هشام شرابي.. الأكاديمي والمثقف الملتزم
15/1/2005
محمد العلي
يشكل هشام شرابي الذي توفي في بيروت أمس إلى جانب الراحلين إدوارد سعيد وإبراهيم أبو لغد ثلاثيا تميز بأنه حقق خلال النصف الثاني من القرن العشرين حضورا لافتا في الوسط الأكاديمي الأميركي, مع مواظبته على متابعة الشأن السياسي والفكري العربي والإسهام الفاعل فيه.
بيد أن شرابي يتميز عن زميليه اللذين يشترك معهما في الانتماء (ثلاثتهم ولدوا في فلسطين) بأنه أسهم في العمل السياسي قبل هجرته إلى الولايات المتحدة أواخر أربعينيات القرن الماضي.
بدأ شرابي المولود في يافا عام 1927 نشاطه السياسي مبكرا عبر الانضواء في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه في لبنان أنطوان سعادة. وكان لعلاقة شرابي بسعادة أثر بالغ في شخصية الأخير وآرائه لم يدانه إلا تأثير المفكر والأكاديمي اللبناني (والدبلوماسي ووزير الخارجية لاحقا) شارل مالك الذي كان أستاذا لشرابي خلال دراسته في الجامعة الأميركية ببيروت أواسط أربعينيات القرن الماضي. وقد تحدث شرابي بإسهاب عن علاقته بمالك في كتاب "الجمر والرماد" الذي صدر في بيروت بعدة طبعات أواسط السبعينيات.
"
بدأ شرابي نشاطه السياسي مبكرا عبر الانضواء في الحزب السوري القومي الاجتماعي الذي أسسه في لبنان أنطوان سعادة. وكان لعلاقة شرابي بسعادة أثر بالغ في شخصية الأخير وقناعاته
" |
وكان للقبض على سعادة وإعدامه عام 1949 في بيروت –على خلفية خلاف مع السلطتين المستقلتين حديثا في سوريا ولبنان- الأثر البالغ في حياة شرابي الخريج الجديد (عام 1947) الذي وجد نفسه مدفوعا للهجرة إلى الولايات المتحدة.
صدمة 1967
انصرف شرابي المملوء بمشاعر الإحباط من السلطات السياسية العربية إلى العمل الأكاديمي فور وصوله إلى الولايات المتحدة. وحصل على شهادة الدكتوراه من جامعة شيكاغو عام 1953 عن أطروحة بعنوان "التاريخ الحضاري", قبل أن يصيب نجاحا أهله لشغل كرسي الأستاذية في مادة تاريخ الفكر الأوروبي الحديث في جامعة جورج تاون.
بيد أن حرب يونيو/ حزيران 1967 وهزيمة العرب فيها كان لهما مفعول الصدمة التي أعادت شرابي إلى العالم العربي وقضاياه. وبدأ شرابي بعد هذا التاريخ اهتمامه مجددا بقضايا المجتمع العربي وبأسباب التخلف التي أدت إلى الهزيمة، فأنتج خلال هذه المرحلة كتابين مهمين هما "مقدمات لدراسة المجتمع العربي" و"الجمر والرماد" الذي تحدث فيه عن جانب من تجربته الشخصية.
وراح شرابي يعد العدة بداية السبعينات للعودة والاستقرار في لبنان بتأثير صحوته من جهة, وعنصر الجذب الذي شكلته المقاومة الفلسطينية التي سعت لاستقطاب عدد من الأكاديميين المهاجرين ضمن مؤسسة أنشئت في بيروت تحت اسم مركز التخطيط من جهة أخرى.
وأقام شرابي في بيروت فترة واشترى قطعة أرض في منطقة المشرف جنوب الدامور كي يبني بيتا, غير أن انفجار الحرب الأهلية اللبنانية وفشل تجربة مركز التخطيط دفعاه لتعديل خططه، إذ آثر العودة إلى العمل الأكاديمي في الولايات المتحدة, وترأس تحرير مجلة "الدراسات الفلسطينية" الصادرة باللغة الإنجليزية هناك, إلى جانب احتفاظه بصلات مع الأوساط السياسية والأكاديمية العربية والفلسطينية.
"
أبدى شرابي حماسا لاتفاق أوسلو بعد زيارة إلى الأراضي الفلسطينية هي الأولى له منذ 50 عاما, زار خلالها أيضا مسقط رأسه. بيد أنه تحول بعد فترة وجيزة إلى أحد أشرس منتقدي الاتفاق
" |
شرابي وأوسلو
كتب شرابي خلال هذه الفترة عشرات المقالات في الصحف والمجلات الفكرية. وفي عام 1988 وضع كتاب "النظام الأبوي وإشكالية تخلف المجتمع العربي" الذي حمل تأثيرات هيغل وماركس وفرويد وفوكو وبارت ودريدا. ونشر الكتاب الذي عربه محمود شريح عن مركز دراسات الوحدة العربية عام 1990. وفي ذات العام نشر له المركز "النقد الحضاري للمجتمع العربي نهاية القرن العشرين".
أبدى شرابي حماسا لاتفاق أوسلو بعد زيارة إلى الأراضي الفلسطينية هي الأولى له منذ 50 عاما, زار خلالها أيضا مسقط رأسه. بيد أنه تحول بعد فترة وجيزة إلى أحد أشرس منتقدي الاتفاق, وترجم ذلك في الإسهام أواخر التسعينيات بتأسيس إحدى الهيئات البارزة في الدفاع عن حق العودة للاجئين الفلسطينيين.
في عام 1995 أعد كتابا تحدث فيه عن ثلاث مدن عاش فيها وذلك بتأثير زيارته لمسقط رأسه قبل ذلك بعامين.
بغياب شرابي الذي ظل حتى آخر أيام حياته مواظبا على الكتابة عن المجتمع العربي, يغيب واحد من أهم المثقفين الملتزمين بقضايا العرب في العصر الحديث.