هوية: المشروع الوطني للحفاظ على الجذور الفلسطينية

آخر الأخبار استعراض

 

 خاطرة ... في رئاء والدي
في ختام سبعة وثمانين عاما  لحياة مهاجر
كيف البداية
منذُ أيام قليلة فارق الحياة الى جوار ربه فلسطيني  ناهز عمره  السبعة والثمانين عاما ، قضى جُلها في الشتات، كنت اتساءل كيف اختزل هذه السنون في سطو ، من اين ابدأ وفي اية محطة احل، هل ابدأ بالاربعة وعشرين التي قضاها في العز والكرامة على تراب ارضه المقدس يطأُه بقدميه ويزرع فيه بيديه ويُخضع جبهته ساجدا لله،  ثم يعانق ثراه نائما هادئا آمنا تحت سقف بيته وعلى ارضه التي يقتات منها ويأكل من ثمرها ويشرب مائها .. يعيش الحزن والفرح في سعادة مع اهل قريته .. يجتمعون على "العونة" .. يُقْرون ضيف القرية في مضافتها ، يضيّفونه بالتناوب لكل عائلة يوم ، يتزاورون ويتعاونون ويعرف بعضهم البعض اسما ولقبا وصفة ويعرفون طباع بعض ويفهمون آهات بعض ويقتسمون الأوجاع كما المسرات ، يا لها من منظومة حياة تكافلية تعاونية ممزوجة بالنخوة والعزة والكرامة والدين ... آه على حياة عشتها معه في خيالي ولطالما سمعتُ وسمعت حتى بت كأنني أعرف بيوتاتها وطرقاتها ومداخلها ومخارجها وبيارتها وكرومها وزيتونها واسماء اراضيها وعائلاتها واهلها ... لكأنني اسمعهم للتو يتنادون : ان على كل عائلة من عائلات القرية الثماني ان تشتري اربع بندقيات لحماية القرية ومساندة الثوار .
حلٌ وترحال.. وحلٌ وترحال
هذا فصلٌ شائكٌ في حياة هذا المهاجر رحمه الله، صعبةٌ مسالكة، حالكةٌ بالظلم والظلمة لياليه، وانه لمن الصعوبةِ  بمكان أن تختصر حياة شعب في حياة رجل وان كان هذا الرجل رحمه الله يمثل شعبا، لانه ليس فردا وانما هو حالة ٌ تمثل صورة  تكرَرت في الملايين أمثاله، وكيف عساك تنتهي من مسلسلٍ مؤثرٍ شائق لمّا تنتهي حلقاته بعد ولا زالت نهايته في علم الغيب.
هذا فصل يحتوي على ثلاثة وستين سنة من البعد والشتات، بعيدا عن حصن دافئ يضم .. أو أرضا  معطاءة تطعم، او نبعة عذبة تسقي ، وقبل ذلك وبعده من غير أمن يمنح نوما ملء الجفون .. هيهات هيهات له ذلك.
عاش او عاشوا كذب الاقرباء ومكر الاصدقاء وخيانة الاعداء، قتلوا في نفوسهم وعدا واملا بالعودة سريعا، قالوا عنه يتحقق بعد جمعة او جمعتين ليتجاوز العقد والعقدين.. الى عدة عقود. خرج أو أُخرج من بيته وحصنه وارضه وسمائه لتُوضع له  خيمةٌ في الاردن  وسقيفة في الشام  وكوخ في بيروت  وأعشاش في مصر وملاجئ في العراق ... وهنا وهناكحتى لا تكاد ترى أرضا الا وجدته فيها ناهيك عن مئات الميتات التي قضاها في البحر غرقا وفي الصحاري هلاكا وهو يقصد أمنا أوأمانا منشودا قد هلك دونه. 
أما مهاجرنا الطيب فقد سكن الاردن وتنقل في مدنها من الصريح الى الكرامة الى أن استقر به المطاف في الزرقاء، وفي محطاته وترحاله في الاردن عاش مع اهلها كما عاش الكثيرون أمثاله ولقى ما لاقاه من العناء والرهق والذي كان يخففه طيب المعاملة والمساعدة من أخيارها، غير أنه لاقى من البعض ممن هم ليسوا من أخيارها غير ذلك، ويبقى كل ما لاقاه من خير أو شر عالقا في النفوس، كيف لا وقد أضيفت الى سجل مرارات اللجوء والهجرة التي كُتبت بأقلام الألم على صفحات الأسى.
ترك خلفه ثلاثة وعشرين دونما من الاراضي  يملكها في قريته " جمزو " ليعمل عاملا  أحيانا أو بنّاءا أوحارسا ثم مزارعا في مدينة الزرقاء،  يزرعُ أرضها ويقتات من خراجها .. لا عجب فقد اعتادت سواعده السمراء استنطاق الأرض لاخراج خيراتها.
ثلاثةٌ وستين عاما عاشها يملأ قلبه الحنين ويحرق فؤاده شوق العودة الى .." البلاد "  كنت أحس لهيبها في آهاته التي كان يطلقها من أعماقه كلما تذكر " البلاد". ولا انسى تلك الليلة قبل عشرين عام تقريبا حين جلسنا اليه يحدثنا في ذكرى يوم الأرض ، فجعل يسرد حكايات وعذابات الخروج واللجوء وما صاحبه من هلع وفزع، حيث خرجوا فجرا بل سحرا وكان يظلهم حينها شهر رمضان المبارك، ولم تمهلهم الأقدار أن يُتموا سحورهم  فتركوا مائدة الزعتر والزيت والزيتون وخبز الطابون... حدثنا كيف حمل أًمه الكفيفة على ظهرة طوال طريق الهجرة وهي تدعو له ولذريته ... موقفُ بِر ووفاء في ظرف عصيبٍ صعيبٍ مليئٍ بالخوف والقهر والاحباط والسير الى المجهول .. موقف ليس فيه شيئ من أمان الا في الدعاء الى الله عز وجل .. واللهُ لا شك حافظهم ... أحداث وويلات لا تطيقها الأقلام كتابة وتضيق بها الصحائف ذرعا ويحار بها الفكر وصفا .. غير أنني كتبت حينها بعض الأبيات أذكر منه
قد سمرت الليل اُروى        ذكريـــــاتٍ عن ألامِ
ذكريات الهَجرِ عنها         أرض أجدادي العظامِ
حدثوني عن مَصاب         نا بــــهم شهر الصيامِ
خفق القلبُ أسىً ممّـــــــــــــــــــا جرى من إجرام
طردوهم أخرجوهم           أودعوهم للخيـــــام
جعلوا الأرض مهدا         والغواشي من غمـــام
خرجوا وقت السحور          دون زادٍ أو طعـــام 
وسنى الأبصار تلـظى         بشرار الإنتقـــــــام
لكن- وا حسرتــــاه -        دون رمح أو حســـام
ذرفت عيناي دمعا          واجتواءاً بالكــــــــلام
لكن جـــــــــداه مهلا        أين نخوات الأنـــــام
بسم الحاكي وقال :          كان وقتا للمنـــــــام !!
 
خاتمة المهاجر الطيب .. لكنها ليست النهاية
أشهد أنه كان طيب القلب نقي السريرة، محبا لمساعدة الآخرين وعلى قدر عال من النخوة والشهامة، يتحرى لقمة الحلال بكل عزم وحزم على قدر ما أعطاه الله من العلم ، كان عادلا بين ابناءه وبناته، يفكر بالغائب دوما حتى يعود، ويدعو للمريض حتى يشفى ولصاحب المصاب حتى ينجلى عنه ما أصابه ويسأل عن هذا وذاك حتى عن أحفاده الذين ربوا عن المائه يعرفهم ويحصيهم  فردا  فردا  ويحفظ  معدلاتهم  في الثانوية العامة وماذا درسوا في الجامعات وما وظائفهم واحوالهم.
 ومن الشواهد على ما ذكرت، أن جاءه يوما من قال له: نريد خبرتك في الزراعة للعناية بشجر وثمر وحدائق لعدة بيوت في عمان، ولما وصل رأى رجلا عجوزا جالسا فسأل عنه، قالوا نريد أن نستبدله بك، فقال والله لا أكون سببا في قطع رزقه أبدا، وقفل راجعا، وبعد عدة شهور جاؤوه وقالوا ان الرجل قد مات فما رأيك ؟ قال الآن نعم .
ومن عدله بين أبناءه : أنه كان له في بيته شُقتان يسكنهما إبنان من أبناءه بعد زواجهما وكان قد مضى على مكوثهما فيهما خمس أو ست من السنوات عندما أراد ابنه الأصغر ان يتزوج ، ولم يتمكن حتى حينه أيٌ منهما أن ينتقل الى بيته الخاص، فقال لهما يرحمه الله: من حق أخيكما أن يسكن بعد زواجه دون ايجار مثلكما ومثل من قبلكما، لذلك سيستأجر بيتا وتدفعا أنتما أُجرته. حاول الأخير – ابنه الأصغر - أن يُثنيه ولكنه أصر على ما يريد وسمع له إبناه وطاعا حبا وكرامة ... أليس في هذا عدل قل نظيره هذ الايام.
وفي يوم من ايام عام الثلاثة والسبعين، حيث الظروف صعبة وحالكة ماديا وأمنيا ....ويصعب فيها التحرك من مكان الى آخر  وصله أن شقيقة  له في شمال الاردن قد غادر عنها زوجها لأمر ما ولم يعد ولم يعرف احد عنه شيئا، وكانت وحيدة مع صغارها في تلك البلد دون أهل أو أ قارب، فطلب من اخويه – وكان أ صغرهما سنا - ان يساعداه على الذهاب لاحضارها لتكون الى جانبهم، فكان رأيهما التريث والانتظار، فقال والله لا أتركها وحدها في هذه الظروف أبدا، واستطاع بعون الله أن يصل اليها، وعاد بها الى الزرقاء لتسكن معه في بيته عدة أشهر حتى عاد زوجها.
عشنا السنين نستمع اليه والى حكاياته وزفراته وعبراته ولا نكاد نمل سماعا حتى عندما يعيد بعض فصول وأحداث الملحمة ... لقد ترسخت هذه الفصول في العقول والأذهان فكلما جلست الى فلسطيني سبعيني أو ثمانيني كما هو مهاجرنا رحمه الله، أجدني أستمع الى نفس الفصول أو أنها يكمل بعضها بعضا ... إذا نعم هي قصة شعب في حياة رجل أو قصة رجل في حياة  شعب .. أخالهما سيّان
.. وبعد هل هناك فصل اخير ؟  
إن هذا النموذج من الصلاح والنقاء والايمان بالحق وحب الوطن بمفهومه الصافي المجبول بالعرق الذي روى الارض المباركة .. ان هذا الحب للوطن ملا عليه قلبه ففاض لتتلقاه أكف أبناءه وأحفاده، لتُسقى به قلوبهم ويسري حب الأرض في عروقهم فإذا بترانيم الحنين الى الوطن وأهازيج العودة يصدح بها أصغر أحفاده مؤمنا بالعودة وأحقيتها وشرعيتها، مؤمنا بعدم التنازل أو التفريط بشبر من تراب الوطن الغالي ، ايمانا بوعد إلهي ثابت  تجذر في الأخلاد وفي الوجدان عقيدةً راسخة لا يشوبها شك ... نعم تعلقت بهذا الوطن عقولنا وفلوبنا وبتنا كلنا لسان حالنا يقول ما قاله الشاعر:
                         وطني لو شُغلت بالخلد عنه          نازعتني اليه بالخلد نفسي
لقد غادنا رجل من القلائل الذين لا كانوا لا يزالون يصلون الماضي بالحاضر ، كسنديانة جذورها في عام 1924 وأغصانها وأراقها في العام 2011 ... نعم أسدل الستار على سبعٍ وثمانين سنة  من الهجرة والترحال والشتات والحرقة والالم والهم والقهر والعذاب والحنين والكفاح والاصرار والصبر والمصابرة والأمل .... مزيجاً هائلاً المعاني لا يجليه ولا يحل طلاسمه  الا كلمةُ " العودة "  الى " البلاد "  التي ستفرح بها الروح الطاهرة التي أسأل الله ان تكون في عليين- وستفرح بها روحه عندما تطأ اقدام أبناءه أو أحفاده أو أحفاد أحفاده ترى قريته الحبيبة ستفرح روحه لانه سيرى أنه بعوده ذريته كأنما هو عاد وسيتحقق معنى الأمل الذي عاشه وعشناه معه ولعل هذه الاشراقة التى شوهدت على وجهه والبسمة على شفتيه عند وفاته كأنما هي إستشراف لهذا المستقبل القريب العاجل إضافةً الى ما تعنية من حسن الخاتمة إن شاء الله .
 رحم الله هذا الفلسطيني المهاجر الطيب الحاج أبي محمد/ عبد الرازق النجار وأسكنه فسيح جناته وجعله مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن اولئك رفيقاً.
                          راجيا له منكم خالص الدعاء بالرحمة والمغفرة
 
                                                                                                كتبه ابن الفقيد
                                                                                                 حسان النجار
                                                                                                 7 6 2011  
تمت الاضافة من قبل najehnajjar@yahoo.com بتاريخ 13/08/2011
السجلات 
 من 7٬143