جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
مذكرات شفيق الحوت ((بين الوطن والمنفى)) تجربة غنية غطت 70 عاماً من سيرة الوطن والشعب
بيروت/ياسر علي
مجلة فلسطين المسلمة
من عادة من يكتب مذكراته؛ خاصة السياسية منها، أن يكون قد ترك مناصبه ومهامه، وهذا أفضل، ليتحرر من ضغوط مراعاة علاقات هذا المنصب.. على الصعيد الفلسطيني، من المعلوم أن رواد عصر الحراك السياسي الفلسطيني الثوري قد تجاوز معظمهم السبعين من أعمارهم. وبات يشعر معظمهم (خاصة أولئك الذين رأوا القتل عشرات المرات، ورأوا أعراض الموت ونوباته أكثر من مرة)، أن الوقت قد حان ليسلموا أماناتهم (تجاربهم ومذكراتهم) إلى الأجيال التالية من شعبهم البطل. وبعيداً عن الرومانسية، بات من واجب هؤلاء والمؤسسات القائمة أن يتم توثيق هذه التجارب للاستفادة منها في تصويب الرؤية والأهداف. وكل كتاب مذكرات فلسطينية عايشت المساحة النشطة من القرن الماضي، ستكون بدون شك ((سيرة وطن وشعب)). من يافا بدأ المشوار في الندوة التي أقيمت في بيروت حول كتاب ((أنيس صايغ عن أنيس صايغ))، ختم شفيق الحوت كلامه، بالإجابة عن سؤال ابنته: لماذا يسلبُ جمالُ طبريا لبَّ الدكتور أنيس إلى هذا الحد؟ فقال لها: لأنه لم يعرف يافا! يومها أدركت كم يتعلق قلب ((أبو هادر)) بمدينته الأثيرة يافا، إلى حد أنه لم يستطع إلا أن يضيف اسمها في عنوان مذكراته ولو كان في جملة إضافية للعنوان. ولئن كانت يافا لا تأخذ حيزاً كبيراً من سيرة حياة الحوت إلا أنها تخيم على كل صفحات الكتاب وأحداثه ((إنني أشكر الله على أن والدي قد توفي قبل هذا اليوم، لأني لا أدري ماذا كان بإمكاني أن أقول له لو سألني عن يافا وموقعها في هذه الدولة التي أعلنّا قيامها!!))، وذلك في تعليقه على ((وثيقة الاستقلال 1988)) صفحة 397. في المضمون، يتألف الكتاب من حوالي 550 صفحة تحتوي ثلاثين فصلاً، تبدأ من يافا والنكبة (الفصول 1-2-3)، وتجربته مع منظمة التحرير (بين الفصول 4-27)، وختم بالفصول الثلاثة الأخيرة حول ما بعد استقالته وعودته إلى النشاط الشعبي والكتابة الصحفية. حكمة اليوم ليسمح لي الأخ أبو هادر أن أكتب بحرية، بما لا يفسد احترامي وتقديري له ولتاريخه النضالي، ولا يستثير انفعالاته لأني أؤمن أنه سيتقبل الرأي الآخر لأنه ((غير قابل للإفساد)) كما يقول إدوارد سعيد. باعتقادي أن العامل الزمني المؤثر في كتابة المذكرات هو زمان كتابتها وليس زمان حدوثها، ذلك أن ((الغارق)) في الأحداث تصعب عليه الرؤية الواسعة مكاناً وزماناً، إلا إذا ابتعد عن مؤثراتها الزمنية والمكانية والظرفية. أرى أن هذا الأمر يظهر جلياً في الصفحة 316، حيث يحاكم الكاتب مواقف الأمس بمعايير اليوم ((إن الذي يعود ويطالع ((أدبيات ومواقف)) البعض في تلك الفترة، ويقابلها بمواقف وأدبيات اليوم، لا يستطيع إلا أن يهز الرأس أسفاً وحزناً على حجم ((السذاجة)) التي كانت تهيمن على الساحة الفلسطينية مقرونة ب((خلط)) مقصود بين القضية الفلسطينية والخلافات العربية..)). هنا يحاكم الكاتب مواقف التنظيمات إلى معايير عالم أحادي القطبية، في الوقت الذي كانت فيه هذه المواقف في زمان ثنائي القطبية ويشكل الطرف الفلسطيني وزناً يستطيع تحقيق مكاسب أكبر.. وأذكر هنا، أن ((أبو هادر)) ومجموعة ((البلدوزرات الفكرية)) التي واكبت تلك المرحلة عادت وانفضّت عن المنظمة عند انكشاف ((فضيحة)) اتفاق أوسلو. كما أن اتفاق أوسلو وصلت فيه المطالب الفلسطينية إلى الحضيض، ولم يتحقق إلا الفتات، فإن القادة والرموز التي أحاطت بمواقع القرار لم يصل منها إلا الفتات، أما القادة الكبار فتساقطوا إما قتلاً وإما استقالة (أبو إياد، أبو جهاد، أبو اللطف، أبو هادر..). غير أنه يسجل لجبهة الرفض أنها تركت تلك المسيرة مبكراً، أما هذه الرموز فقد تأخرت حتى أدركت الخديعة التي خططت لها القيادة منذ النقاط العشر، حيث كانت تتطلع إلى ((ما بعد بعد النقاط العشر))؛ أي إلى ما يشبه اتفاق أوسلو. ولعل كلمة مرت في ثنايا الكتاب تعبر عن ذلك في صفحة 493 ((ولكن لكل جيل أولوياته.. وطريقته في التعامل مع تحديات عصره)). إنها حكمة اليوم وحكمها على أحداث الأمس.. عن الكاتب والكتاب ذكرت أعلاه ((انفعالات)) الكاتب، وقد شهدت بعضها حين كان ((يهدر)) في أحد المؤتمرات، وعلق البعض يومها أن ((أبو هادر)) فعلاً ((أبو هادر))، أبو هادر المعروف بإتقانه نحت المصطلحات، نحتها بعض خصومه – متأثراً بضغينة نائمة- إلى ((الافتعالات)).. غير أن الجميل في الأمر أنه يعترف بذلك، ويقول في صفحة 377 ((أنا عربي الأرومة، صحراوي المزاج، لا أعرف من فصول الطبيعة غير زمهرير الشتاء وجحيم الصيف، لا أكاد أشعر بربيع أو خريف)). وفي صفحة 384 ((وقررت في لحظة انفعال أن أركب الطائرة المتجهة إلى تونس لأطلع على أسباب هذا التأخير، بل هذا التجاهل، وحسم الموضوع مع القائد العام)). أبو هادر دائم الشباب في مواقفه، تحرك في مجالات السياسة بقدر من المرونة، دون أن يترك صلابة وعنفوان الشباب، هذا الأمر يقودنا إلى قضية ليس هذا مكانها، ولكن نموذج ثورات منتصف القرن الماضي ينطبق عليها: لماذا لم يشهد العالم العربي قيادات شابة مثلما شهدها في الخمسينيات والستينيات؟ لا أحصر الموضوع هنا بالقيادات السياسية، بل في الفكر أيضاً والثقافة والمجتمع. والأنكى من ذلك أن القيادات الشابة في الخمسينيات والستينيات، تمسكت بكراسي الحكم والثورة حتى يومنا هذا، بل باتوا أكبر الحكّام سناً وأطولهم حكماً (كاسترو مثالاً). ولقد تتبعت سنّ الكاتب في أثناء تسلمه المناصب القيادية (حتى وصلت إلى التعريف بالكاتب صفحة 524)، فالحوت المولود سنة 1932 كان يدير تحرير مجلة الحوادث سنة 1958 (28 عاماً)، وفي 1961 بدأ بتشكيل فصيله الثوري ((جبهة التحرير الفلسطينية))، وفي سنة 1964 كان من مؤسسي منظمة التحرير الفلسطينية كلف بتمثيل المنظمة في بيروت (32 عاماً). ومثل الحوت كان قيادات منظمة التحرير الذين ما زالوا حتى الآن يحتلون مناصب رفيعة أو الذين استشهدوا.. فكل الحركات النضالية تبدأ بالشباب، ومع استمرار الشباب حتى الشيخوخة تشيخ معهم هذه الحركات، ولن تستطيع الحفاظ على شبابها ما لم تضخ شرايينها بدماء جديدة. لا يستطيع القارئ أن يهرب من المقارنة بين كتاب أنيس صايغ وكتاب شفيق الحوت، فالأول كاتب وباحث سياسي فلسطيني، والثاني سياسي كاتب بقي يحنّ إلى الكتابة، التي اعتبرها أثيرة لديه. بل إن من يرى الكتاب من بعيد على رفوف المعرض، يظنه كتاب أنيس صايغ، لشدة شبهه في تصميم الغلاف لوناً ورسماً وورقاً، وبل إن الكتابين يتجاوزان ال500 صفحة، وصادران عن الدار نفسها؛ دار رياض نجيب الريس. في أسلوب الكاتب نوع من بساطة العبارة مع أهمية المضمون، لا يحاول أن يصوغ جملته وينحتها.. إنه يكتبها كما يقولها، لذلك تكثر إشارة المزدوجين، كناية عن أن الكلمة المستخدمة عامية أو مجازية.. وبدا ذلك واضحاً أنه لن يضيع وقته في نصب وكسر ورفع ((الأبوات)) لكثرتهم أولاً، ولأسلوبه الصحفي السهل المتخلص من الكتابة الأكاديمية والبلاغة اللفظية. فلسطين- عرفات - (إسرائيل) لدى قراءة فهرس الأماكن والأعلام في الكتابين سيجد القارئ أن القاسم المشترك بين أكثر المذكورين في الكتابين هم (فلسطين، إسرائيل، ياسر عرفات)، وعلاقتهما حاسمة بالانحياز إلى فلسطين والعداء لـ(إسرائيل) والالتباس في العلاقة مع عرفات. وباعتقادي أن هذه الأقانيم الثلاثة سيكون لها أغلبية الذكر في فهارس كتب المذكرات الفلسطينية، وستظل علاقات الكتّاب ملتبسة بعرفات، وبالعلاقة معه، فبغضّ النظر عن العلاقات الشخصية، فإن هناك شبه إجماع على الغضب من أساليبه في التعامل، حيث خصص أنيس صايغ أكثر من فصل في كتابه عن العلاقة مع عرفات، فيما أقر الحوت بحبه للصديق عرفات وضيقه من أساليبه ومناوراته، ويذكر في صفحة 458 ((كذلك أصبح سلوك أبو عمار في تعامله مع أعضاء اللجنة التنفيذية لا يحتمل. فكثيراً ما كان يتركنا جالسين حول طاولة الاجتماع، بينما هو يشغل نفسه في توقيع أوراق وقراءة رسائل.. وكان رد محمود درويش قاسياً بقدر ما كان حقيقياً. قال بالحرف: يا أخي أبا الهادر، هذه ثورة فصّلها أبو عمار على قياسه، فإما أن تقبل وإما أن ترحل)). بداية ونهاية كما بدأت مسيرته النضالية، فالسياسية، عاد إلى حيث بدأ؟! بدأ حياته المهنية كاتباً صحفياً ثم مؤمناً بالكفاح المسلح سبيلاً إلى التحرير، وكان من ناشطيه، ثم انخرط بالعملية السياسية، والمؤتمرات الدولية، حتى وصل إلى اتفاق أوسلو، وهو ما بدا له هاوية لا يمكن القبول بها، فاستقال من المنظمة وعاد إلى الكتابة الصحفية، إلى أن توفي أحد أعز أصدقائه الفنان إسماعيل شموط في 3 تموز/يوليو 2006، ودخل صاحب المذكرات في اكتئاب حاد سماه ((الحفرة المعتمة))، ولكن انتصار المقاومة في جنوب لبنان على العدو في عدوان تموز/يوليو هو الشمعة التي أضاءت ((الحفرة المعتمة)) وأعادت إليه الأمل، وأخرجته مما هو فيه. ويقول في صفحة 522 ((في التاسع والعشرين من تشرين الأول/أكتوبر ذهبت إلى عمان للمشاركة في إحياء ذكرى إسماعيل شمّوط، حيث أعلنت على مسمع من أهلنا غربي النهر أن المقاومة بمعناها الشمولي والفلسفي، هي كلمة السر الوحيدة التي تتفتح أمامها الدروب الموصلة إلى الحرية والعدل والسلام. طريق المقاومة هي وحدها طريق العودة.. ورجعت أستأنف الكتابة)). العودة إلى البداية؛ عودة الفكرة؛ فكرة المقاومة وتبنّي نهجها، ضرورية. وقد تمحور حولها الكتاب حين تحدث عن انتقال قيادة منظمة التحرير من إدارة أحمد الشقيري إلى قيادة المقاومة الفلسطينية، وكيف ظهرت حركتا حماس والجهاد الإسلامي وتبنّيهما لتحرير فلسطين كاملة. أضيف هنا، أن حماس فازت بالانتخابات بسبب هذا الخيار الذي يتبنّاه شعبنا، ولو تخلت حماس عن المقاومة لوصلت الراية والشعلة إلى غيرها.. كما في القول المأثور الذي يتوج عتبات الأماكن الأقل التزاماً به (عتبات قصور الحكّام): لو دامت لغيرك ما وصلت إليك، وننحت هنا منه قولنا: لو دام غيرك على المقاومة لما وصلت الراية إليك. ولعل خاتمة هذا الكتاب من أجمل خواتيم الكتب التي قرأتها، حول فرز ما هو ((حقيقة)) عما هو ((وهم))، ولعلها تؤيد فكرة انتقال الراية والشعلة المذكورة في الفقرة السابقة، حيث ينقل قصة الفتى الحائر ونصائح الشيخ الجليل، أقتبس في ختام هذه القراءة جملته الأخيرة ((ادع الله أن يعزز إيمانك بانتصار الحقيقة مهما طال الزمن، فلا تيأس إن شعرت بقرب المنون قبل رؤية النصر، لتورث المشعل لمن يأتي من بعدك)).