جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
ربما، على عكس الكثير من الدول العربية، يمتنع كثيرون من الفلسطينيين ممن هم بحاجة ماسة إلى طبيب نفسي، سواء بسبب معاناة ألمّت بهم جراء الاحتلال أو غير ذلك، عن التوجه إلى عيادات الاختصاص، ليس فقط بسبب الصورة المجتمعية لمن يرتاد عيادة الطبيب النفسي، والربط بين المريض النفسي والمجانين، بل لأن ثقة المواطنين الفلسطينيين بالأطباء النفسيين في فلسطين قليلة، إذ تؤكد العديد من الدراسات، أن الغالبية ممن يحتاجون التوجه إلى عيادة طبيب نفسي في فلسطين، إما يتوجهون بإرادتهم أو بقرار من أسرهم إلى دول مجاورة، وخاصة الأردن، أو مصر ما قبل مرحلة التوتر الأخيرة فيها ومنع الفلسطينيين من دخولها، في حين يتوجه آخرون إلى عيادات في إسرائيل، وخاصة عيادات أطباء فلسطينيين عرب داخل الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1948، وذلك لقلة ثقتهم بعيادات الطب النفسي في الأراضي الفلسطينية. واختارت عايدة منصور، التي عانى ابنها الشاب من هستيريا بسبب حادث سير قبل أربعة أعوام، التوجه به إلى حيث والدها وشقيقها في بلجيكا، مشيرة إلى أن الطب النفسي في أوروبا متطور للغاية: «في فلسطين لم ألمس أي تحسن، إن لم يكن ثمة تراجع... شعرت بأن العديد من الأطباء النفسيين غير ملمين بوسائل معالجة الشباب واليافعين... حين توجهت إلى بلجيكا، وخلال فترة بسيطة بدأت ألمس التحسن، ولذلك قررت البقاء عامين هناك، قبل العودة مجدداً... هو اليوم إنسان طبيعي أو شبه طبيعي اليوم، في الصيف القادم سأعود إلى بلجيكا لعرضه على الطبيب الذي يعالجه هناك». ويوضح مدير ومؤسس مركز تأهيل ضحايا التعذيب في مدينة رام الله الطبيب النفسي محمود سحويل، أن «معدلات انتشار الاضطرابات النفسية في أوساط المجتمع الفلسطيني تعتبر الأعلى عالمياً، وتشير الإحصاءات إلى أن 25% من أبناء الأراضي الفلسطينية، وخصوصاً الشباب، يعانون من أزمات وصدمات نفسية بدرجة عالية، مقارنة مع 3% في دول العالم، الأمر الذي يأتي نتيجة فقدان الأمل، وانتشار الحواجز والانتظار الطويل عليها والاعتقالات وصعوبة الوضع الاقتصادي»، لافتاً إلى أن «المركز يعاني من أوضاع مالية صعبة تهدد بإغلاقه، في وقت تزداد معدلات العنف وعدد المصابين باضطرابات نفسية في المجتمع الفلسطيني، علماً أن المركز يعتبر الأكبر الذي يعنى بهذه الفئة، فضلاً عن انه يقدم بعض الخدمات التي لا تقدمها مرافق وزارة الصحة الفلسطينية». وكلام سحويل يعكس الواقع الصعب لمرافق الطب النفسي في فلسطين، خاصة أنه لا يحظى باهتمام حكومي يتناسب والأوضاع النفسية الصعبة في فلسطين التي تقبع تحت الاحتلال الذي يمارس جرائم يومية بحق الشعب الفلسطيني تكفي لتخلف أعداداً كبيرة ممن يحتاجون إلى تأهيل وربما علاج نفسي. ويقدم المركز خدماته مجانا للجرحى وأهالي الشهداء وضحايا الجدار العنصري وضحايا المستوطنين وغيرهم، «من خلال توعية المجتمع ونشر المعرفة حول مواضيع التعذيب والعنف»، كما يقدم المركز مجموعه متكاملة من الخدمات العلاجية والتأهيلية لضحايا التعذيب وأسرهم والعنف المنظم داخل الأراضي الفلسطينية. وتتنوّع الخدمات التي يقدمها المركز للمنتفعين، ما بين العلاج والتأهيل والتدريب والتوعية والزيارات الطبية الطوعيّة لمنازل غير القادرين على الوصول إلى المركز، وتوفير حاجات الضحايا، من خلال تزويدهم بالعلاج المجاني، وتمكينهم عبر تدريبهم مهنياً، ومساعدتهم على اكتساب مهارات تؤهلهم للبدء بمشاريع ينتفعون منها في حياتهم. ويشير سحويل إلى أن طواقم المركز تقوم بنحو 9 آلاف زيارة منزلية، و17 ألف جلسة علاجية للمتضررين، بالإضافة إلى قيامهم بزيارات دورية لسجون الاحتلال. ويعود تأسيس المركز، الذي يقدم خدمات فريدة وملحة لقطاع واسع من أبناء المجتمع الفلسطيني، إلى أواسط الثمانينيات، حينما كان عاملـــون متطوعون يقدّمون خدمات نفسية وتفريغية للمعتــقلين الفلسطينيين في سجون الاحتلال، إذ نجحوا في الإفراج عن 100 معتقل بعد أن تم تقديم تقارير طبية تؤكد صعوبة أوضاعهم النفسية. ويقول: «يقدم المركز خدماته لنحو رُبع أفراد المجتمع الفلسطيني، كما يقوم بتوزيع ما قيمته 100 ألف شيقل سنوياً من الأدوية المخصصة للأمراض النفسية، ويقوم بمعالجة 7 آلاف حالة سنوياً، فضلا عن أنشطة أخرى يسعى المركز من خلالها لخدمة هذه الفئة وخفض معدلات العنف، إذ نظم على سبيل المثال معارض في برلين ومدن عدة إسبانية وفي اميركا الجنوبية، زارها آلاف الأجانب، وحيث تم عرض رسوم لأطفال فلسطينيين تعكس بعضاً مما يعانونه، والأضرار النفسية والجسدية الناتجة عن انتهاكات الاحتلال، لتعريف الجمهور العالمي بذلك». ورغم ذلك أشارت دراسة نشرت في مجلة الصحة الصادرة عن منظمة الصحة العالمية، في مجلدها الحادي عشر العدد الثالث، إلى أن فلسطين احتلت المرتبة الأولى من حيث إصدار الدراسات والأبحاث النفسية بين البلدان العربية بين عامي 1997 و2002. وخلصت دراسة للمركز الفلسطيني للإرشاد إلى أن «اغلب الدراسات التي تمت إلى اليوم هي وصفية إحصائية، والدراسات الفلسطينية تدور في عدد كبير منها حول موضوع الصدمة والفقدان، هي نواة صلبة للأبحاث المتخصصة في هذا المجال، وهي بهذا فريدة وخاصة، وبالرغم من أن الدراسات النفسية الفلسطينية عن موضوع الصدمة إحصائية وصفية، غير أن فلسطين لا تزال تفتقر لبيانات واضحة وثابتة عن نسب انتشار أعراض واضطرابات الصدمة والفقدان في المجتمع الفلسطيني، بل يمكن أن نجزم بأن الدراسات النفسية في فلسطين وصفية إحصائية، لأنها لم تعتمد بيانات أو عينات عيادية».
رام الله - دنيا الوطن