الخلفية الاجتماعية، أصول العائلة،
ومكانتها في أواخر العهد العثماني
في حالة مدينة طبرية، يبدو أنه لم تكن هناك شريحة واسعة من عائلات الأعيان، كتلك التي كانت في المدن الكبرى في فلسطين، ولا حتى في المدن المماثلة لطبرية من حيث حجم السكان، كصفد وعكا. فقد كانت فيها عائلة مسلمة واحدة يمكن اعتبارها عائلة أعيان تقليدية، وهي عائلة الطبري.
إذاً نحن هنا أمام حالة لمجتمع عربي كانت تتزعمه عائلة واحدة، على امتداد فترة متواصلة من الزمن تزيد على المئة عام، بحيث حكمت هذه العائلة كل النواحي الدينية، والاجتماعية، والسياسية، والاقتصادية للحياة فيها. وذلك إضافة إلى السيطرة والنفوذ اللذين كانا لها في الريف، وفي القضاء عامة، كما سنرى لاحقاً.
فيما يتعلق بأصول آل الطبري، هناك روايتان. الأولى مأخوذة من تقارير استخبارات الهاغاناه، وفحواها أن آل الطبري جاؤوا طبرية من مدينة عجلون في شرق الأردن.(10) أمّا الثانية فهي رواية أحد أعيان العائلة الذي قابلته، والذي ذكر أن العائلة قدمت من منطقة حوران جنوب سورية من الصعب أن نحدد أي الروايتين الأصح، لكن من الملاحظ أن المنطقتين متقاربتان جغرافياً.
ومن اللافت أنه في تقارير الاستخبارات كلها، وفي رواية العائلة المذكورة أعلاه، لا توجد إشارة دقيقة إلى تاريخ سكن العائلة في طبرية، ولا إلى تاريخ ارتقائها إلى مراكز القوة. ونظراً إلى انعدام المخطوطات المحلية والسجلات العائلية، فإن هذا الموضوع يبقى في دائرة التخمين. ومع ذلك، فنحن نعلم أن النمو المستجد لطبرية من بلدة صغيرة ليست ذات شأن إلى مدينة مهمة في منطقة الجليل، قد حدث في النصف الأول من القرن الثامن عشر. ولا سيما عندما تولى الشيخ ظاهر العمر الزيداني التزام الضرائب فيها، واتخذها قاعدة لحكمه لبقية أنحاء الجليل قبل انتقاله إلى عكا، وذلك على الأرجح في سنة 1730.
وفي هذا الخصوص يذكر ميخائيل الصباغ في كتابه "تاريخ الشيخ ظاهر العمر الزيداني" أنه عقب استيلاء ظاهر العمر على طبرية دعا إليه أعيان المدينة، وفي جملتهم الإمام والقاضي، ليطلب مساعدتهم في إقناع سلطات الولاية بمنحه حق الالتزام.(13) ويتبين لنا مما يقوله الصباغ أنه كان في المدينة قاض، غير أن الصباغ لا يذكر اسم القاضي ولا عائلته، وهذا ما يزيد في صعوبة تحديد ما إذا كان آل الطبري موجودين في طبرية قبل سيطرة ظاهر عليها أم أنهم هاجروا إليها بعد ذلك؛ أي بعد أن أصبحت مدينة عامرة وذات شأن.
وعلى أية حال، فإن أول زعيم لآل الطبري تشير إليه المصادر المتوفرة لدينا هو الشيخ عبد الله الطبري، الذي كان يشغل منصب القاضي الشرعي في طبرية في إبان فترة الحكم المصري للمدينة (1831 – 1840). وقد ورد ذلك في رسالة من الشيخ عبد السلام الطبري إلى المؤرخ اللبناني أسد رستم.
يذكر الشيخ عبد السلام أن إبراهيم باشا، قائد الجيوش المصرية، أبعد عمه الشيخ عبد الله إلى يافا لفترة قصيرة بتهمة المشاركة في أحداث الثورة التي نشبت سنة 1834 ضد الحكم المصري وشملت معظم أنحاء فلسطين، بما في ذلك طبرية. لكن، واستناداً إلى رسالة عبد السلام، سمحت السلطات لاحقاً للشيخ عبد الله بالعودة إلى مدينته وإلى منصبه في القضاء بعد أن اتضح عدم مشاركته في الثورة.
يمكن تدعيم هذه الرواية من خلال الدوريات العثمانية السنوية المسماة السالنامة. فاستناداً إلى سالنامة ولاية سوريا لعام 1868، نجد أن الشيخ عبد الله كان فعلاً قاضياً شرعياً للمدينة، وأنه ظل يشغل هذا المنصب حتى سنة 1873. ومعنى هذا أن عبد الله ظل قاضياً لأكثر من أربعة عقود متتالية.
علاوة على الشيخ عبد الله، ورد في السالنامة نفسها لعام 1868 اسم الشيخ محمد أفندي الطبري، الذي شغل منصب مفتي طبرية. وقد ظل محمد في هذا المنصب حتى تعيين الشيخ عبد السلام الطبري مفتياً للمدينة خلفاً له سنة 1873.
ويجب الإشارة إلى أنه نظراً إلى انعدام أي شجرة لنسب العائلة، ونظراً إلى انعدام معظم سجلات المحكمة الشرعية للمدينة من تلك السنوات، فمن الصعب معرفة القرابة الدقيقة بين الشيخ عبد الله والشيخ محمد المذكورين أعلاه، لكن من المرجح أنهما كانا أبناء عمومة.
وبناء على ما ذكرناه أعلاه، في إمكاننا أن نخلص إلى الاستنتاج أن مكانة آل الطبري كانت قوية حتى قبل بداية الحكم المصري. ولا مبالغة في الافتراض أيضاً أن العائلة كانت تحتل موقعاً ريادياً في المدينة في القرن الثامن عشر، لأنه من غير الممكن أن يكونوا وصلوا إلى المناصب الدينية المهمة مع بداية الحكم المصري، أو قبيل ذلك بوقت قصير. فالوصول إلى هذه المناصب يحتاج إلى مراحل يكتسب مثل هذه الأسر من خلالها التأييد والشرعية من المجتمع المحلي، فضلاً عن اعتراف السلطات ودعمها.
وكما نعرف من تواريخ عائلات مماثلة في المدن الكبرى في فلسطين، وكذلك في مدن الأقاليم، فإن عائلات الأعيان كانت تحتفظ بمواقعها في السلطة، وتورث وظائفها الدينية والإدارية المتعددة من جيل إلى جيل. وتلك كانت حال عائلة الطبري التي حافظت على استمرارية زعامتها في أواخر العهد العثماني، وحتى خلال فترة الانتداب.
فبعد الشيخين عبد الله ومحمد برز جيل جديد من الزعماء، كان من أبرزهم سعيد ابن الشيخ محمد المذكور. فقد أصبح سعيد زعيماً ذا نفوذ كبير، ويعود إليه الفضل في تأسيس أكبر وأقوى فرع في العائلة.
استناداً إلى سجلات السالنامة فقد انتخب سعيد عضواً في مجلس إدارة القضاء عدة مرات في السنوات 1876 – 1878، كما تولى في سنة 1884 منصب سكرتير المجلس. وفي سنة 1900 انتخب رئيساً لمجلس بلدية طبرية، وظل في هذا المنصب حتى سنة 1908 على الأقل. وكما سنرى لاحقاً فقد استمر سعيد في احتلال مكانة بارزة حتى العقد الأول من الانتداب.
بالإضافة إلى سعيد، برز من أبناء الجيل الثاني الشيخ عبد السلام أمين الطبري، الذي كان أيضاً ذا مكانة مرموقة جداً. وليست لدينا معلومات ثابتة تتعلق بالمنصب الذي كان يتولاه والد الشيخ عبد السلام، لكننا نجد في حصر الإرث المحفوظ في السجل الشرعي لطبرية، والذي أخرجه صدقي الطبري، ابن الشيخ عبد السلام، أن اسم أمين مسبوق بلقب الشيخ. وليس من الواضح ما إذا كان استعمال كلمة الشيخ يدل على لقب ديني أم أن الإشارة هنا إلى كلمة الشيخ تعني زعيم عائلة أو رجلاً من الأعيان كما كان مألوفاً في كثير من الحالات.
على أية حال، كان الشيخ عبد السلام من أبرز الشخصيات في تاريخ آل الطبري. فبعد إتمام دراسته في مدينته، سافر إلى مصر حيث تابع دراسته الدينية في الأزهر الشريف وأصبح عالماً في الدين. وفي سنة 1873 عين مفتياً لطبرية، بعد محمد أفندي الطبري.
ويظهر من سجلات السالنامة المتوفرة بين أيدينا، والتي تغطي الأعوام 1874 – 1908، أن عبد السلام ظل يتولى هذا المنصب خلال هذه الحقبة كلها. أمّا عن تاريخ اعتزاله الإفتاء، فثمة روايتان. الأولى هي رواية عادل مناع، التي تذهب إلى أن الشيخ عبد السلام ظل مفتياً حتى سنة 1914 حين اعتزل لبلوغه سناً متقدمة، وأن ابن أخته الشيخ طاهر الطبري حل محله. أمّا الرواية الثانية فهي رواية أليسا روبين بيليد، التي تذكر أن الشيخ طاهر لم يتول المنصب إلاّ سنة 1918. وهذا يعني أن عبد السلام ظل مفتياً لطبرية فترة تفوق الأربعين عاماً متوالية.
كان الشيخ عبد السلام، بحكم كونه مفتياً، عضواً دائماً في مجلس إدارة القضاء على امتداد الفترة المذكورة آنفاً. وكان هذا المجلس بمثابة الهيئة الإدارية العليا في المدينة والقضاء، وكان يرئسه القائمقام. وإضافة إلى عضوية المفتي والقاضي، كان هنالك عدد من الأعضاء من أعيان المدينة. وقد عمّر الشيخ عبد السلام طويلاً، وتوفي عن أربعة وتسعين عاماً في 20 تشرين الثاني/نوفمبر 1930.
من خلال مجمل ما عرضناه عن أحوال العائلة في أواخر العهد العثماني، نستنتج أن عائلة الطبري كانت العائلة الأبرز في المدينة؛ إذ تولى أبناؤها المناصب الدينية خلال القسم الأكبر من القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين. فقد شغل جيلان من أبنائها مركز الإفتاء باستمرار، ومنصب القضاء فترة طويلة. هذا بالإضافة إلى سيطرتها على عدد من الهيئات الإدارية ورئاسة مجلس بلدية طبرية منذ سنة 1900.
وقد وصف صدقي الطبري في مذكراته أكثر من مرة ذلك العهد العثماني بأنه كان بمثابة الفترة الذهبية للعائلة، وفترة "راحة البال والعيشة الهنية للأعيان المسلمين بما فيهم آل الطبري"، والتي أخذت تتغير مع نشوب الحرب العالمية الأولى وبداية الحكم البريطاني.
مكانة العائلة وزعامتها
خلال فترة الانتداب
كما رأينا آنفاً، كان الحكم العثماني يدعم نفوذ عائلات الأعيان ويستعين بها، ومن خلالها، على تثبيت دعائم سيطرته على المدن والمجتمع عامة. وتجلى ذلك بصورة واضحة في فترة التنظيمات. لكن الحكم البريطاني، الذي كانت له أهداف وأولويات مختلفة، لم يعامل عائلات الأعيان هذه بالقدر نفسه من الاهتمام، ولم ير فيها قاعدة ضرورية لتثبيت حكمه كما فعل العثمانيون، بل لم يتوان أحياناً عن العمل ضدها والنيل من مكانتها، ولا سيما عندما كان بعض أبنائها ينضمون إلى صفوف الحركة الوطنية الفلسطينية وينشطون ضد الانتداب.
وفي حال طبرية وعائلة الطبري، يبدو أنه على الرغم من تغير الحكم في البلد، فإن العائلة استمرت في الحفاظ على مكانتها الدينية ووضعها الاقتصادي. غير أن سيطرتها على مجلس البلدية تراجعت لأنها صارت في أيدي اليهود الذين باتوا يشكلون الآن الأكثرية السكانية في المدينة. ففي سنة 1923 أخلى الرئيس العربي للمجلس البلدي قدري حافظ أفندي مكانه ليحلّ محله اليهودي زكي الحديف، رئيساً بالوكالة أولاً ثم رئيساً منتخباً.
ثمة عدة مصادر أشارت إلى مكانة آل الطبري في فترة الانتداب. منها ما كتبه الراهب اليسوعي فردينان توتل، الذي زار البلد سنة 1924، وذكر أن مسلمي طبرية كانوا ينضوون تحت زعامة آل الطبري.
وفي شهادة أُخرى لنجيب نصار، محرر صحيفة "الكرمل" الصادرة في حيفا، والذي زار المدينة سنة 1925، جاء: "عائلة الطبري الطيبة التي كان لها وجاهة كبرى في قضاء طبرية والغور بالنظر لما اشتهرت به من الكرم والاهتمام بشؤون الأهالي وفصل مشاكلهم."
أمّا تقرير استخبارات الهاغاناه من سنة 1942، فيشهد هو الآخر على مكانة العائلة في أواخر أيام الانتداب بالكلمات التالية: "لقد سيطرت العائلة على كامل المنطقة العربية المحيطة بها، وإذا كان ثمة من معارضين فهم لا يتجرأون على المجاهرة بمعارضتهم." ويذكر التقرير أن أفراد العائلة يتولون جميع المناصب المهمة في المجتمع العربي، كالمفتي، ومدير البنك العربي، وإدارة سوق الجملة، والأطباء، والمحامين، وغير ذلك من المناصب الإدارية.
وعلى الرغم من التفاوت في أساليب هذه الشهادات الثلاث، فهي تتوافق على أن مكانة العائلة بين السكان العرب كانت متينة ووطيدة الأركان. إذ يتحدث فردينان توتل ونجيب نصار عن الزعامة والقيادة، بينما يتحدث تقرير الهاغاناه عن السيطرة والتحكم، وهذا ما لم يكن قائماً تماماً، كما سنرى لاحقاً.
الرجل القوي الذي تزعم العائلة عند بداية حكم الانتداب كان سعيد محمد الطبري المشار إليه سابقاً. وكما رأينا، كان سعيد يتمتع بهذه المكانة منذ أواخر العهد العثماني. ففي أحد أوائل التقارير البريطانية عن طبرية سنة 1919، تحت عنوان "طبرية – قادة الحركة الوطنية العربية"، وُصف سعيد بالكلمات التالية: "وجيه مسن من أعيان طبرية يمتلك عقارات واسعة – وهو رجل صلب جداً.) ووصف تقرير لاستخبارات الهاغاناه من سنة 1941 سعيد قائلاً: "إنه من الأعيان المشهورين في كامل قضاء طبرية والقسم الشمالي من فلسطين، وهو مشهور بثروته الطائلة، وحكمته وضيافته العظيمة التي يقدمها لكل شخص." علاوة على هذا كله، كانت قوة الرجل ونفوذه مستمدتين من كونه أفلح في تأسيس أكبر فرع داخل العائلة.
تزوج سعيد أربع نساء، وكان له منهن ثمانية أبناء، فضلاً عن عدد من البنات. زوجته الأولى، زليخة، كانت شقيقة الشيخ عبد السلام وأنجبت له ابنين، الشيخ طاهر ومحمد أبو السعود. زوجته الثانية كانت من قبيلة عرب الصبيح، وأنجبت له ابنين هما نايف وفايز. كان فايز محامياً محترفاً وعضواً في مجلس بلدية طبرية عدة أعوام. الزوجة الثالثة كانت من قبيلة عرب المشارقة، وأنجبت له ابنين، كامل ورشيد الذي كان طبيباً. الزوجة الرابعة كانت من طبرية من بنات عائلة خرطبيل الثرية، وقد أنجبت له ابنين، يوسف وجمال.
اثنان من هؤلاء الأبناء الثمانية حققوا مكانة اجتماعية مرموقة، وهما الشيخ طاهر ونايف. كان الشيخ طاهر شخصية قوية جداً في المدينة وخارجها، وسيرة حياته الحافلة التي سنأتي إلى ذكرها لاحقاً إنما تدل على ذلك.
ولد الشيخ طاهر سنة 1897، وتلقى دروسه الدينية الأولية في مدينته. ثم تابع دراسته لاحقاً في الأزهر الشريف وحاز رتبة عالم. ويبدو أنه لم يمكث طويلاً في الأزهر وعاد إلى مدينته في سن السابعة عشرة. واستناداً إلى السيرة التي وضعتها أليسا بيليد، فقد غادر طبرية إلى إستنبول حيث درس في جامعتها أربعة أعوام أُخر، عاد بعدها إلى مدينته. وعندما اعتزل خاله الشيخ عبد السلام منصب المفتي، عين طاهر مكانه، وكان في سن الحادية والعشرين. وبموازاة ممارسته الإفتاء كان يعمل أيضاً مدرساً في المدرسة الرسمية في المدينة.
وفي التقرير البريطاني الذي وضع سنة 1919، والذي سبق ذكره، يشار إلى أن طاهراً كان مفتي المدينة، وأنه كان من أنشط أفراد الحركة الوطنية العربية في طبرية، وأنه كان شخصاً عظيم النفوذ في المنطقة.
من اللافت أن هذا النشاط لم يحل دون تعيينه قاضياً شرعياً في 2 كانون الأول/ديسمبر 1924. وبذلك بات يشغل المنصبين الدينيين الأبرزين في مدينته، واستمر يزاول مهماتهما حتى سنة 1946، يوم عين قاضياً للناصرة. ويجب الملاحظة أنه لم يكن هناك إلاّ القليل من الحالات التي تولى فيها قاض منصب القضاء في مدينته الأصلية لهذه المدة الطويلة من الزمن. فالنظام السائد خلال فترة الانتداب كان القيام بنقل القضاة بين مختلف المدن كل بضعة أعوام. وخلال حرب 1948، كان الشيخ طاهر في الناصرة حيث ظل يتولى القضاء فيها حتى وفاته في 28 شباط/فبراير سنة 1959.
أمّا الابن الثاني البارز من أبناء سعيد فهو نايف. كما ذكر سابقاً فإن أمه كانت امرأة بدوية من قبيلة عرب الصبيح، وقد زاد ذلك في مدى نفوذه بين القبائل، إضافة إلى نفوذه بين القرويين. تولى نايف إدارة أراضي العائلة في قريتي ناصر الدين والمنارة. وكان نفوذه في صفوف الحراثين العاملين لدى العائلة في هاتين القريتين قوياً بصورة خاصة، الأمر الذي جعله الشخص الأوسع نفوذاً ضمن العائلة في المناطق الريفية. ويوصف نايف، في أحد تقارير استخبارات الهاغاناه، بأنه شخصية بارزة جداً ذات نفوذ محلي واسع، شاب، مقدام ومفعم بالنشاط، يشارك في جميع المناسبات الاجتماعية، وفارس مشهور يشارك في سباقات الخيل.
ويوصف في تقرير آخر بأنه "شيخ العرب في قضاء طبرية.... ونفوذه بارز في صفوف البدو، وله اليد الطولى في نشاطات المنطقة كافة. وهو الحكم في كل الشجارات والصراعات والخلافات، وهو صاحب الكلمة الفصل، وأحياناً كان يهدد باستعمال القوة إن لم ينفذ حكمه. وهو ما جعل السكان العرب في طبرية يسلمون بحكمه بلا مساءلة." حتى الشباب كانوا يقبلون بسلطته، ولذلك لقب بـ "شيخ الشباب". وبالإضافة إلى هذه النشاطات كان ناشطاً أيضاً في عدة حقول أُخرى. فقد أسس سنة 1947 "الجمعية الخيرية العربية"، وترأسها. وكان غرض الجمعية مساعدة السكان العرب المعوزين في المدينة، وكانت بمثابة وسيلة أُخرى لتعزيز مكانة العائلة داخل هذه الشريحة الاجتماعية.
من خلال ما ذكر أعلاه نرى حقاً أن الشقيقين طاهر ونايف كانا زعيمين بارزين بين السكان العرب في المدينة والمنطقة المجاورة. وقد استمرا في تولي المناصب التي كان يتولاها أبناء الأجيال السابقة من العائلة، مع ارتكاز الزعامة التقليدية على أسس الوظائف الدينية والإدارية المجتمعة نفسها، بالإضافة إلى السيطرة على الأملاك العقارية. ويمكننا أن نضيف إلى هذا انخراطهم في المهن الحرة التي بدأوا يشتغلون بها أيام الانتداب. إذ انخرط اثنان من أبناء سعيد في هذا الحقل: ففايز كان محامياً وعضواً في مجلس بلدية طبرية عدة أعوام، ورشيد كان طبيباً معروفاً.
القاعدة الاقتصادية للعائلة
إن المكانة التي تمتع بها آل الطبري والوظائف التي شغلها أبناء العائلة لم تأت من فراغ، وإنما ارتكزت إلى حد كبير على قوتهم الاقتصادية الكبيرة. فقد كانت العائلة من أغنى العائلات في الشمال الفلسطيني. فكغيرهم من عائلات الأعيان امتلك آل الطبري عقارات واسعة. وتشير المصادر إلى أن الشيخ عبد السلام كان يمتلك عقارات واسعة في ضواحي مدينة طبرية، وأنه رجل ثري جداً، وقد ترك بعد وفاته سنة 1930 لولده صدقي كثيراً من العقارات والأراضي حول الحي اليهودي "كريات شموئيل"، ومبالغ طائلة من الأموال النقدية.
أمّا صدقي فكان ميسوراً جداً، ومن أثرى رجال طبرية. إذ كان يمتلك ست بنايات ضخمة أجرها لسلطات الانتداب البريطاني، وكان يمتلك كثيراً من المحال والمساكن والأراضي. كان أيضاً مديراً لفرع "بنك الأمة". يصف تقرير لاستخبارات الهاغاناه وضْعه الاقتصادي بأنه "من أثرياء طبرية، مدير البنك العربي في المدينة، ويعتمد على إحسانه عدد كثير من الفقراء العرب. لذلك فإن نفوذه واسع جداً في صفوف السكان وفي المنطقة، ويخضع كثيرون منهم لنفوذه لأن الرجل يعد من أهم رجالات الاقتصاد في المجتمع العربي في الشمال."
كما أن أفراد الفرع الآخر للعائلة، من أبناء الشيخ سعيد، كانوا من أصحاب الأملاك العقارية الواسعة. فقد امتلكوا بصورة كاملة قريتي ناصر الدين والمنارة اللتين بلغت مساحة أراضيهما 6797 دونماً، وكذلك امتلكوا عدداً من البنايات داخل المدينة، و12 متجراً، وخاناً كبيراً، ومضافة كانت تعتبر مركز النشاطات وصنع القرارات لدى جميع أهالي المدينة من العرب. وكان كثيرون من فقراء طبرية يأكلون ويشربون في تلك المضافة. وكانت العائلة تمتلك أيضاً عدة قطعان من الغنم والماشية. وكان نحو 400 من الحراثين مع أبناء عائلاتهم يشتغلون في حقول العائلة ومشاريعها، فيزرعون الأرض ويحولون ثلثي المحاصيل إلى عائلة الشيخ سعيد.
في سنة 1940 أشار حاكم اللواء إلى أن عائلة الطبري سيطرت على سوق الجملة في طبرية. وكانت هذه السوق قبل ذلك تحت سيطرة إبراهيم الحاج خليل، وباتت الآن تحت إدارة عائلة الطبري. ويبدو أن هذا الأمر تم بفعل الضغط، وتسبب لذلك بتوتر داخل المجتمع العربي في المدينة. وفي سنة 1945 بادر أعضاء العائلة إلى إنشاء مكتب الغرفة التجارية في طبرية. وقد جاءت المبادرة من صدقي الطبري الذي كان رئيس هذه الغرفة، غير أن نايف الطبري انتخب رئيساً فخرياً لها. وبالإضافة إلى صدقي ونايف، كان هناك 12 عضواً في الغرفة التجارية.
وبالنظر إلى ما تقدم يمكن أن نستنتج أن أبناء هذه العائلة شكلوا عاملاً اقتصادياً قوياً في المجتمع العربي في طبرية والقضاء عامة، وذلك بفضل المناصب والأراضي والتجارة والمباني التي كانوا يمتلكونها. وعلى الرغم من وجود جالية يهودية قوية ذات قدرة تنافسية، فقد استمرت العائلة في الحفاظ على مكانتها الاقتصادية الثابتة حتى سنة 1948.
عائلة الطبري
والحركة الوطنية الفلسطينية
على الرغم من أن طبرية كانت مدينة داخلية ذات أكثرية سكانية يهودية، فإن سكانها العرب بزعامة عائلة الطبري شاركوا بفاعلية في مختلف النشاطات السياسية للحركة الوطنية الفلسطينية.
ويمكننا أن نقسم سير العلاقة بين الحركة الوطنية الفلسطينية والعائلة إلى ثلاث مراحل. المرحلة الأولى بدأت بعد الاحتلال البريطاني للجليل مباشرة في أواخر سنة 1918. وكما أشرنا آنفاً، فإن المفتي الشيخ طاهر قاد النشاطات الوطنية خلال الأعوام الستة الأولى من حكم الانتداب.
كانت هذه النشاطات منوعة، واشتملت مثلاً على المشاركة في المؤتمر السوري العام الذي عقد في دمشق سنة 1919. وقد أيد المؤتمر المذكور حكومة الأمير فيصل، وطالب باتحاد فلسطين وسورية تحت شعار أن فلسطين هي القسم الجنوبي من سورية. وفي وقت لاحق ترأس الشيخ طاهر الجمعية الإسلامية – المسيحية في طبرية، وفي سنة 1921 مثل المدينة في المؤتمر الفلسطيني الرابع الذي عقد في القدس.
ويتضح من دراسة المراسلات ونمط النشاطات الوطنية خلال السنوات 1919 – 1922، أن نشاطات الشيخ طاهر اقتصرت على المشاركة في المؤتمرات، وإرسال العرائض إلى سلطات الانتداب، وتنظيم النشاطات الوطنية، وخلت تماماً من الفعاليات والنشاطات ذات الطابع الحاد، كالتظاهرات والإضرابات. ويبدو أن ذلك أثار بعض الانتقادات من اللجنة التنفيذية للمؤتمر الفلسطيني.
ويشير رد الشيخ طاهر إلى المعوقات والصعوبات التي كانت تواجه العرب في طبرية فيما يتعلق بممارسة النشاط الوطني كما في بقية المدن. فبالنسبة إلى عرب طبرية كان القيام بالتظاهرات والإضرابات في مدينة ذات أكثرية يهودية أمراً صعباً، كما أن تنفيذ الإضرابات ما كان ليؤثر في الحركة التجارية، على حد قوله، لأن معظمها كان تحت سيطرة اليهود.
يوصَف الشيخ طاهر في تقارير استخبارات الهاغاناه بأنه من مؤيدي آل الحسيني، وأنه من الخاضعين لنفوذ المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى بقيادة مفتي القدس الحاج أمين الحسيني.
لم يكن من المستغرب أن يكون الشيخ طاهر تحت تأثير آل الحسيني. فبحكم وظيفته الدينية كان خاضعاً لسلطة المجلس الإسلامي الشرعي الأعلى وللشخص الذي يرئسه، أي الحاج أمين الحسيني. لكن يبدو أنه ابتداء من سنة 1922، ولا سيما بعد أن عين قاضياً سنة 1924، حدث تراجع ملحوظ في نشاطاته، وأخذ يبتعد شيئاً فشيئاً عن الساحة السياسية.
ويجب الإشارة أيضاً إلى أنه على الرغم من ميله إلى آل الحسيني، والعلاقات التي نشأت مع الحركة الوطنية الفلسطينية خلال العقد الأول من حكم الانتداب، فقد ظلت العائلة تتبع إلى حد ما خطاً سياسياً معتدلاً ومستقلاً، واستمرت في الحفاظ على العلاقات الطيبة بيهود المدينة وقياداتهم الاجتماعية.
وقد اتضح ذلك خلال فترة أحداث البراق سنة 1929. فخلافاً لكل المدن الأُخرى المختلطة، خيم السلام والهدوء على طبرية، ولم تقع أية حوادث غير مألوفة. وقد تم ذلك بفضل مبادرة الشيخ عبد السلام الطبري الذي نظم اجتماعاً لجميع الأعيان العرب واليهود في مضافة العائلة، وأصدر إعلاناً باللغتين العربية والعبرية يدعو إلى الهدوء والحفاظ على السلم. وقد وقّع الإعلان 11 من أعيان طبرية العرب على رأسهم شيوخ العائلة الشيخ عبد السلام الطبري، وسعيد الطبري، والمفتي والقاضي الشيخ طاهر الطبري. علاوة على رؤساء عائلات خرطبيل، وحماد، وعقيل، وسواهم.
ابتعد الشيخ طاهر بالتدريج، كما لاحظنا، عن الساحة السياسية، وبدأت منذ ذلك الحين مواقع القوة والتأثير تتوزع من جديد داخل العائلة. فقد راح نايف يوسع نشاطاته في المجال السياسي أيضاً، كذلك تعززت مكانة صدقي الطبري، الابن الوحيد للشيخ عبد السلام.(61) ومعه بدأت المرحلة الثانية في النشاط السياسي للعائلة.
تصف المصادر صدقي بأنه شخصية اجتماعية شابة، مفعمة بالنشاط، تمكن عبر مكانة والده التقليدية من إرساء نفوذه في المدينة والقضاء. وخلال فترة وجيزة من الوقت أصبح أكثر الشخصيات نشاطاً داخل صفوف الحركة الوطنية، سواء بين أعضاء عائلته أو داخل المجتمع العربي في المدينة والقضاء.
ولد صدقي سنة 1899. درس أولاً في مدينته، ثم أكمل في سنة 1927 دراسته في الاقتصاد والعلوم السياسية في الجامعة الأميركية في بيروت. تزوج صبحية، بنت سعيد الطبري وشقيقة طاهر ونايف. بدأ خطواته على الساحة السياسية خلال الأعوام الأولى لحكم الانتداب، وكان عضواً في الوفد الذي مثل طبرية في مؤتمرين فلسطينيين: الخامس الذي عقد سنة 1922، والسابع الذي عقد سنة 1928.
وعلى الرغم من نشاطاته الوطنية، كانت علاقاته بسلطات الانتداب خلال السنوات 1929 – 1936 طيبة وعادية. وتشهد على ذلك المراسلات بينه وبين كثيرين من ممثلي الحكم البريطاني. من ذلك أن صدقي دُعي إلى عدة اجتماعات رفيعة المستوى. ففي 23 أيلول/سبتمبر 1932، دعي إلى العشاء على مائدة الأدميرال أ. إرنيل تشاتفيلد، قائد الأسطول البريطاني في البحر الأبيض المتوسط، الذي جاء في زيارة إلى حيفا. وفي سنة 1934، قابل حاكم لواء الشمال، وأعرب عن استعداده للمجيء على رأس وفد من أعيان طبرية لمناقشة سبل تحسين التعاون بين العرب في المدينة وبين المسؤولين الحكوميين.
ولم تحل العلاقة الطيبة بالبريطانيين دون مضيه في تثبيت مكانته في المدينة وجوارها الريفي. وفي سنة 1935 أسس جمعية المزارعين العرب في طبرية والقضاء. ويتبين من النظام الأساسي للجمعية أن الهدف الرئيسي كان توفير المساعدة والإرشاد، وتشجيع المزارعين على اعتماد الطرق الحديثة، علاوة على تسوية النزاعات، إلخ. وقد ضمت الجمعية مجموعة من أبرز مشايخ القرى، برئاسة الزعيم القروي الشيخ عبده عايده من قرية المغار.
لكن عند إعلان الإضراب واندلاع ثورة 1936، بدأ فصل جديد في نشاطات عائلة الطبري بصورة عامة، وصدقي بصورة خاصة. كانت العائلة أمام تحد صعب هو الأول من نوعه منذ بداية حكم الانتداب. فقد وجدت نفسها بين خيارين عسيرين: إمّا التجاوب مع المطالب بالإضراب وتعريض صلاتها الجيدة بالجيران اليهود والسلطات البريطانية للخطر، وإمّا المضي في السياسة المعتدلة التي انتهجتها في أثناء اضطرابات سنة 1929.
والظاهر أن شبكة العلاقات، مع مختلف الهيئات الفلسطينية ومع المجلس التنفيذي ومع آل الحسيني، لم تترك لهم خياراً غير الوقوف إلى جانب المعسكر الوطني. وقد تم ذلك بحذر شديد تحاشياً لأزمة حادة مع الجيران اليهود، أو لقطيعة تامة مع البريطانيين. ومن اللافت أنه خلال هذه الفترة الحرجة التي مرت بها العائلة، فضل البعض من قادتها التقليديين ألا يتخذ موقفاً صريحاً، وهذا ما عزز موقف صدقي إلى حد بعيد.
وما إن اندلعت الاضطرابات حتى شكل صدقي "اللجنة القومية"، وهي هيئة سياسية كانت مهمتها الأساسية تنظيم وقيادة النشاطات السياسية، والإشراف على الإضراب والمقاطعة الاقتصادية ضد اليهود، والتنسيق مع اللجنة العربية العليا، إلخ. ومن أبرز أعضاء هذه اللجنة نايف الطبري وأخواه رشيد وفايز، ومحمد سخنيني، ورشيد العقيل، والياس دياب، والشيخ عبده عايده، ومحمد سحتوت. وقد أدى وقوف صدقي على رأس اللجنة إلى ترسيخ مكانته أكثر. فقد شارك في المؤتمر العام للجان القومية الذي عقد في القدس في 7 أيار/مايو 1936. كما ترأس لجنة المقاطعة الاقتصادية لليهود في طبرية والمنطقة المحيطة بها.
من الواضح أن هذه الأدوار التي قام بها صدقي اقتصرت على المجال التنظيمي، ولم يكن له يد في أية نشاطات "عنيفة". وتشير تقارير الاستخبارات التابعة للهاغاناه إلى هذا الأمر بحيث تنسب إليه أيضاً نشاطات، كتوزيع الأموال والمؤن.
ومن ناحية أُخرى، تنسب تلك التقارير النشاط "العنيف" إلى الشيخ نايف. ووفقاً لها كان الشيخ نايف منخرطاً بقوة مع أهالي قرى قضاء طبرية، وكان يشارك في النشاطات الوطنية. وتظهر التقارير أن الشيخ نايف كان يعبئ، عند الضرورة، كثيرين من الشباب من أهالي القرى التي يمتلكها. وكان يترأس جماعة مسلحة من أكبر الجماعات وأكثرها إقداماً في منطقة الجليل الأسفل وغور الأردن، والتي عرفت باسم "عصبة الشيخ نايف".
على الرغم من دور صدقي الريادي في العامين الأولين للثورة، فقد غادر هو وعدد من زعماء العائلة طبرية في سنة 1938. وتبدو هذه خطوة مستغربة لأنه لم يكن رجلاً مطلوباً من البريطانيين، ولم يكن ثمة تهديدات لحياته من الثوار أو الفلاحين، كتلك التي واجهها كثيرون من الأعيان والتجار. والظاهر أن الضغوط المتصاعدة، والمطالب المتزايدة من دفعات المال من جانب الثوار قد أجبرتهم على مغادرة البلد في اتجاه دمشق أولاً، ومن ثم في اتجاه بلدة حمانا في لبنان.
ظل صدقي خارج فلسطين حتى 9 كانون الثاني/يناير 1940. وفي تقرير لحاكم اللواء يوصف صدقي بأنه أهم "مهاجر" عاد إلى طبرية بعد طول غياب، وأنه استأنف فور عودته عمله كمدير لبنك الأمة في المدينة.(72) ومع نهاية الثورة وعودة صدقي، وصلت المرحلة الثانية من النشاط السياسي الوطني لعائلة الطبري إلى نهايتها، وبدأت المرحلة الثالثة والأخيرة التي استمرت حتى اندلاع حرب 1948.
وفي هذه المرحلة وصلت زعامة صدقي إلى القمة، بينما شهدت المكانة السياسية لنايف تراجعاً ملحوظاً. وقد اتسمت هذه المرحلة أيضاً بالنشاطات المتعددة الأوجه في إنشاء الجمعيات، والمنظمات، وسواها من الهيئات، بالإضافة إلى تعزيز الصلات بمختلف الفصائل الفلسطينية على امتداد البلد.
بادر صدقي إلى إنشاء عدد من هذه المؤسسات، وكان يترأسها في معظم الأحيان. فعلاوة على منصبه كمدير لبنك الأمة في المدينة، أنشأ فرعاً لصندوق الأمة. وفي سنة 1944 تم اختياره عضواً لإدارة هذا الصندوق، وقد منحه هذا المنصب مزيداً من النفوذ في المجال الاقتصادي.
ويجب أن يذكر هنا أن هذا الصندوق عمل على جمع الأموال وشراء الأراضي من المُلاّك العرب للحؤول دون بيعها إلى الهيئات الصهيونية. ومن خلال تقارير صدقي عن عمل الصندوق في أثناء أعوام نشاطه في قضاء طبرية خلال السنوات 1943 – 1947، يتبين أنه نجح في إنقاذ 944 دونماً من الأراضي التي كانت على وشك أن تباع لليهود.
ومع تأسيس الحزب العربي الفلسطيني – حزب آل الحسيني – سنة 1935 انضم صدقي إليه وأنشأ له فرعاً في طبرية وترأسه، وأشرف على نشاطاته في المدينة والقضاء. وفي سنة 1946 انتخب عضواً في المكتب المركزي للحزب. وتشير المراسلات بينه وبين المكتب المركزي إلى أنه كان مقرباً جداً من قادته بزعامة الحاج أمين الحسيني. في أواخر فترة الانتداب، ولا سيما بعد قرار التقسيم في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947، تولى صدقي أصعب منصب في حياته، وهو رئيس "اللجنة القومية العربية" في طبرية. وقد قادت هذه اللجنة عرب طبرية خلال الأشهر الخمسة العسيرة والمصيرية وخلال فترة المواجهات والمعركة بينهم وبين مختلف التنظيمات اليهودية حتى سقوط طبرية في 18 نيسان/أبريل 1948.
لسنا هنا بصدد مناقشة فترة حرب 1948، التي تحتاج إلى دراسة منفصلة. لكن يجب الإشارة إلى أنه على الرغم من السياسة المعتدلة التي انتهجتها العائلة على امتداد تاريخها، وعلى الرغم من العلاقات الطيبة التي سادت بين قادتها وبين اليهود والعرب في المدينة، بالقياس إلى سواها من المدن، فقد طردت العائلة ومعها جميع السكان العرب بالقوة خلال تلك الحرب. وهكذا انتهى هذا الفصل في تاريخ العائلة وأُسدل الستار على عروبة طبرية. ولم يبق بعد الحرب إلاّ نفر قليل من أعضاء العائلة في فلسطين، ومن جملتهم الشيخ طاهر، لكن الجزء الأكبر من أفراد العائلة أُجبر على مغادرة البلد في اتجاه الأردن وسورية.
خاتمة
قد دلت الدراسة على أن هذه عائلة الطبري كانت ذات نفوذ واسع جداً، منذ يوم بدأت تبرز على مسرح الأحداث مع إعادة بناء طبرية خلال النصف الأول من القرن الثامن عشر على يد الشيخ ظاهر العمر الزيداني. ورأينا أنه في أيام الحكم المصري، 1831 – 1840، شغلت العائلة منصب الإفتاء في المدينة. وعلى الرغم من إبعاد العائلة لمدة وجيزة جراء ثورة 1834 إلاّ إنها عادت ونجحت في الحفاظ على استمرارية الزعامة على امتداد فترة التنظيمات حتى نهاية الحكم العثماني؛ أي أنها قادت المدينة مدة تنوف على مئة عام من دون أي منافسة من العائلات العربية، ولم تقطع هذه الاستمرارية إلاّ حرب 1948.
إن مثال آل الطبري يدل على أن أعيان المدن تمكنوا، من خلال شبكات علاقاتهم بالسلطات، من الاستمرار في تأدية دور الوسيط بين الحكم المركزي والسكان، سواء داخل المدينة أو في الريف. وغالباً ما كانت الفائدة متبادلة؛ فهم رسخوا نفوذهم وزادوا في قوتهم من جهة، ومن جهة أُخرى رأت فيهم السلطات، وخصوصاً في الحقبة العثمانية، إحدى ركائز حكمها.
وفيما يتعلق بطبرية دل البحث على أن العائلة حافظت على كثير من مكانتها وهيبتها حتى عهد الانتداب البريطاني، وذلك على الرغم من تراجع نفوذها في مجال السلطة البلدية، وهو ما يؤكد أن "سياسة الأعيان" تمكنت من الاستمرار في المدن الداخلية مدة طويلة. فهذه المدن لم تشهد نمواً سريعاً لطبقات جديدة كما حدث في المدن الكبرى والساحلية، حيث ظهرت الطبقة الوسطى المنافسة لطبقة الأعيان خلال العقد الثاني من حكم الانتداب.
وبينت المقالة أيضاً أن مكانة العائلة وقوتها ارتكزتا على عدد من المجالات: أولاها مجال المناصب الدينية، إذ تولى أبناء العائلة مناصب الإفتاء والقضاء وإدارة الأوقاف بشكل حصري لفترة طويلة ومتواصلة من الزمن. وثانيها السيطرة على المناصب الإدارية الرفيعة، كعضوية المجلس الإداري، ورئاسة البلدية، وعضوية المجلس البلدي، والعمل في المهن المرموقة كالطب، والمحاماة، وغيرها. وثالثها التحكم في المجال الاقتصادي الذي شمل امتلاكهم الأراضي والعقارات الزراعية الواسعة، سواء في مدينة طبرية أو في محيطها الريفي. وهذا إضافة إلى المباني والعقارات الكبيرة، والمحال التجارية، ومختلف المصالح الصناعية.
المصدر: من مقالة (عائلة الطبري وقيادتها للمجتمع العربي في مدينة طبرية)
للكاتب مصطفى العباسي