أبو محمد وأم محمد عامر
ياسر قدورة - صيدا
لم أجد صعوبة في ترتيب موعد الزيارة للعم أبو محمد عامر( مواليد سحماتا 1930)، فهو بحكم الجار في مدينة صيدا.. اتصلت به هاتفياً يوم الثلاثاء بتاريخ 8/3/2011، واتفقنا أن أمر به بصحبة الوالد في نفس اليوم بعد الصلاة الظهر..
بعد الصلاة كنا عنده أنا والوالد، وكان أبو محمد وأم محمد في استقبالنا، وأحبا فكرة الزيارة والهدف من ورائها.. وقد بذلنا جهداً لبناء شجرة العائلة لأن قسماً من العائلة يقيم في سوريا وأبو محمد لا يتذكر اسماء الأجيال الجديدة كلها، ولكن أم محمد كانت خير معين له في تذكر أسماء بعض الأحفاد..
بعد شجرة العائلة سألته عن استشهاد والده لأنني كنت قد قرأت في كتاب (سحماتا: زهرة من رياض الجليل الأعلى) أن " أبناء القرية يفتخرون باستشهاد محمد محمود يوسف عامر (أبو قاسم) كقائد مجموعة في ثورة الـ 36 معركة دير الأسد"... فأجابنا أبو محمد واستفاض ليحكي لنا الحكاية "من طقطق للسلام عليكم"..
" تاريخ أبوي زلمي مناضل، كان فاتح بيته للرايح والجاي.. كان وجيهاً في سحماتا وجوارها.. كان كل المناضلين لما يجيوا عالبلد ينزلوا عند محمد يوسف عامر، وكان دائماً مرافقاً للمختار محمود صالح.. في ثورة الـ 36 كان عدد المناضلين الذين يأتون للمبيت عند الوالد يصلون قرابة الـ 30 شخصاً.. كان عنا بيتين: واحد للمبيت وواحد مضافة للأوادم والجماعة الملاح..
عندما استشهد أبوي في الدير، وجدوا معه أوراق أنه فصيل ( قائد مجموعة) ومعه أسماء.. جاء ترجمان من أولاد الحلال لزعماء البلد التي استشهد فيها وقال لهم : الرجل الذي استشهد فوق اطلعوا جيبوه لأن القوة الانجليزية بدهم ياخذوه شحط وراء الدبابة من هون لعكا.. اعملو أي طريقة واطلعوا شيلوه من مطرح ما استشهد.
عندما أحضروه إلى سحماتا حطوه بره البلد، عند المرشقة.. ما استرجوا يفوتوه على سحماتا.. الجيش الانجليزي جاء وراءه، يومها حسن الشيخ محمود الجشي أصيب بطلقة في خاصرته.. جاءوا إلى البيوت ووضعوا رقما أسود لتدميرها..
يومها جاء الترجمان لأمي وسألها: ألم يكن محمد يوسف يكتب البيوت والأرض باسمك ؟ قالت صحيح ومعي أوراق الأرض..
فذهب الترجمان وقال للضابط الموجود: محمد يوسف كان معه بارودة، شو دخل مرته وأولاده ؟ هيك بالحرف الواحد. شو دخل هدول الجماعة ؟ هذا البيت مش لمحمد يوسف !! هذا البيت لثريا العبد علي قدورة . انصرفوا وحطوا على البلد 1000 ليرة جزاء ، جمعوهم من البلد ودفعهم عبد الرحيم فاعور .أما الوالد فكان ممنوع يقبر بالتربة قبل أن يأتي أمر من القيادة العامة . ظلوا ينقلوه من سهلة لسهلة ومن مغارة لمغارة . بعد 3 أشهر جابوه على تين حسن زيدان تحت البلد . أقسم بالله ممدد قدامي والكلسات اللي كان لابسهم بعدهم فوق البنطلون . شفته بعد 3 أشهر تقول كأنه محمد يوسف بعده قاعد طيب ما فيه إشي .. الذين دفنوه عبد الحميد ( أبو فريد ) ومحمد عبد الرحيم والجيران.
سألناه عن معصرة الزيت التي ذكر في كتاب سحماتا أن أحد أصحابها محمد أسعد عامر ..
فقال أنه لا يعرف عن المعصرة ولكنه حدثنا عن بابور الطحين:
" كان شراكة بين الحاجة الوالدة ( ثريا ) وخالتي ريا ودار عبد الرحيم فاعور .
كان للبابور موتور عبارة عن 32 حصان كان يأتي إليه الناس من الدير وكل المناطق . قاسم محمد يوسف ( أخوي ) كان يشارك بالشغل في البابور وعندما كان يغيب المسؤول عنه كان يديره أخوي ، وفيما بعد استلمه بنفسه. موتور البابور بحجم غرفة وله مجموعة قشط ( أحزمة ) والبابور كان يجرش برغل ويطحن قمح ، يظل يعمل من الصبح للساعة 6 مساء. كان يشتغل فيه رجل واحد فقط ، أنت تشيل طحيناتك وتحط الكيس مطرحه والعامل يلاحظ الموتور والزيت إذا كان يحتاج لشي . لما غادرنا البلد تركناه داير .. بابور الطحين كان مثل بير الذهب .. كل المنطقة تأتي إليه".
سألناه عن زريبة محمود يوسف التي أشير إليها في كتاب سحماتا فقال :
" كان عندنا صيرة ( زريبة ). جدي كان عنده صيرة استلمها بعده أبوي ، مسحها مسح .. آلاف الروس ذبحها للناس ما باع راس منها .. رعيان اثنان كانوا يعملون فيها في منطقة اسمها حواكير الصيرة، في المنطقة الشرقية قبال دار موسى .. والبلد كان فيها 3 أو 4 صير".
سألناه عن سمية عامر فقال : هي عمتي أخت أبوي قتلت في البيت .. عندما استشهدت كنا صرنا طالعين من البلد .
هنا تتدخل أم محمد لتقول :" كنا قاعدين تحت الزتونة ، إجت الطيارة وصارت تضرب وهي ( سمية ) كانت بالبيت وصارت الشظايا تتنعنف. احنا طلعنا صوب البقيعة ونسينا أخوي عمره 40 يوم بالبيت ، وعندما وصلنا على طيريا قالت أمي نسينا الولد بالبيت . لما رجع أبوي ليجيب الولد وجدها ( سمية ) صارت ميتة وأم وليد خالد أيوب تصاوبت وجابوها على مستشفى صور".
سألناه عن سنة النكبة عام 1948 :
" كان أهل سحماتا يقاتلون وكانوا ينتقلون على دفعات صوب معركة ترشيحا وجدين . أنا حملت بارودة بسحماتا وكنت مع المكافحة وكنت مع أحمد اليماني عسكري". ويحكي لنا أبو محمد عن استشهاد محمد عبد الرحمن قدورة ويقول : " كان مصاوب .. كان يقاتل بجدين ، وحكوا اللي كانوا معه أن اليهود كانوا يركضون أمامه مثل الاولاد الصغار .
كان مصاوب ، مش يطلع بره !! إجا وقعد بالبيت .. أخذوه اليهود وجابوا أبوه وكانوا جامعينهم في الباط أمام البركة ، قالوا له : وين البارودة ؟ في موت ولاّ في بارودة ؟ قال ما في بارودة ، قتلوا محمد عبد الرحمن أمام أبوه. دفنوه في مغارة بجانب البركة ، وبعدها نقل إلى المقبرة.
أول مرة طلعنا من سحماتا على حوران في سوريا ، أقمنا شهر أو شهرين ماعرفنا نعيش ورجعنا على سحماتا ، كانت المعارك بعدها ما وصلت على بلدنا ، طلعنا بس أخوي ما طلع معنا. في العودة إلى سحماتا أخذنا سيارة من بنت جبيل أوصلتنا إلى سحماتا وأدخلنا الأواعي اللي كانت معنا إلى سحماتا وعندما خرجنا في المرة الثانية خرجنا فاضيين ( بلا أمتعة ) .. صارت القذائف تيجي على الحواكير فانسحبنا أنا وأخوي وأمي مشيا. عندنا جحش حملنا عليه فرشة وقالوا بعد 7 أيام بترجعوا ، ولا واحد فينا أخذ حرام نظيف حتى ما يتوسخ .. نزلنا على رميش وبعدين على بعلبك.
هنا تضيف أم محمد مثالا آخر على عودة الناس إلى سحماتا أثناء تلك الفترة فتحكي عن خالها ذيب محمود الذي رجع إلى سحماتا وأخذ معه كل أغراضه، وتوفي في فلسطين. رجع هو وعائلته، أمه وأخوه وأولاد أخيه ظلوا هناك ، والحاجة أم محمد عامر لا يزال لها أقارب كثر في ترشيحا. ويخبرنا أبو محمد أن أقارب أم محمد في ترشيحا عملوا لهم تصريحاً للذهاب إلى فلسطين أثناء الاجتياح الاسرائيلي للبنان عام 1982 ولكنه رفض قائلا : ( بدي أروح أبكي ؟! ما بدي .. أروح أشوف بيتي وأرضي خربانة؟! مابدي أروح).
وعند سؤاله عن اختياره بين العودة إلى سحماتا أو البقاء في لبنان إذا أتيحت له فرصة العودة اليوم فيقول : والله بترك كل شي وبروح .
صورة أحمد محمد عامر وعلى خلفيتها ختم المختار صالح علي حسن
لا يزال أبو محمد عامر يحمل في محفظة جيبه صورة له انتزعها عن هويته القديمة، ويظهر على خلفية الصورة ختم المختار صالح علي حسن بوضوح .. يحملها ويشعر أنها تربطه بسحماتا حتى اللحظة .