العائلة تشتتت في أصقاع الأرض والوالد مفقود
عائلة أبو خوصة وقصة البحث عن جثة فلسطينية في العراق
ماهر حجازي/ دمشق
شحدة عبد الله سالم الحنجوري «أبو خوصة» من مواليد 1937 في بئر السبع المحتلة، كانت عائلته تسكن في مخيم البريج في قطاع غزة وكان والده أحد وجهاء العشائر في غزة ولهم من الأملاك والخيرات الكثير، سمّاه والده شحدة لأنه قرر ذلك بعد أن رزقه الله بذكر على تسع بنات فأراده شحدة ومنّة من الله عزّ وجلّ.
تزوج شحدة في القطاع ورزق عدداً من الأبناء والبنات، حتى وقعت نكسة 67 وأحتلّ العدو بقية فلسطين، فهاجر شحدة وعدد من أفراد أسرته إلى الأردن واستقر بها حتى عام 1975 ثم هاجر إلى العراق.
في العراق
عمل شحدة سائقاً بالنقل البري، بعدها اتجه إلى تجارة السيارات لتحسين حالته المادية. وكان يسكن في العاصمة بغداد حتى فترة حصار العراق، حين ذهب وعائلته إلى مدينة الخالصة بأطراف بغداد في عام 1992، وهي منطقة ريفية تسكن فيها مجموعات من العرب الفلسطينيين والمصريين، ليعمل هناك في تربية المواشي وتجارتها، وقضوا في هذه المدينة قرابة شهرين ثم عادوا ليسكنوا في مدينة الثورة وسط بغداد.
يذكر ابنه زياد أن والده حصل على وثيقة سفر عراقية خاصة بالفلسطينيين في الثمانينيات، وعندما أراد تجديدها أخبروه أنه يجب أن ينتظم في صفوف حزب البعث العراقي الحاكم آنذاك إلا أنه رفض فسحبت منه وثيقة السفر.
حياتهم كانت طبيعية لا تشوبها شائبة ومستقرة، يعملون ويكسبون، وكانوا مرتاحين مادياً حتى الحرب الأمريكية على العراق.
بعد احتلال العراق
بعد سقوط بغداد أُجبر شحدة وعائلته على ترك مدينة الثورة والهجرة نحو المناطق الشمالية في العراق لأنها كانت أكثر أماناً، وبعد عشرين يوماً من سقوط تمثال الرئيس العراقي الراحل صدام حسين عادوا إلى مدينة الخالصة.
نتيجة للفلتان الأمني، قامت المليشيات بتهديد أهالي المدينة تحت حجة وجود مقاومين من أبنائها، وبتاريخ 29/3/2005 دهمت قوات الحرس الوطني العراقي المدينة عند الساعة 12 ليلاً واعتقلت مجموعة من العرب حيث احتُجزوا في المنطقة حتى الساعة الخامسة صباحاً بعدها نُقلوا إلى محافظة الكوت جنوبي بغداد.
من بين هؤلاء المختطفين كان محور قصتنا شحدة الذي يعاني مرضاً في صدره وقد تعرض للضرب من قبل أحد جنود الحرس الوطني، فقط لأنه أخبرهم أنه مريض ولا حول له ولا قوة، كذلك فإنّ ابنه ياسر (25 سنة) اختُطف معه أيضاً.
أثناء الاعتقال بدأت مرحلة التحقيق مع شحدة، ولم يشفع له كبر سنه ومرضه، حيث تعرض للتعذيب الوحشي بالماء والصعق بالكهرباء، ما زاد في تدهور حالته الصحية والنفسية. استمر التحقيق والتعذيب ثلاثة أيام، وبعد أن أفرغوا حقدهم عليه عادوا من جديد إلى تعذيبه وابنه ياسر.
العائلة الحزينة بدأت بالتحرك لمعرفة مصير والدهم وشقيقهم، أحد الأبناء، علي (20 سنة) المقيم في بغداد ذهب إلى مدينة الخالصة، إلا أن دورية عراقية اعتقلته في الطريق فبات ثلاثة من العائلة في المعتقل.
بعد اعتقال شحدة بيوم واحد حضرت دورية من جيش الاحتلال الأمريكي لمنزل العائلة وقامت بتفتيشه بحثاً عن سلاح، إلا أنها لم تجد شيئاً.
الابن الأكبر زياد ذهب برفقة أحد أصدقائه العراقيين إلى مدينة الكوت حيث يعتقل الوالد، سألوا عن شحدة فأخبرهم أحد أفراد الحرس الوطني أنه توفي داخل السجن وأن بقية عائلته مهددة بالاعتقال.
العائلة في هذه الآونة تريد التأكد من وفاة الوالد، تذهب الوالدة وإحدى البنات إلى مشفى الزهراء للبحث عن جثته وتسلمها، لكنهما هدُدتا من قبل الحرس العراقي في المشفى فغادرتا دون تسلّم الجثة.
قررت العائلة اللجوء إلى وزارة الداخلية العراقية التي اقترحت عليهم أن تذهب سيارة إسعاف تابعة للهلال الأحمر العراقي لتسلم الجثة من مشفى الزهراء ونقلها لمشرحة الطب العدلي في بغداد حيث تمكنت العائلة أيضاً بصعوبة من الحصول على جثمان والدهم.
فعلاً اتجهت سيارة إسعاف وأحضرت الجثة إلى الطب العدلي وذهبت العائلة لتسلم الجثمان وهنا كانت الطامة الكبرى..
الجثة ليست جثته
ذُهل زياد ووالدته عندما شاهدا الجثة، لم تكن لشحدة (الطويل النحيل)، بل لشخص آخر (قصير وبدين). وعلى الرغم من أنها متفسخة ومشوهة، فقد استدلوا عليها من خلال الأسنان، فشحدة ذو أسنان اصطناعية بينما أسنان الجثة طبيعية.
حينها هُدِّد أفراد العائلة بأن عليهم تسلم هذه الجثة على أنها لوالدهم، وإلا فلن يحدث لهم طيب، لكنهم رفضوا ذلك واستطاعوا أن يحصلوا على كتاب قانوني يؤكد أن الجثة ليست لأبيهم.
في خضمّ هذه الأحداث قُدّم ياسر وعلي للمحاكم حيث ظهرت براءتهما وأُطلق سراحهما بعد فترة شهر تقريباً في معتقل الكوت.
يقول زياد إن الحرس الوطني في مشفى الزهراء رفض تسلم الجثة بعدما أعادتها الشرطة العراقية، وقد حدثت بينهم مشادات واتهمت الشرطة قوات الحرس بأنها قتلت اللاجئ شحدة أبو خوصة وتريد أن تخفي جثته وآثار التعذيب عليها، وهذا ما أكدته الصور التي حصل عليها زياد لجثة والده بعد أن جاهد للحصول على أمر قضائي يؤكد حقه بنسخة عن ملف وفاة والده ثم رفع دعوى على الحرس الوطني بقتل والده إلا أنهم لم يصلوا إلى أية نتيجة، عندها هددت العائلة عملياً فاضطرت إلى الهجرة الثانية نحو الحدود العراقية الأردنية خشية على أنفسهم من الذبح أسوة بالكثير من اللاجئين الفلسطينيين في العراق.
استقرت أسرة أبو خوصة في منطقة طريبيل بين الحدود العربية لمدة شهرين، ثم أدخلت إلى مخيم الهول في مدينة الحسكة السورية في شهر أيار 2006، حيث تعيش العائلة منذ ذلك الوقت أوضاعاً مأساوية نتيجة التدهور في جميع مناحي الحياة.. يقول زياد: تركنا ممتلكاتنا وأموالنا في العراق.. حتى جثة أبينا لا نعرف بأي أرض هي.. عائلتنا تشتتت، أختي في مصر وأخي الذي كان في مخيم التنف هاجر إلى تشيلي، وشقيقتي في الإمارات.. وأنا وعائلتي في مخيم الهول.. تشتتنا وفرقتنا المسافات..
قبلت كندا استقبال زياد وعائلته.. طبعاً لأن العرب لا يستطيعون!!
عائلة أبو خوصة لن تنسى جثة شحدة.. سيبحثون عنها حتى آخر الدنيا.
يصرّ زياد: سنبحث عن جثة أبينا.. لازم نجدها.. شو هو دجاجة؟!
شحدة ليس الفلسطيني الوحيد الذي يقتل في العراق.. لكنه من قليلي الحظ من الذين بعد موتهم لا يتمكن ذووهم من تسلم جثمانهم ودفنهم.. رحمك الله يا شحدة ونأمل لجثتك أن تجد طريقها نحو محبيها..