلسطيني من عملاء اليهود وقام بتنظيفها وتقليبها وزراعتها بالفواكه والحمضيات والخضروات واحضر مواتير المياه واشترى قطعان من الحيوانات وجاء الإنجليز واستولوا عليها وأقاموا بها مستوطنات لليهود فاكتشفنا أن هذا الرجل لم يكن سوى أحد العملاء الذين يعملون لصالح اليهود والإنجليز.
واشتعلت المناوشات بين الفلسطينيين واليهود الإنجليز حتى يوقفوا عملية بناء المستوطنات الإسرائيلية, وقامت قوات الاحتلال بارتكاب العديد من المجازر ولم يسلم فيها الحجر أو البشر وانتهكوا حرمات المساجد.
وكان المقاومون حينذاك لا يملكون إلا القليل من السلاح والعتاد، وفي أحد الأيام استطاع المقاومون السيطرة على آليتين عسكريتين واستولوا على ما فيها من أسلحة وذخائر وقتلوا جندي إسرائيلي واستشهد خلال هذه العملية جميل أبو العمرين وأصيب محمد مقداد.
* كيف جرى تهجيركم من بيوتكم وبلداتكم؟
بعد أن انسحب الجيش المصري من الأراضي الفلسطينية وأخذوا معهم سلاح المقاومين الفلسطينيين، بدأت القوات الإسرائيلية بشن هجوم على القرى الفلسطينية وقصفت الأهالي بالدبابات والطائرات وبشكل عشوائي.
لم يستطع الأهالي الصمود أمام تلك المجازر فقرر المختار رفع الراية البيضاء أمام الدبابات فأطلقوا عليه النار واستشهد على الفور، وازداد القصف على البيوت فهرب الناس تاركين بيوتهم وأراضيهم، وكانت الدبابات تلاحقنا أينما ذهبنا واستولت القوات الإسرائيلية على بلدتنا والقرى والمدن المجاورة.
وفي ذلك الوقت عاش الناس مرارة التعذيب والقتل والتهجير والعديد منهم مات جوعاً وعطشاً ومنهم من أصيب وبقي ينزف حتى أنفاسه الأخيرة.
* كيف استقبلكم أهالي قطاع غزة بعد تهجيركم من بلدتكم وقراكم؟
استقبلنا أهالي القطاع بحفاوة كبيرة وفتحت بيوتهم لنا وغمرونا بكرمهم ولم يبخلوا علينا بشيء، وساعدونا على العيش بكرامة ووفروا لنا الكثير من احتياجاتنا.
واتجه أغلب المهجرين إلى البحر لصيد السمك فهي المهنة الوحيدة التي كانت متوفرة إنذاك، فبعد أن كانت لنا الأراضي والبساتين لم نعد نملك شيء ونعمل ليل نهار حتى نوفر قوت يومنا وطعام للصغار والأطفال.
وبدأ الأهالي بصناعة الزوارق البحرية والمراكب الصغيرة وبغزل شباك الصيد، وبالفعل تمكنا من الصيد وبيع الأسماك ومن خلال هذه المهنة انتعش التهريب وبدء بعض الصيادون بتهريب المقاومين والسلاح والذخائر.
* هل زرت حمامة بعد الهجرة؟ وكيف وجدتها؟
بعد الهجرة زرت بلدتي "حمامة" خمس مرات، وفي كل مرة كانت تطأ قدمي على أرضها أجدها تختلف عن المرة السابقة، فكل معالم البلدة وملامحها تغيرت واختلفت مما كانت عليه قبل النكبة والتهجير.
المنازل تم هدمها وتغيرت والمساجد حرقوها والأراضي والبساتين جرفوها ووبنوا عليها الملاهي والمراقص والحانات، ولكن سنرجع إليها في يوم ما ونعيد الأرض لأصحابها وسنزرع البساتين بأشجار الليمون والزيتون.
* ما هي رسالتك للأجيال القادمة؟
أراضينا في الـ 48 في انتظاركم وإن لم نرجع نحن سترجعون أنتم وربما أولادكم أو أحفادكم، ودافعوا عن حقوكم في كل مكان وفي المحافل الدولية فلا يضيع حق ورائه مطالب، نحن دافعنا عن أرضنا بدمائنا وضحينا بأولادنا والآن جاء دوركم فلا تتخلوا عنها وما أخذ بالقوة لا يُسترد إلا بالقوة.
عن موقع نافذة الخير