تبدو التجاعيد كأنهارٍ شقت سطح وجهها، وفاضتبألفِ تذكارٍ وتذكار، ولِمَ لا؟ وقد تجاوز عمرها مائة وخمسا وعشرين سنة، حتى سُجلتكأكبر معمرة فلسطينية. تتمتعُ بصحةٍ جيدة.. ومن وسط بيتها القديم الذي سكنت فيه فيمنطقة الفالوجا في مخيم جباليا شمالي قطاع غزة منذ أكثر من مئة سنة برفقة زوجهاالذي أحبته، تروي الحاجة "معلومية حمودة" بعضا من تفاصيل رحلة العمرالطويلة...
* مع احدىحفيداتهاوفاء لزوج توفي قبل 40سنة
"منذ صغري كنت أعمل في الزراعة مع أمي، وكنت أعشق هذه المهنة التيتشغل كل وقتي، فيما كان أخواي ياسين ومصباح يعملان مع والدي في العسكرية العثمانية. لقد عايشت العثمانيين والانتداب البريطاني والاحتلال الصهيوني".
وتتنهدالحاجة "معلومية" بحسرة ثم تواصل: "لما صار عمري خمس عشرة سنة، طلب أبي مني في أحدالمرات أن أذهب إلى السوق لأشتري بعض الخضار، وهناك التقيت زوجي لأول مرة، إذشاهدته يبيع البطيخ، فاقتربت منه ودار بيننا حديث قصير انتهى بشرائي منه، فمشىورائي ليعرف من أكون ليتقدم لخطبتي بعد ذلك".
ويبدو أن "معلومية" بجمالهاالذي يفيض فلسطينية ورقـّة خطفت قلب "محمد حمودة" الذي اشتهر بين الناس بـ"جوهر"،وما هي إلا أيام حتى دق بابها، وتزوجت، فعاشا معا أجمل أيام حياتهما، ورزقهما اللهأربع بنات وولدا، أكبرهم "يسرى"، التي توفيت عن عمر يناهز 90 سنة، و"رسمية" متزوجةولها أربع بنات وابن، و"سعدية" التي أنجبت 4 أبناء، و"جميلة" زوجت أولادها الخمسة،أما "صالح" فيبلغ من العمر 82 سنة.
وتروي الحاجة "معلومية" تفاصيل حياتها في "بيت العدل" بعينين تفيضان حبًا واشتياقًا لزوجها: "تركني أبو صالح منذ أربعين سنة،لقد كان سندي وسيدي وأبو أولادي الغالي الذي حـافظ علـي وصـانني، وكـان رجـلًابمـعنى الكلمة، ولذلك أنا لا أريد أن أترك بيت الصخر والحجر اللبني هذا وفاءً له،إنني أنتظر لقاءنا بفارغ الصبر".
"داية بخبرةكبيرة"
وفي الوقت الذي ما زالت فيه "معلومية" تعتمد على نفسها في كل شؤونحياتها اليومية، من مأكل ومشرب وتنقّل وحركة داخل البيت وخارجه، فإنها تأكلالمكسرات وعين الجمل والعسل وزيت الزيتون.
وتلامس "معلومية" لحظات حياتهاالمفصلية مستذكرة: " كنت أعمل "داية"، أي مولّدة، بتصريح من قبل السلطات العثمانية،وفي عهد الانتداب البريطاني منعها الحاكم العسكري من مزاولة مهنتها، إلا أنها بقيتتعمل سرا إلى أن سمح لها بعد ذلك.
وحول هذا تقول: "أنا لا زالت أستطيع أنأعمل إلى هذا اليوم رغم تقدم السن، إلا أن الناس أصبحوا يفضلون اصطحاب زوجاتهم إلىالمستشفيات"، وهذا هو سبب توقفها عن العمل، وإنه في حال وجود أي طارئ يمكنها وبكلسهولة توليد أصعب الحالات، معتمدة على الخبرة الطويلة التي تملكها.
ولم تكن "معلومية" تتلقى أجرًا من النساء، لكنها كانت تأخذ هدايا من الأكل والملابس يُتعارفعليها بـ"البشارة"، حتى إذا تقدمت في العمر علّمت زوجة ابنها لتتسلم المهنة بدلًاعنها، ومع ذلك ففي الحرب الأخيرة على قطاع غزة جاءت سيدة إليها مستنجدةً بها لتولّدزوجات ابنيها اللواتي تعسر عليهن الوصول إلى المستشفى، ففعلت.فرن الطين
أما عنحياة الأبناء فلا تنسى "معلومية"، التي لا تجيد القراءة والكتابة إلا إنها تتمتعبذهن حاضر، أنها لم تتمكن من تعليم الكبار من أبنائها، وأن صاحبة الفرصة كانت "جميلة"؛أصغر بناتها، لتتمكن من قراءة القرآن لها، وبحسرة غلبت على الحديث تستذكرالحاجة "معلومية" كيف فقدت ابنتها الكبرى "يسرى" بقولها: لقد ماتت يسرى وأنا لا زلتأنتظر، ما أصعب الحياة بعد فقدان الزوج والولد!!.
ولما كانت الأيام الغائرةفي عمق شبابها لا تزاول خاطرها تبدو الحاجة أكثر انتماءً إليها من أي وقت آخر: "زمان كانت الحياة أبسط من هذه الأيام، كنا نأكل الطازج من الخضروات والفواكه، وكنانعتمد على مجهودنا اليدوي في زراعة الأرض بالقمح والذرة والشعير والسمسم، وكنا نربيالطيور والمواشي والدواجن ونحصل منها على اللحوم والجبن والحليب".
وتستمرمعلومية في رسم مشهد الانتماء إلى الأرض: "كانت النساء يساعدن أزواجهن في كل شيء،كن يدًا بيد إلى جوارهم، كن يطحنَّ القمح على الطاحونة، ويخبزن في فرن الطين، ياالله ما أروع رائحة الخبز وهي تخرج من الفرن القديم، كنا نأكله مع طبخ أوراق الرجلةوالخبيزة التي تنبت في زوايا الأرض، كنا نعرف ماذا نأكل وماالمكونات".
الكفن جاهز
مستذكرةالحياة في القرية تشرح "معلومية" كيف كان أهل القرية كأفراد عائلة واحدة يخافون علىبعضهم ويلتقون يوميًا تجمعهم ليالي السمر. كان حفل الزواج يستمر سبع ليال من الفرح،وكيف كان الموت عزيزا. ففي الحزن يشمل الحداد كل البلد، لكن اليوم لا يسأل أحد عنأخيه وجاره، والكل غارق في عزلته.
وترى الحاجة "معلومية" أن العلاج القديمهو العلاج الحقيقي لكل أمراض الجسم، وأن سر طول العمر لا يعتمد على أكلات معينة،فصاحبة الـ125 سنة تحب الخضراوات وتكثر منها، وتعتمد على نفسها في هذا العمر فيتحضير طعامها بنفسها، وتعشق خبز "الطابون" الساخن، وتعلل ذلك بالقول: أفضل أكل فيالأرض هو خير الأرض من بقول وخضار.
لكن الجدير بالذكر أن الحاجة معلوميةالمواظبة على أداء الفرائض لا تخاف من الموت على الإطلاق، فقد جاءت من مكة -حيث حجتأربع مراتٍ- بقطع من القماش الأبيض التي طرزتها ككفن وعلقتها على الجدار المتهالكبقربها في كيس خاص استعدادًا للموت في أية لحظة، وآخر أحلامها في هذه الدنيا هي أنتصلي في المسجد الأقصى المبارك لو ركعتين قبل وفاتها.
تمت الاضافة من قبل
info@howiyya.com
بتاريخ
08/06/2011