عائلة النشاشيبي المقدسية لها تاريخ عريق في القدس يعود إلى عهد المماليك، مثل أغلبية أسر الأفنديات، لكن أحوالها تأخرت كثيراً خلال العهد العثماني بقرونه الأربعة. والمثير للانباه أن أبناء هذه الأسرة، الذين غاب ذكرهم عن كتب التراجم والتاريخ المحلي، ظهروا مجدداً على الساحة في النصف الثاني من القرن التاسع عشر. ثم تعزز هذا الظهور في أعقاب الحرب العالمية الأولى، حتى وصلوا إلى مرتبة المنافس الأقوى لآل الحسيني لا في شأن الزعامة المحلية فحسب، بل أيضاُ في شأن قيادة الحركة الوطنية الفلسطينية في طول البلاد وعرضها.
لا تشير وثائق سجلات المحكمة الشرعية، ولا المصادر التاريخية الأخرى المتوفرة لدراسة أحوال القدس في الفترة التي تغطيها هذه الدراسة ( أواسط العهد العثماني) إلى أن أي واحد من آل النشاشيبي شغل منصباً علمياً أو إدارياً مرموقاً حتى أواسط القرن التاسع عشر. وكان الأفراد القليلون من هذه الأسرة، الذين ورد ذكرهم في سجلات المحكمة الشرعية، يعملون في وظائف متواضعة في خدمة مساجد الحرم والمدارس التي حوله، إضافة إلى بعض الحرف والمهن، أهمها التجارة في أسواق المدينة. وكان أبرز هؤلاء في أوائل القرن التاسع عشر حسن جلبي النشاشيبي الذي كان أحد كبار تجار القدس، وقد خلفه نجله محمد الذي وسع أعمال والده واشتغل بتجارة الصابون المربحة. وبعد وفاة محمد جلبي ترك لأولاده، بمن فيهم سليمان وعبدالله البالغان، تركة كبيرة جداً قدرت بأكثر من نصف مليون قرش.
تشير المعلومات المتوفرة عن آل النشاشيبي حتى أواسط القرن التاسع عشر بوضوح إلى أن أفراد هذه العائلة لم يكونوا جزءاً من أفنديات القدس. وكان البارزون منهم تجاراً أصحاب مال، لكن من دون الوظائف العلمية، أو الجاه المرتبط بمكانه الأعيان المقربين من الدولة ورجالها. وبدأ بروز شأن العائلة فقط في أواخر القرن التاسع عشر، أيام سليمان النشاشيبي وأولاده الذين تقلدوا الوظائف الرسمية، ودخلوا معترك السياسة وشؤون الحياة العامة. فقد وسع سليمان جلبي تجارة والده، وطور علاقات متشعبة مع الفلاحين في جبل القدس. وسمحت سياسة التنظيمات العثمانية بترجمة الوزن الاقتصادي إلى مكانة سياسية، فصار من أعضاء مجلس إدارة القدس الشريف، ثم إنه صاهر آل الحسيني، فتزوج أخت عمر فهمي أفندي الحسيني، رئيس بلدية القدس لاحقاً، ورزق منها أربعة أولاد هم: عمر ورشيد وعثمان وإبراهيم. وقد عزز كل من رشيد وعثمان مكانة العائلة السياسية، وشغلا الوظائف الإدارية التي زادت في مكانتهما الاجتماعية، فصارا من أعيان القدس وأفندياتها في اواخر القرن التاسع عشر. أما قبل ذلك فلم يعرف عن آل النشاشيبي أنهم تقلدوا وظائف علمية أو إدارية مهمة طوال قرون العهد العثماني.
لواء القدس في أواسط العهد العثماني
عادل مناع
(بتصرف)