عائلة قدّورة (صفد):
إحدى العائلات الكبرى في صفد، وكانت تسكن حياً عائلياً منفرداً داخل حارة الصواوين. عُرفت في القرن السابع عشر بإسم عائلة الخالدي. وهي، بحسب رواية أبنائها، تعود في نسبها إلى القائد خالد بن الوليد، وترتبط بعلاقات قربى بعائلة الخالدي المقدسية المعروفة.
من أجداد هذه العائلة البارزة نذكر المؤرخ الشيخ أحمد الخالدي الصفدي، مؤرخ الأمير فخر الدين المعني الثاني، والذي كان أيضاً من كبار علماء صفد حتى وفاته سنة 1624.
إن تاريخ قدوم آل قدّورة إلى صفد ليس معروفاً. لكن يبدو أنهم جاؤوا المدينة في العهد المملوكي، لأن الشيخ أحمد المذكور ولد في صفد في القرن السادس عشر، وتوفي سنة 1624. وعليه، يمكن الإفتراض أن الشيخ أحمد لم يصل إلى منصبه هذا كإبن لأول جيل سكن صفد، الأمر الذي يعزز الاعتقاد أن عائلة الخالدي، التي عرفت فيما بعد بعائلة قدّورة، استوطنت صفد على الأرجح منذ المماليك.
رأينا في الفصل الأول أنه بعد الحاج ياسين آغا حسن قدّورة برز الحاج يوسف، الذي كان عضو مجلس إدارة القضاء ومن الزعماء البارزين في صفد، وهو الذي امتلك في الثمانينيات والتسعينيات من القرن التاسع عشر، معظم أراضي العائلة التي بلغت مساحتها عشرات الآلاف من الدونمات. وهذه الأراضي كانت منتشرة في ثماني قرى في قضاء صفد هي الزنغرية والقديرية والسموعي والشونة والحُميمة وحرفيش وغباطية وفارة. لذا يمكن القول إن هذه العائلة كانت أكبر مالكة للأراضي في قضاء صفد، وإحدى عائلات الملاّك الكبار في فلسطين عامة.
أمّا بالنسبة إلى كيفية امتلاك آل قدّورة هذه المساحات الشاسعة فلا توجد رواية مؤكدة. لكن يبدو أنهم حصلوا عليها، في الأغلب، بموجب قانون الأراضي لسنة 1858، الذي يقضي بتسجيل الأرض بإسم من يدفع الضرائب المترتبة عليها. ومثلهم في ذلك مثل العائلات الفلسطينية الأخرى التي امتلكت مساحات شاسعة من الأراضي.
غير أن مصادر جهاز استخبارات الهاغانا تذكر أن الحاج يوسف قدّورة كان الشخصية الأهم في المنطقة في العهد العثماني، وأن كثيرين من أبناء القرى المشار اليها رجعوا إليه للدفاع عنهم أمام السلطات، حتى أنهم وضعوا أراضيهم في تصرفه، ومع الزمن أصبحت هذه الأراضي ملكاً له. وغني عن الذكر أن هذه الأراضي كانت أحد أهم مصادر قوة العائلة، وقد أدت إلى زيادة نفوذها الإقتصادي والسياسي في القضاء عامة.
بعد الحاج يوسف برز ابنه محمد أفندي الذي اعتبر من كبار أعيان صفد. وقد تزوج أربع نساء، اثنتين منهن من عائلتي شمّا والخولي، وأنجب اثني عشر إبناً أصبحوا الجناح القوي والمسيطر في عائلة قدّورة. عمل أبناء محمد أفندي، بالإضافة إلى إدارة أراضيهم وزراعتها، في التجارة والوظائف الكبرى. ومن هؤلاء الأبناء كان الشيخ أسعد الشخصية الأكثر بروزاً، والزعيم من دون منازع للعائلة في عهد الإنتداب.
ولد أسعد قدّورة في صفد سنة 1880، وأنهى الدراسة الإبتدائية في المدينة، وبعدها تعلم في إحدى مدارس دمشق، ومن هناك تابع دراسته، في الأزهر الشريف. وبعد ثلاثة أعوام دراسية، عاد إلى صفد سنة 1906 حاملاً لقب عالم أزهري. بداية، تقلد الشيخ أسعد عدة مناصب إدارية ودينية متوسطة إلى أن عُيّن مفتي صفد في بداية الحرب العالمية الأولى. وكان تعيينه هذا أمراً غير اعتيادي، لأن هذا المنصب كان مقصوراً على العلماء من عائلات النحوي أو القاضي أو المفتي، ولم يسبق لأحد من آل قدّورة أن شغل منصباً دينياً بارزاً.
إضافة إلى منصب الإفتاء، عُيّن الشيخ أسعد مع بداية سنة 1930 قاضياً في الناصرة وعكا. وإلى جانب مهماته الدينية نشط في المجال السياسي. ففي سنة 1921 ترأس اللجنة العربية في صفد. وكانت هذه اللجنة تدير شؤون المدينة من الناحية السياسية في بداية العهد البريطاني. كما أنه مثل صفد في المؤتمر الإسلامي للدفاع عن المسجد الأقصى والأماكن الإسلامية المقدسة الذي عقد في القدس سنة 1928. كما شارك في اللجان الفلسطينية المتعددة، واختير لعضوية اللجنة التنفيذية لكل من المؤتمرات العربية الفلسطينية الرابع والخامس والسادس والسابع. ويُذكر أن زوجته صبحية حسن الخولي كانت هي الأخرى من عائلة تجار ثرية ومعروفة.
إضافة إلى الشيخ أسعد شغل ابن أخيه صلاح الدين عز الدين قدّورة عدة مناصب رفيعة. وُلد صلاح الدين سنة 1892، وتلقى تعليمه الثانوي في الكلية الإسكتلندية، وعمل أستاذاً في مدرسة صفد الأميرية، ثم أسندت إليه مفتشية معارف قضاء صفد. ومع اندلاع الثورة العربية 1916 أيد الأمير فيصل، وكان عضواً ومشاركاً في المؤتمر السوري العام الذي أعلن استقلال سورية وتوج فيصل ملكاً عليها سنة 1920. ومع الإحتلال الفرنسي لسورية عاد إلى فلسطين وعُيّن قائمقاماً في مدينة الرملة خلال السنوات 1920-1924.
في 19 أيلول / سبتمبر 1934، عُيّن صلاح الدين رئيسياً للمجلس البلدي في صفد بعد تنافس مرير مع علي رضا االنحوي. إلاّ أنه توفي فجأة بعد نحو شهر من تسلمه منصبه.
مع وفاة صلاح الدين عُيّن عمه زكي قدّورة رئيساً للمجلس البلدي، وقد كان عضواً فيه. هكذا انضم زكي الشاب نسبيا (من مواليد سنة 1909) إلى إخوته في تصدر زعامة العائلة والمدينة، وبقي في هذا المنصب حتى سنة 1948.
إضافة إلى الشخصيات الثلاث القيادية المذكورة أعلاه، برز في عائلة قدّورة كل من د. صبري عز الدين ود. جمال عز الدين، شقيقي صلاح الدين المذكور. عُرف صبري بذكائه وطموحه وحنكته وكان صديقاً مقرباً للأمير فاعور الفاعور، شيخ عشيرة عرب الفضل في الجولان وصاحب التأثير الواسع في شمال البلد وسهل الحولة.
أيد الشيخ أسعد ومعه أفراد عائلة قدّورة، بصورة عامة، كتلة آل النشاشيبي، المعارضة للحسينيين وتماثلوا تماماً معها. وقد أيدهم نحو 10٪ من سكان المدينة. أمّا مؤيدو الحسينيين فكانوا يشكلون نحو 90٪ من سكان صفد. وكانت أغلبية مؤيدي المعسكر النشاشيبي من طبقة كبار التجار والموظفين، ومن أصحاب الأراضي والنفوذ. وكان لهؤلاء تأثير كبير في المدينة على الرغم من نسبتهم القليلة. ويمكن، في ضوء هذه الخلفية، أن نفسر نجاح عائلة قدّورة في الإنتخابات وتعيين رئيس المجلس البلدي منها سنة 1934.
لقد تناول جهاز استخبارات الهاغانا سياسة آل قدّورة في عدة تقارير، نذكر منها التقرير المؤرخ 21 آب/ أغسطس 1942، والذي يصف الشيخ أسعد وأبناء عائلته على النحو التالي: « هو شخص معتدل كبقية أبناء هذه العائلة، إلا إنه نظراً إلى منصبه الديني كان عليه أحياناً أن يقوم بنشاطات سياسية، ولولا ذلك لكان فقد مكانته أمام أبناء طائفته.»
لكن على الرغم من هذا الموقف فقد حظيت عائلة قدّورة بتأييد قسم من عائلات صفد. ومن العائلات التي أيدتها نذكر رستم، والخولي، وعبد الرحيم، وشمّا، وصبح، وخوري. وهذا الإئتلاف سيطر على المدينة بعد التغلب على ائتلاف عائلة النحوي في انتخابات سنة 1934. ومن الجدير بالذكر أن تأييد هذه العائلات لآل قدّورة داخلياً لا يعني أنها أيدتهم أيضاً في سياستهم الخارجية المتضامنة مع آل النشاشيبي.
صفد في عهد الانتداب البريطاني
مصطفى العباسي