الأرض والعِرض شيء واحد كلٌّ أغلى من الآخر، ولما وصلتنا الحرب خُيّرنا بين الأرض والعِرض فاخترنا العرض وهذا ما حدث عام 1948 حيث دفعنا ثمنه ولا زلنا ندفع, وهربنا بعرضنا عام ثمانية وأربعين وكنا صدَّقنا بأنها أيام معدودة كما قال لنا قادة الجيش المصري المحاصر في الفالوجة: "كلها أسبوعين وتنتهي الحرب". ولكن مهما طال الزمن لا بد من العودة إلى أرض الآباء والأجداد، العودة هي أمل الفلسطينيين جميعاً.
هكذا بدأ الحاج خالد أحمد سلمان أبو طَمَّاعة من مخيم العَرُّوب بالخليل حديثه مع ابن عمه زكريا إبراهيم أبو طمّاعة.
- في أي سنة ولدت يا حاج أبو ناصر؟
- ولدت في سنة 1929 في وادي الحِسِي تحديداً، في بيت والدي الكائن في "سطح جراد". وكان ترتيبي الأول بين إخوتي وأخواتي، حيث تربيت وكبرت وعملت مع والدي منذ نعومة أظافري في الحراثة والحصاد ورعي الماشية في أرضنا، ولم أدخل المدرسة لأن والدي كان وحيد الأبوين وليس له مساعد سواي، وكانت أرضنا مشجّرة بالتين والأثل والعنب والجميز، وكنا نزرع مزروعات صيفية وأخرى شتوية, وكانت عائلتنا تسكن على ما يقارب 2000 دونم للعائلة مقسمة على خمسة أخوة، وهي أرض خصبة من أجود الأراضي.
كنا عرباً نسكن في بيوت الشَّعر وبدأنا بالاستقرار في بداية عام 1940, فبدأنا ببناء بوايك (جمع بايكة) وهي بناء طوله 5×10م ولا تزال آثارها قائمة في ديارنا، وبدأت القبائل في المنطقة بالتوجه نحو الاستقرار، فبدأت بحفر الآبار وأذكر منها بئراً للحكومة الانجليزية عند تل أبو صميدع، وبئراً حفرته الحكومة عند عرب أبو حيانة، أما الأهالي فحفروا الآبار التالية:
بئر أبو روَّاع، بئر السواركة، بئر الشباكي، بئر زايد الدِّقْس، بئر عبد العزيز الدِّقْس، بئر سليمان أبو أحمد، بئر الأقرع، بئر حسن أبو جابر، بئر العمارين، بئر أبو سلعة.
وكذلك كان في المنطقة مطحنة للحبوب لحسن أبو جابر, وقبيل النكبة اشتروا آلة للحراثة (تراكتور) إلا أن الظروف انقلبت ضد العرب.
الموقع والحدود
تقع المنطقة في أرض بئر السبع، اللواء الجنوبي قرب طريق يافا - السبع، المسكن سطح جراد القرارة، يحدّها من الغرب أبو ثابت والقلازين والأشرم جنوب الدِّقْس وغرباً الدقس والنجار والسواركة شرق الدِّقْس العقايلة، وتقدر المساحة بحوالي 2000 دونم كما ذكرنا.
التعليم في المنطقة
كان عند عرب الجبارات عدة مدارس منها:
- مدرسة أبو جابر: يتعلم فيها الطالب حتى الصف الرابع وبعدها يكمل تعليمه في بئر السبع.
- مدرسة الدِّقْس: وكان يتعلم فيها طلاب المنطقة وكانت في أرض الأشرم.
- مدرسة أبو ثابت: وكان يتعلم فيها كل طلاب المنطقة.
الحرب بين العرب وإسرائيل
بدأت الحرب العربية الإسرائيلية في فلسطين وامتدت إلى اللواء الجنوبي، وكانت المنطقة الجنوبية تربطها الحدود مع مصر, فقَدِمَ الجيش المصري واتخذ من الفالوجة وعراق سويدان مركزاً له، والمنطقة كلها ملاصقة لبعضها لقربها من منطقتنا. انضم قسم من عرب الجبارات إلى المقاومة العربية فكان ذريعةً لجيش الهجاناه للهجوم على المنطقة فبدأ اليهود باحتلال برير غرباً ومن ثم تقدموا نحو الشرق تحديداً في شهر نيسان من عام 1948 حتى شهر حزيران، فأغاروا علينا الساعة العاشرة في يوم من أيام شهر حزيران بمدرعات وسيارات جيب وبالأسلحة الرشاشة ودخلوا إلى مضارب العرب وبدأوا بإطلاق النار عشوائياً من بيت إلى بيت، وقتل في هذه المعركة غير المتكافئة 12 نفراً من عائلة السواركة.
ونسفوا بئر مياه الشباكي وحرقوا البيوت على من فيها وقتلوا المواشي والبهائم من غنم وجمال وخيل وحمير، واستمرت المعركة حتى الثانية عشر ظهراً ووصل جيش الهجاناه الى المدرسة واستراحوا فيها بعض الوقت والكل ينظر إليهم، وبعد ساعة تقريباً نسفوا المدرسة. وبعدها طلبوا من السكان إخلاء المنطقة فتفرقت العرب شرقاً وغرباً, وذهبت عائلتنا باتجاه قرية الدوايمة ولم تكن محتلة بعد، وفي نفس اليوم أغاروا على منطقة أبو جابر، حسن أبو جابر تحديداً، ونسفوا بيوتهم وقصر حسن أبو جابر والمطحنة وبئر الماء والبوايك وكل شيء وصلوا إليه, واتخذ الهجاناه من تل أبو جابر موقعاً لهم بسبب ارتفاعه لأن بقية الأرض هي أرض سهلية.
وصلنا إلى الدوايمة ومكثنا هناك، وأرسلنا ونحن هناك أحد أفراد العائلة وهو عبد الله حسين أبو طمَّاعة ليرى ما يجري هناك ويأتي ببعض المواد الغذائية من حبوب وما شابه ذلك. وصل عبد الله إلى منطقة أبو جابر فلم ير أحداً على الأرض ولكنه فوجىء بأن الجيش على تل أبو جابر، فألقوا القبض عليه وحققوا معه وقالوا له هل تعرفنا؟ فقال أظن أنكم من الجيش المصري لأن المصريين كانوا قريبين من الفالوجة ومحاصرين. فقالوا له لا، نحن يهود من جيش الدفاع، لا تخف منا نريد منك توصيل رسالة إلى مشايخ الجبارات وأن تقول لهم بأن جيش الدفاع يريد منكم تسليم السلاح وأن تعيشوا في بلادكم بسلام مع الإسرائيليين.
رجع عبد الله إلى الدوايمة فبلغهم رسالة الجيش ولم يستجيبوا لمطالب العدو فالمسألة كلها مسألة وقت أسبوعين أو ثلاثة خاصة وأن الجيش المصري وبعد هذا الإنذار رجعوا إلى عائلة أبو العدوس وألقوا القبض على واحد من أفراد عائلتهم وقالوا له خلي شيخكم يسلم السلاح وتعيشوا سالمين ولم يستجب لهم. بعد ذلك تقدم الجيش الإسرائيلي إلى الدوايمة وقبيبة ابن عواد وكان العرب متفرقين وتشتتوا، منهم من ذهب إلى الخليل ومنهم من ذهب إلى غزة، أما أنا خالد وعائلتي فقد ذهبنا إلى غزة أنا وقسم من العائلة، وذهب القسم الآخر إلى الضفة وإلى الخليل في منطقة دورا تحديداً (عين فارس وعين فرعا)، وهكذا أصبحت العائلة مشتتة بعضها في الشرق وبعضها في الغرب.
وصلنا إلى غزة بعد رحلة شاقة ووصلنا أخيراً إلى منطقة خان يونس وبنينا بيت الشعر الذي كان موجوداً معنا وبعدها رحلنا إلى دير البلح ومنها انتقلنا إلى بيارة المفتي الحسيني جنوب وادي غزة وعملنا في البيارة حتى سنة 1954 وبعد ذلك رحلنا إلى مخيم جباليا حيث بدأت الوكالة ببناء مساكن مؤقتة للاجئين وأسوة ببقية اللاجئين سكنَّا في المخيم لأن حياة البدو توقفت فلا أرض لنا، ولذلك كان من الأفضل أن نسكن في المخيم.
تزوجت في سنة 1957 من ابنة عمي وقد منَّ الله عليّ بـ12 ولداً وبنتاً، مكثنا في مخيم جباليا حتى تاريخ 1-9-1971 وبعدها قررت الرحيل إلى الضفة لأن الجيش بدأ بتوسيع الشوارع وهدم البيوت ففضلتُ الرحيل فرحلت إلى الخليل وتحديداً مخيم العَرُّوب ورحل معي والدي ووالدتي اللذان ماتا بعيدين عن الوطن ودفنا في المخيم، أما الأولاد فكبروا وزوجناهم من أقاربنا في الأردن ومن المنطقة، وزوجنا البنات إلى أقاربنا وأنسبائنا في داخل الخط الأخضر إلا واحدة في غزة، وزوجتهن لكي نكون قريبين من أرضنا، والأولاد مستقلون كل واحد اشترى أرضاً وبنى بيتاً والحمد لله رغم رحلة المعاناة والتشتت فصارت ليس هجرة واحدة بل هي هجرات وهجرات. لن يهدأ بالي حتى أعود إلى وادي الحسي وطني وأنا أزورها من وقت إلى آخر أنا والأولاد وجميع من يأتي لزيارتنا من الأردن لأن 80% من العائلة موجودون في الأردن. كلما أزور المنطقة أزور قبر جدي الحاج حسين، وهو مبني.
وأخيراً وليس آخراً هذا فيض من غيض من الذاكرة كلما جاء الغروب نتذكر الوطن والشق والعائلة والأرض الطيبة، وقد أصبحنا اليوم في ليلة وضحاها لاجئين بدون وطن لا يمكن أن نرضى أو نطبّق مقولتهم "الكبار يكبرون ويموتون والصغار يكبرون وينسون" بل العكس، فرغم أننا نعيش مع الذكرى المرة الأليمة إلا أننا لا نزال نتمسك بالأمل في العودة إلى أرضنا وبلادنا مهما بعدت المسافة ومهما طال الزمن.