الحاج عودة عدوان (93 عاماً) لاجئ من قرية بربرة، هو واحد من الذين عاشوا تفاصيل النكبة وعاصروها، فقد بصره قبل سنوات، الا أن النكبة والهجرة بقيتا محفورتين في أعماقه لم يخدش منهما شيء، يصف ذكرياته من على سرير المرض، فيقول: تسألني هل أتذكر وكأنني نسيت يوما أنني أعيش في ارض غير ارضي ومنزل غير منزلي، لقد دمر اليهود قريتنا بالكامل لكنني لم أيأس يوما من فكرة عودتي، كنت شابا يافعا في ريعان الشباب ومتزوجاً حديثا، وكلي نشاط والحيوية تملأني، كيف لي أن أنسى هذه السنين الطويلة من التشرد والضياع الحقيقي؟ فقصتنا لم تقف عند أشخاص تركوا أرضهم ومنازلهم ولكن النكبات توالت على رؤوسنا وتعاظمت الضغوط وزادت علينا أعباء الحياة وتحملنا بعقولنا البسيطة وقتها وزر أمة ضاعت بين تصارع القوى ودول كبرى أمعنت فينا عذابا، ودول عربية تركتنا فريسة لليهود ينهشون لحمنا. كيف أنسى مشاعر الخوف والحسرة التي تملكتني وأكلت قلبي وأنا أغادر منزلي تاركا ورائي أي حلم بالحياة متجها نحو بلاد لا اعرفها، وقتها عرفت أن أصعب شيء في هذه الحياة السير في طريق تجهل آخره.
يسند الحاج أبو خلف رأسه بيده وكأنه وصل لتوه من رحلة هجرته ويتابع حديثه: كنا نعيش بأمان قبل النكبة في العام ،1948 ومع وقوع أحداث النكبة والتي بدأت منذ أول العام بدأ شعورنا بالقلق جراء هجرة اليهود غير الشرعية التي كانت تسهلها لهم القوات البريطانية المسيطرة آن ذاك. ويضيف: قريتنا (بربرة) تبعد عن مدينة غزة حوالي 17 كم الى الشمال، وتعتمد على الزراعة بالدرجة الأولى كما هي القرى الأخرى المجاورة، وعدد سكانها قبيل النكبة كان حوالي 3 آلاف نسمة، كانت من القرى المتأخرة في هجرتها حتى بعد اعلان الكيان الغاصب دولته على أرضنا بقينا بعدها لعدة أشهر في منازلنا ولكن في حذر وخوف شديدين.
يصمت الحاج أبو خلف قليلا ويضيف: كانت أخبار المجازر التي ترتكبها العصابات الصهيونية تتوارد الينا على لسان شهود عيان، أو نقلا عنهم، كان الخوف قد تسلل الى القلوب كبارا وصغارا رجالا ونساء، لم تكن الأحداث تمهلنا فرصة التأكد من حقيقة تلك الروايات التي كنا نسمعها وأصبحت حديث مجالسنا، بدأنا نخلي قريتنا مساء تحسباً لأي هجمات قد تطال القرية خوفا من وقوع الهجوم ليلا، وكنا ننام في الحواكير أو الأجران المجاورة للقرية، ومن ثم نعود في الصباح وكان يساعدنا أن الوقت كان صيفا خلال (نيسان/أيار)، ويستذكر عدوان رحلة الشتات والتشرد: كانت النساء تعد كل يوم اربع وجبات بدلا من ثلاث واحدة للنساء والأطفال، يتناولونها في الصباح والثانية لغداء جميع اهل البيت والثالثة للرجال المسلحين في القرية والرابعة للنساء والأطفال في رحلة الخروج مساء والعودة في الصباح الباكر.
ويتابع الحاج عودة: كانت مشاهد غريبة من الرحيل اليومي، شيء قد لا يصدقه العقل، كل يوم تساق الحيوانات تحمل ما خف وزنه وارتفع ثمنه، يبكي الزوج على زوجته واطفاله الذين قد لا يراهم ويمضي بقية الليل في الدفاع عن تراب الوطن، متمترسا خلف بندقيته القديمة، واستمر وضعنا على هذه الحال ثلاثة شهور، ويردف قائلا: زاد خوف السكان في القرية بعدما زادت سيطرة العصابات الصهيونية على المدن والقرى التي نزح عنها اهلها بسبب شراسة الهجوم الصهيوني، خصوصاً المدن والقرى التي لم تصلها القوات العربية والمتطوعون مثل يافا وحيفا وقراهما، ويعزو عدوان الأسباب الرئيسة لهجرة السكان وقتها الى الجهل الذي كان متفشيا كالوباء في اوساط الشعب، وانتشار انباء المذابح والشائعات بشكل كبير ومهول، وخصوصا الاعتداءات على الشرف التي كانت تخيف الشارع الفلسطيني كثيرا لما تمثله قضية الشرف من اهميه تصل الى درجة الهلع.
ويضيف عدوان وهو يحمل أوراق الملكية الخاصة بأرضه ومنزله القديم: لن أنسى ذلك اليوم الذي تجمع فيه كل اهالي القرية في طريق واحد عند ساحة البئر متجهين الى الغرب حيث ساحل البحر، كان الوقت قبل غروب الشمس والشتاء قد طرق الأبواب، أخذنا بالسير ونحن ننظر وراءنا الى القرية نلوح بأيدينا وقلوبنا تبكي رافعين أصواتنا في الوداع، الى اللقاء قريتنا الحبيبة، بكل ما فيها حجارتها نخيلها وأشجارها، الى التراب وداعا الى المنازل التي تحمل رائحة والدتي التي لا تزال كلماتها عالقة في ذاكرتي “اللقا يوم اللقا يا بلدنا”.