الكاتب
يازور تلملم جراحها في الذكرى الخامسة والستون للمجزرة
الكاتب كمال محمد عثمان
غزة هاشم / فلسطين
22/1/2013
في مثل هذا اليوم الثاني والعشرون من يناير/ كانون الثاني 1948 اقترفت العصابات الصهيونية واحدة من أبشع المجازر التي ارتكبتها بحق أبناء الشعب الفلسطيني في قرية يازور (قضاء يافا)، تلك القرية الموغلة في القدم والممتدة إلى فجر التاريخ لعلها (بيت الزور) الكنعانية التي ذكرت النقوش المصرية أن فرعون مصر أحمس 1580 – 1557 ق. م مطارد الهكسوس من بلاده قد خربها مع غيرها من مدن وقرى وبلدات فلسطين، ولقد عرفت باسم (آزورو – Azuru) في أيام الملك الآشوري سنحاريب 705- 681 ق. م، حيث يقال أنه كان مستقرا بها كما تم العثور فيها على آثار قديمة تعود إلى الألف الرابع ق.م. فتحت يازور إبان الفتوحات الإسلامية على يد الفاتح والصحابي الجليل عمرو بن العاص رضي الله عنه ولقد عرفت وغيرها من القرى المجاورة باسم (بلاد الفتوح).
ومن أهم الآثار الإسلامية في يازور جامع القرية الذي تعلوه القباب الذي بني في القرن السابع عشر على أنقاض كنيسة نصرانية قديمة ذلك المسجد الذي حوله اليهود إلى معبد يهودي بعد احتلال يازور عام 1948. لم تخل يازور من الآثار القديمة، حيث يوجد فيها أنقاض قلعة رومانية تسمى (البوبرية) التي أقام بها ريتشارد قلب الأسد أثناء المعارك الدامية التي دارت رحاها بين المسلمين والصليبيين في القرنين 11 و12. تمتاز بلدة يازور بتربتها الخصبة المباركة وتشتهر بالبرتقال الذي عرف لدى الناس ببرتقال يافا خاصة في أوروبا، وكافة أصناف الحمضيات، إضافة إلى أنواع مختلفة من الخضروات والحبوب. عاش أهل يازور في بحبوحة من العيش، ميسوري الحال ولم يعرفوا الفقر لتميز بلدتهم بالعطاء والخير الكثير، واشتهر أهل يازور بتربية الأبقار الهولندية الأمر الذي أدى إلى زيادة مستوى دخل سكانها، كما كانت يازور قبل النكبة بمثابة مدينة صناعية ومن أهم مصانعها مصنع الثلج والزجاج والنسيج والأسرّة والتنك والأعلاف والمعكرونة والحلويات وكان بها مطحنتان.
كانت يازور محط أنظار وأطماع الأعداء لموقعها الهام على مدخل يافا كبرى المدن الفلسطينية، حيث تبعد 5 كم شرق مدينة يافا على الطريق الممتد من يافا إلى القدس وتبعد عن تل الربيع (تل أبيب) حوالي 7 كم، وحوالي 9 كم من مصب نهر العوجا في البحر المتوسط ويمر خط سكة الحديد الذي يربط يافا بمدينتي اللد والقدس شمال يازور أما فيما يتعلق بسكانها فلقد وصل عددهم عام 1945 إلى 4030 نسمة ومساحتها تقارب 12000 دونم. لقد صنف الصهاينة بلدة يازور من القرى الخطرة على أمنهم واستقرارهم بسبب الهجمات التي كان يشنها أبطال وفدائيو القرية واستهدافهم لدوريات العدو، فشكلت مثلث الرعب - ويطلق على ثلاث قرى وهي (يازور وسلمة وبيت دجن) - الذي أرق الصهاينة وقض مضجعهم وخلق قلقاً وتوتراً دائما ً للصهاينة منذ انطلاق ثورة 1936. لذا كانت يازور وأخواتها من مدن وقرى وبلدات فلسطين عرضة لشن الهجمات عليها لإخضاعها وتهجير أهلها والاستيلاء عليها بشتى السبل دون أدنى رادع، ولقد لعب الزعماء الصهاينة الذين خططوا لإقامة وطن قومي في فلسطين دوراً هاماً في التحريض والدعوة إلى الإرهاب بمختلف أشكاله من تقتيل وترويع وذبح لتحقيق أهداف الصهيونية ويتضح ذلك من مقولات زعماء عصاباتهم الإرهابية المسلحة كعصابة شتيرن والأرغون والهاجاناه، تلك العصابات التي شكلت لاحقاً ما يسمى بجيش الدفاع الإسرائيلي. لم يتورع هؤلاء القتلة عن استخدام أي وسيلة لتحقيق مآربهم، فالغاية عندهم تبرر الوسيلة، لأن الإرهاب لديهم يعتبر ركيزة أساسية يستندون إليها وأفعالهم تؤكد على أن المجازر تندرج ضمن ثقافة صهيونية عنصرية تستبيح كل المحرمات وهذا ما عبر عنه زعماؤهم. يقول ثيودور هرتزل: " إذا انتقلنا إلى منطقة حيث توجد حيوانات مفترسة لم يتعود عليها اليهود كالأفاعي الكبيرة فسأحاول أن أستعمل السكان البدائيين للقضاء على هذه الحيوانات قبل أن أجد له عملاً في البلاد التي يعبرون إليها ". ويقول وايزمان في مذكراته التجربة والخطأ: " يستطيع المرء أن يلمس هنا وهناك تحللاً للأخلاقية الصهيونية التقليدية ويلمس بدلاً منها مسحة في الروح العسكرية بل أكثر من ذلك اللجوء إلى العنف والإرهاب والاستعداد للتعاون مع الشرق كقوة لها فوائدها في تحقيق الوطن القومي لليهود".
وهذا يؤكد على أن إبادة البشر وسرقة الأرض عبارة عن نهج صهيوني منظم منذ نشأة الكيان الغاصب، وينبثق من عقيدة راسخة لديهم تؤكد على أن العربي الطيب " هو العربي الميت ".. أما المقاوم والمدافع عن أرضه فهو الإرهابي ويقول بن غوريون في مقدمة كتابه: تاريخ الهاجاناه: " من الواضح أن انجلترا تعود للإنجليز ومصر للمصريين وفلسطين لليهود، وفي بلادنا هناك فقط مكان لليهود وسوف نقول للعرب اخرجوا فإذا لم يخرجوا وإذا قاوموا فسوف نخرجهم بالقوة ". كل تصريحات القادة الصهاينة تؤكد على مبدأ استعمال القوة والإبادة الجماعية كحق شرعي بغض النظر عن شرعية الوسيلة أم عدمها. وفي هذا السياق يقول مناحيم بيغن رئيس منظمة الأرغون سابقاً في كتابه الثورة في 28 /10/1956:" ينبغي عليكم أيها الإسرائيليون أن لا تلينوا أبداً عندما تقتلون أعداءكم.. وينبغي أن لا تأخذكم بهم رحمة.. فنحن مقتنعون بالشرعية المطلقة لأعمالنا الغير شرعية ". ويقول أيضاً: " إن قوة التقدم في تاريخ العالم ليست السلام بل السيف ".
كما تؤكد تصريحات زعماء العصابات الصهيونية على ضرورة استخدام المجازر، انظروا ماذا تقول غولدامائير رئيسة وزراء الكيان سابقاً: " إنني أشعر بالرعب عندما أسمع أن طفلاً فلسطينياً قد ولد.. ومن أجل أن لا يولد هذا الطفل لابد من القيام بما يلزم من مجازر.. "، لذلك هم أعداء الإنسانية ولم يسلم من شرهم أطفال فلسطين فلا غرابة من قيامهم بقتل الأطفال. ومما يكرس ثقافة القتل ما صرح به الحاخام عوفاديا يوسف: " إن العرب أولاد أفاع... وأن الله ندم لأنه خلقهم... وبالتالي فإن من الواجب قتلهم ". إن المذابح التي دأبت العصابات الصهيونية على ارتكابها ضد الفلسطينيين في مناطق فلسطين 1948 والضفة وغزة، لم يشهد التاريخ الإنساني له مثيل من جميع النواحي سواء الفكرية أو العقائدية التي اصطبغت بالنهج الدموي بأبشع أشكاله وألوانه حيث استخدمت الصهيونية الإرهاب المنظم ونفذته بأقبح الوسائل والطرق التي تعددت من خلال منظماتها وأجهزتها السرية قبل قيام الكيان الغاصب إلى ارتكاب الجرائم بطريقة رسمية وغير رسمية وما زال يتبعها الكيان حتى تاريخه وقرية يازور كانت إحدى القرى التي حظيت بنصيبها من هذه الجرائم والملاحظ في هذه المجازر تنوع أدوات التنفيذ من مجزرة إلى أخرى، فقد تكون الأسلحة نارية كالبنادق والمسدسات والرشاشات أو زرع الألغام والمتفجرات أو القنابل اليدوية العادية أو الموقوتة أو العبوات الناسفة، أو السكاكين، البلطات، السواطير، الخناجر، وأحيانا استخدموا الطائرات والدبابات والزوارق الحربية، بمعنى لم يتركوا وسيلة إلا واستخدموها. لقد اعتمدت الحركة الصهيونية على إنشاء العصابات الإرهابية الإجرامية المسلحة السابق ذكرها والتي بدأ السعي إلى تشكيلها منذ حصول الحركة الصهيونية على وعد بلفور في 2/11/1917 وحاولت الحركة الصهيونية الإدعاء بأن فلسطين أرض بلا شعب، وبالتالي أقدمت تلك العصابات على ارتكاب المجازر لتفريغ فلسطين من أهلها.
ولقد وثق مركز العودة الفلسطيني تدمير 531 قرية فلسطينية تم طرد سكانها، بينما 270 قرية هجر سكانها بسبب هجوم عسكري مباشر، و122 قرية طرد سكانها على يد قوات الاحتلال، كما وثق أكثر من 200 جريمة حرب و34 مجزرة ارتكبت ضد مدنيين وأسرى خلال سنتي 1947- 1948 منها 17 ارتكبت أثناء الوجود البريطاني و17 بعد جلاء الانجليز من فلسطين. وبالعودة إلى المجازر، فبعد قرار 181 الصادر في 29 /11 /1947 تصاعدت وتيرة القتال التي سبقتها الخطة د التي وضعتها عصابة الهاجاناه بفلسطين في خريف 1947 التي تهدف إلى حماية تأسيس دولة يهودية على أرض فلسطين والسيطرة على أكبر قدر ممكن من أرضها وطرد ما يمكن طرده من السكان، وقبل انتهاء عام 1947 بدأت العصابات الصهيونية بتنفيذ المخطط، ففي شهر 12 /1947 شنت تلك العصابات هجوماً إرهابياً بالقنابل على إحدى مقاهي قرية يازور، مما أدى إلى استشهاد 7 من شبانها ولم تمض أسابيع حتى ثأرت يازور وانتقمت لأبنائها بقتل 7 حراس من اليهود بعد أن قاموا باستفزاز أهالي القرية باختراقهم المتكرر لها في سيارة جيب مدججة بالسلاح وكانوا يطلقون النار في كل اتجاه لترهيب السكان.
وفي يوم 22/12 /1947 نصب المجاهدون بمساعدة شاب ألماني كمين مدبر لعملية الدورية حيث جهزوا عبوة ناسفة ووضعوها على جانب الطريق، وقاموا بتفجيرها في سيارة الحراس عند مرورهم بقربها، وحال وقوع الانفجار سقط الحراس على الأرض وسارع من بقي منهم حيا إلى الهرب صوب البساتين وبيارات البرتقال المجاورة، فباغتهم عناصر الكمين من المجاهدين وقتلوهم جميعا على إثر هذه العملية أصدر قائد عمليات منظمة الهاجاناه الصهيونية إيغال يادين أمراً إلى إيغال ألون قال فيه: " عليك القيام بأسرع وقت ممكن ودون أية أوامر أخرى بعملية ضد قرية يازور، ويجب أن يكون الهدف إزعاج القرية فترة طويلة عن طريق القيام بعمليات تسلل إلى داخلها وإحراق عدد من المنازل ".
وبالفعل وبعد ساعتين من تلقي الأمر قامت مجموعة صهيونية تابعة للبالماخ - " سرايا الصاعقة او القوة الضاربة " التابعة للهاجاناه، الجيش غير الرسمي للييشوف (المستعمرات اليهودية) - بمهاجمة سيارة باص بالقرب من يازور، حيث تسبب الهجوم بجرح السائق وعدد من ركاب الباص، كما قامت في اليوم نفسه مجموعة أخرى بمهاجمة حافلة باص ثانية على مدخل يازور أسفر عن قتل وجرح العديد من الرجال والنساء والأطفال... وظلت قرية يازور المجاهدة تتلقى الهجمات لمدة 20 يوم على التوالي، تخللتها عمليات تفجير بعبوات ناسفة بالقرب من منازل السكان الآمنين، ونتيجة لصمود أهل يازور وتصديهم لقوى الشر والعدوان ودفاعهم المستميت عن قريتهم وأنفسهم وأعراضهم اشتعلت أوار الحقد الصهيوني على القرية فقررت قيادة الهاجاناه في يوم 22/1/1948 مهاجمة قرية يازور في عملية أسموها (شومتز) وأسندت مهمة التخطيط لهذه العملية لضابط عمليات التخطيط العسكري في قيادة البالماخ آنذاك لإسحاق رابين الذي حصل على جائزة نوبل للسلام في تسعينات القرن الماضي وشارك في تنفيذ العملية أكثر من مجموعة صهيونية إضافة إلى الصهيوني الحاقد (أمنون جنسكي) خبير المتفجرات كما شارك العميد يسرائيل طال مسئول شعبة التدريب آنذاك وتقرر البدء بالهجوم مع بزوغ الفجر، حيث تم جمع الذين سيشاركون في تنفيذ العملية ليلاً في مستعمرة (مكفي يسرائيل) ووصلت (كيبوتس) "خلدا " مجموعة أخرى بقيادة " يهوشواع نبو "، وتم إحضار الأسلحة والذخائر اللازمة، وانطلقت القوات المعادية إلى قرية يازور عبر بيارات البرتقال فقامت مجموعة يسرائيل طال بإطلاق النار على مصنع الثلج في القرية.
كما قامت المجموعات الأخرى بإطلاق النار والقنابل اليدوية على البيوت أما مجموعة يهوشواع نبو قد قامت بتفجير بوابة مبنى (اسكندروني) ومبنى معمل الثلج. أسفرت المجزرة عن سقوط 15 شهيد من سكان يازور، قتل معظم الشهداء في فراشهم وهم نيام. بعد احتلال قرية يازور دمر الاحتلال منازلها ومساجدها وحرق مزارعها وقطع معظم أشجار البرتقال وأهلها اليوم يقبعون في مخيمات عمان والوحدات والزرقاء وفي مخيمات الضفة الغربية (خاصة عقبة جبر ومخيمات نابلس) وغزة وسوريا وبعد توقيع اتفاقيات الهدنة مع الدول العربية المجاورة واستتباب الأمور قسموا يازور وضمت إلى مستعمرة حولون التي أصبحت لاحقاً أكبر مدينة صناعية في الكيان، أما البلدة القديمة تركوها على حالها تقريبا حتى التسعينيات من القرن الماضي، وفي اعقاب توقيع اتفاقية أوسلو بين منظمة التحرير والكيان الصهيوني عام 1993 اطمأنت إسرائيل إلى أن يازور وغيرها من أراضي عام 48 لم تعد خاضعة للمفاوضات فقامت بهدم معظم معالم القرية وبيوتها وإقامة بيوت ومحال تجارية مكانها وتطوير القرية إلى بلدة صغيرة جميلة أطلقوا عليها اسم آزورو.
وأخيراً أود التنويه على وجود مغالطات فيما يتعلق بتاريخ مذبحة يازور تحديداً وأؤكد على أهمية التوثيق العلمي، حيث أنني وجدت في كثير من المصادر التي أرخت للمجزرة التي ارتكبها الصهاينة الجبناء في قرية يازور أخطاء يجب تلافيها وتحري الدقة عند التأريخ لها. لقد ورد في موسوعة اليهود واليهودية والصهيونية للدكتور عبد الوهاب المسيري وكثير من المصادر أن المجزرة وقعت في 22/1/1949 وبعد التحري تبين وقوعها في 22/1/1948 لأن يازور وغيرها سقطت قبل إعلان قيام ما يسمى بدولة إسرائيل الذي صادف يوم 15/5/1948 وكان قد تم قبل هذا التاريخ تهجير الفلسطينيين من كافة المدن والقرى والبلدات الفلسطينية الأمر الذي يتناقض مع وقوع المجزرة في عام 49 ومما يؤكد ما ذهبنا إليه المصادر التالية حيث ورد في مقال بعنوان " يازور في سطور " للبروفيسور وعالم الاقتصاد والسياسة الفلسطيني محمد عبد العزيز ربيع وهو من قرية يازور وابن بلدتي: " أن يازور سقطت في 1 مايو/ أيار 1948". وقد ورد في كتاب كي لا ننسى للدكتور وليد الخالدي أن يازور سقطت في 30 أبريل / نيسان 1948، كما ذكر بني مورس المؤرخ اليهودي أن قرية يازور تم احتلالها (سقوطها) في 1 مايو / أيار 1948.إن الشواهد السابقة تتطابق مع مجريات إعلان قيام الدولة العبرية. نختم بالقول ما كانت مذبحة يازور وأخواتها هي الأخيرة بل تلاها العديد من المذابح والمجازر التي ارتكبتها العصابات الصهيونية ومازالت حتى تاريخه.