اضطهاد المستوطنين وخيمة الصمود في حديث إلى «العـودة»
«السنديانة الفلسطينية» أم كامل الكرد: لن أتخلى عن بيتي ولا أريد بديلاً
حاورها في عمّان: روان محمد وآية الرفاعي
ضمن احتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية في الأردن، كان لنا هذا اللقاء مع السنديانة المقدسية أم كامل الكرد، حدثتنا عن معاناتها الطويلة في سبيل الدفاع عن بيتها الذي اغتصبه اليهود في حي الشيخ جراح في القدس. وعن خيمتها التي بنتها لتصبح مقراً لمعارضة سياسة الاستيطان الإسرائيلية وتجمعاً للمتضامنين من كل أرجاء الأرض ونداءً إنسانياً لوقف التطهير العرقي بحق الشعب الفلسطيني.
الخيوط الخفية التي حاكت المؤامرة
القصة تنطوي بين مكر المستوطنين وشراستهم..
عام 1999 كان البيت مقسّماً إلى قسمين؛ قسمٌ بُني من الطوب والآخر من الحجر. توجهتُ لبلدية القدس للحصول على موافقة لترميم بيتي، فأجابني موظف البلدية «أمنون»: لن نسمح لكِ بترميم البيت!
..عدتُ بخُفَّي حنيْن، لكن مع قرار واضح بترميم البيت على حسابي الخاص. وهذا ما حصل وصارَ بيتي أجمل.. وسُرّ شركائي في البيت؛ أبنائي وزوجي.
.. وذات صباحٍ صيفيّ حضر شخص يدعى عزرا، قالَ لي: «أنا من بلدية القدس، أريد أخذ هويتك التي سجلت فيها أسماء أبنائك، لتسجيل التفاصيل في حساب الأرنونا.. صدقته وأعطيته الهوية التي سُجل فيها ولداي كامل ورائد.. بعد أسبوعٍ بالتمام والكمال وصلني أمرٌ مستعجل من المحكمة. توجه الأبناء إلى المحكمة لنكتشف أنّ عزرا عضوٌ في حركة استيطانية، وأنه وأترابه دبّروا لنا مكيدة، حيث ادعى أن له أحقية في البيت.. وطلب منا القاضي التفاهم مع المستوطن، ولما رفض أبنائي أمر التفاهم مع المستوطنين، صدر بحقهما قرار مجحف يقضي بإغلاق البيت وتغريمنا بمبلغ 120 ألف شيكل.. دفعنا الغرامة وأغلقنا القسم الثاني من بيتنا، بينما صادرت دائرة الإجراء محتويات البيت.
في عام 2001 كنتُ مع زوجي المريض في المستشفى، وإذا بجارتي تتصل بي وتطلب مني العودة بأقصى سرعة إلى البيت.
عدتُ إلى البيت لأجد نحو 70 مستوطنًا في بيت أبنائي يهللون ويحتفلون وإلى جانبهم يقف جندي يحرسهم، وآخر على باب بيتي وقف يتتبع تحركاتي.. كانت هذه أول مرةٍ أشعر فيها بمعنى الاضطهاد. وعند عتبة بيتي استوقفني الجندي ليقول لي: «يا حاجة أنا إسرائيلي، لستُ عربياً، لكنني سأعترف لك بأنهم دخلوا البيت بختمٍ مزوّر، فاحذري من تصرفاتهم، أنصحك وأتألم لأجلك».
توجهتُ مباشرة إلى المحامي وأبلغته بالطريقة غير القانونية التي دخلوا فيها إلى البيت. انتظرتُ صدور الحكم بإخلاء المستوطنين، وتبادلت العائلات مسكن أبنائي لأيامٍ وشهورٍ وسنوات حتى صدر أمر الإخلاء في 17/4/2007، لكن القرار لم ينفذ.
فعل المستوطنون في بيتي ما لا يفعله الشيطان. حاولوا استفزازي بكل الطرق. كنتُ ألتقي أبنائي خارج حدود باب بيتي، وأمضي الليالي الطوال أنا وزوجي المريض، بجسمه شبه المقعد، بينما في الشقة الثانية يتسامر المستوطنون في احتفالٍ مهيب.
أذكر أنه في عام 2002 دخل مستوطنان مسلحان بيتي.. كنتُ يومها وحدي في البيت أسبّح بأسماء الله الحسنى، تاركة زوجي في المستشفى، وفي لحظاتٍ ظننتها خيالاً أعيشه، قمتُ من مكاني وطردتهم من بيتي، بطريقةٍ لا أذكرها بتفاصيلها، لكنني عانيتُ بسببها لسنتين وتلقيتُ علاجاً ضد «الاكتئاب النفسي».
بعد ذلك واظبت على إقفال الباب بالمفتاح، وإغلاق النوافذ..
في أحد الأيام، في تمام العاشرة والنصف صباحاً، سمعتُ حركة غريبة خلف النافذة. نظرت، فإذا بي أجد مستوطناً يحمل حقيبة، وضعها جانباً، فتحها، ووضع تحت النافذة قطعة سلاح!
عقوبة السلاح حسب القانون الإسرائيلي هي هدم المنزل، أو السجن مدى الحياة!
اتصلت بأبنائي وأعلمتهم بأن مكيدة ما تحاك لنا، وطلبت منهم ألا يقتربوا من المنزل، وظللت أتنقل بين الباب والنافذة، لأرى ما سيفعلون.
في الثالثة والنصف صباحاً، أغلقوا الحقيبة، أخذوا السلاح وذهبوا!
تعاقبت العائلات التي سكنت البيت عندي، عائلة يمنية، تعمّدوا ترك الباب مفتوحاً لمدة ثلاثة أيام، وأبو كامل يطلب مني أن أقفله، ولم أفعل، خوفاً من أن يرفعوا بصماتي، ويتهموني بشيء ما!
كنت أعلم أنهم يحاولون إسقاطنا في تهمة ما..
ثم سكنت البيت عائلة سيجال من نيويورك، لديهم أطفال.. تظاهروا ذات يوم بنسيان جزدان وموبايل.. لم أمسّ الأغراض خوفاً من الاتهام بالسرقة، تركت زوجي المقعد يحرسها وناديت الحارس لأخذ الأغراض..
أمام بيتي ساحة شاسعة، صاروا يجمعون عدداً كبيراً من الأطفال ويأتون بهم إلى الساحة ليلعبوا بألعاب نفاخة..
تخيلوا.. رجل مقعد، حبيس بيته ولا يمكنه الخروج إلى الهواء الطلق، وهم يلعبون، ويمارسون كل أشكال الإزعاج من الصباح إلى المغرب!
ثم يغادرون المكان ويتركونه قذراً، وأبدأ أنا بالتنظيف.. والمرحوم يطلب مني أن أترك كل شيء على حاله وأستريح، يكفيني خدمته، فأخبره «إذا الرسول اللي خلقت الدنيا لأجله، عذبوه وصبر بديش أنا أتحمل؟!».
وفي الآخر أحضرت «جارتي» صورة كبيرة لفتى فلسطيني، وأخذت تعلم ابنها كيف يقنص الشعب الفلسطيني، تقول له «بدي الخرزة الحمرا تصيب تمُّه والخرزة الخضرا تيجي بعينه، أما الخرزة الصفرا تدخل من صدره تخرج من ظهره يطلعوا هدول من البيت»!
حاولوا مساومتي على البيت، بعثوا إلي بمحاميهم شامير عرض عليّ 10 ملايين دولار اشتري فيهم بيت حنينا وأترك البيت، قلتله أنا ما بعرف وين بتيجي بيت حنينا، أنا ما بعرف غير هاد البيت وما بتركه.
ومرة أخرى بعثوا لي بإخطار خطي، إن لم أرضَ بعشرة ملايين فسيقدمون لي 15 مليوناً أو حتى شيكاً مفتوحاً لأترك بيتي.
هم يظنون أن الإنسان قد تُشترى كرامتُه أو وطنه بالمال! لا! عليهم أن يبتعدوا بُعدَ العالم، الشعب الفلسطيني يريد العيش على أرضه وعلى وطنه في دولة فلسطينية حرة أبية سماءً وأرضاً، جيشاً وشعباً.
من كنف البيت، الى العراء
في يوم 9/11/2008، كنا في البيت، أنا وزوجي المريض وحدنا. رجل مقعد ومريض، وسيدة لا حول لها ولا قوة، طبيعتي تحتم عليّ عدم المساس بأي أحد ولا حتى الصراخ بطفل، فأنا ديموقراطية، بنيت حياتي على أساس التفاهم والأسلوب الأنيق في الحوار.. إذا وجدت حمامة تأكل في طريق فإنني أسلك غيره كي لا أزعجها..
كيف لي أن أستوعب دخولهم منزلي في هذا الوضع، 3000 جندي ورجال قوات خاصة يحاصرون المنطقة، ويطرقون الباب بعنف «افتحي، افتحي!».
كان في ساحة بيتي خمسة متضامنين أجانب ينامون في الساحة. أجلوهم عن المكان، ووجدت نفسي وحيدة أمام هذا المشهد العنيف، إلا من رب العالمين.
وضعت الحجاب على رأسي وارتديت عباءتي، وأردت أن أساعد المرحوم على الوقوف، وإذا بخمسين منهم يقتحمون غرفة نومي مع ثلاث مجندات!
الهاتف النقال في يدي، أريد أن أتصل بأبنائي ولكن يدي ترجف، ولا أستطيع السيطرة على شيء، أخذوه مني فقلت لهم: «عملتوها يا حقيرين يا كلاب»، فأمروا المجندات برميي بالشارع!
ظللت بالشارع وحدي، أطلب من المجندة القليل من الماء، فتصرخ في وجهي «شيكت» يعني: اخرسي!..
حتى ظهيرة اليوم التالي. لا أعرف عن زوجي المقعد شيئاً!
ما علمته لاحقاً، أن جنديين رموا به إلى منزل جيران لنا.. ولأنه مقعد لا يستطيع الوقوف سقط على الأرض وأصابته جلطة!.. اتصل الجيران بالإسعاف، أتت السيارة ومنعها الجنود من العبور وأخذه.. فبقي الدكتور عنده، لليوم التالي حتى سمحوا لي بالعودة ورؤيته بعد أن احتلوا المنزل، وأقاموا فيه حفلاتهم وأغلقوه وأخذو مفتاحه.. ونحن في العراء!..
اتصلت بأبنائي، أتوا وأخذوا والدهم إلى مستشفى المقاصد..
الخيــمة
يوم 10/11/2008 انا أقمت الخيمة.
وعاد زوجي من المقاصد إلى الخيمة.. لم أسمح لهم بأن يمسحوا ذكرياتي وحياتي وعائلتي وجذوري من المكان الذي حييت فيه.. أقمت الخيمة، لأعلمهم أنني لن أستسلم لهم.
نحن تهجرنا في نكبة 1948، ولن نترك لهم المجال بأن يعيدوا الكرّة، وأن يخلوا الساحة لهم، بل بساطة لا بديل لهذا المكان، حتى لو عرضوا علينا قصور الدنيا فإنها لن تجلب لي السعادة، مثل بيتي.
هكذا وجدت نفسي أنا وزوجي بعد 56 سنة، في خيمة بلا دواء أو ماء أو لباس!.
أصيب زوجي بعدها بجلطتين متتابعتين، توفي بعدهما.. رحمه الله.
خرج من بيته بالبيجاما وتوفي بالبيجاما!
لم تسلم الخيمة من الهدم والمحو!
هدموا الخيمة ست مرات.. وصادروها، فرضوا علينا غرامة أربع مرات، 3 مرات بمقدار 430 شيكل، والرابعة توقعناها، وليمارسوا سطوتهم علينا، أخضعونا للمحاكمة.
الخيمة، لم تكن في تصوراتي، أنا لم اخلقها، هي فرضت نفسها علي.
أريد عبرها، أن أفهم العالم، أنني لن أستغني عن وطني وأهلي وكبريائي، وأنني لن أستخدم الإرهاب والهمجية والقتال والضرب الذي يعتنقونه، أنا فقط أحاول استرجاع حقي!
أريد ان أُشهد العالم، على حقيقة الشعب الفلسطيني الصامد المتسامح، الذي لا يؤمن بالإرهاب، وعلى حقيقة المرأة الفلسطينية المتحجبة خصوصاً، نحن لسنا إرهابيين، أخلاقياتنا لا تسمح لنا بذلك.
فجأة.. ضمّت خيمتي كل الديانات، مسلم ومسيحي ويهودي، نحن لسنا ضد الشعب، كل شعب له الحق في الحياة سالماً على أرضه والحكومة محتلّة وهي التي اغتصبت بيتي مني، وعليّ أن أمكث في خيمتي لأثبت حقي في العودة.
أطالب العالم كله بمحاكمة «إسرائيل»، على القرار المجحف الذي اتخذته بحقنا نحن المقدسيين، غيّروا معالم المدينة، بنوا واحداً وستين كنيساً تحت المسجد الأقصى، هذا غير الأنفاق!
نحن في الإسلام نؤمن بأنه لا إكراه في الدين، كنت أقرأ أواخر سورة البقرة، أمام المتضامنين في خيمتي من كل الديانات.. نحن اعتراضنا فقط على الاحتلال.
حضر إلى خيمتي السفير البريطاني والبلجيكي والفرنسي والهنغاري، وأخبرتهم أنني لست ضد أي إنسان في حقه، لكلٍّ وطنه، وبريطانيا كما جلبت لنا هذا الفيروس المُميت عليها أن تخلّصنا منه!..
السفير المصري والسفير الأردني زاراني في الخيمة، والكثير من الوفود العربية وعلى رأسهم، المفتي محمد حسين، والشيخ عكرمة صبري، الأب عطا الله حنا والشيخ رائد صلاح.
جزاهم الله خيراً على دعمهم. لكن هذا دعم معنوي نحن نريد دعماً حقيقياً، سياسي قانوني فقضيتنا سياسية!
عليهم أن يطردوا اليهود، من وطني وأرضي وبيتي! كلهم تآمروا على الشعب الفلسطيني، مدّوا «إسرائيل» بالسلاح، فلن تمدّنا هي بالسلام!
لويزا ماكنتيل، أتت لزيارتي في الخيمة مع سبعين من المتضامنين، سردت لهم القصة، وكلهم بكوا، سواي!..
وما إن انتهيت حتى جمعت منهم تبرعات تفوق مئتي يورو، أتت لتقدمها لي، فترقرق الدمع في عيني، سألتني: «لِمَ لم أبكِ وأنا أسرد القصة، وأفعلها الآن». قلت لها: «إحنا شعب مش شحادين، إحنا أصحاب حق، أعيدي النقود لأصحابها، وجودكم أكبر دعم لنا».
رسالة إلى العالم
نحن أصحاب مبدأ وقضية لا تُثمّن بالملايين!
كل مسلم ومسيحي مسؤول عن بيت المقدس، وهي ليست مسؤولية الفلسطينيين وحدهم، هذه بوابة السماء، وأولى القبلتين وثالث الحرمين الشريفين، لا تشدّ الرحال إلا إلى ثلاث: المسجد الحرام ومسجدي هذا والمسجد الأقصى.
أرض الرباط، أرض الإسراء والمعراج، أرض المحشر والمنشر أرض الميعاد.
حبّي للقدس يفوق كل شيء، لا يمكن أن يبيع الإنسان انتماءه بالمال، أريد للشعب الفلسطيني أن يعيش على أرضه وتحت سمائه حراً أبياً..
لن أرضى بديلاً لبيتي، إذا قام الباطل ساعة، فإن الحق إلى قيام الساعة.
الخيمة أثبتت للعالم النقاء والبقاء الفلسطيني، رغم الشقاء الذي نخضع له فيها، في الشتاء غريق، وفي الصيف حريق.
رسالتي أنني لن أستسلم، إن ديننا يحترم كل الأديان، أن المرأة الفلسطينية، مثقفة وحضارية على غير ما يعتقدونه!
أقسمت بالله العظيم إن دموع التماسيح الإسرائيلية التي ذرفت على مدى 61 سنة، سأعطيها للعالم في ستة أشهر، ولكن بصمود وشموخ الشعب الفلسطيني.
رسالة إلى كل العالم العربي والإسلامي.. القدس تناديكم.
مجلة العودة