جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
كان إقناعه بالحديث مستحيلاً، حتى الإلحاح لم يجدِ معه نفعاً، لكن حين أخبرناه أن الحوار سيكون مكتوباً، وأن اسمه في التقرير لن يورد أساساً اطمأن قليلاً، وبدأ بالحديث عن "شرك المخدرات" الذي كان واحداً من آلاف الشباب المقدسيين ممن وقعوا فيه- كجزءٍ من سياسة إسرائيلية واضحة في هذا الشأن-. إنه شابٌ مقدسي يناهز عمره الثلاثين عاماً، تعاطى المخدرات بشكل يومي، ليظل مدمناً عليها طيلة أربع سنواتٍ بعد أن عرَفها عن طريق أحد أصدقائه، إلى أن انفضح أمره علناً..وقرر أن يعدل من مساره، ولأجلِ ذلك توجّه إلى مؤسسةٍ عربية في رام الله خاصة للتخلص من الإدمان، حيث انتقلَ للعيش هناكَ لفترةٍ من الزمن، وحين شارف على الشفاء التام، عادَ للقدس بهمةٍ وعزيمة تشقّان الصخر. قصة أحدهم لكن هل بذلك انتهت قصة "صاحبنا" عند هذا الحد؟!..للأسف لا..فالانتكاسة عادت له من جديد، عندما ضعفَ أمام "الصنف" الذي عرضه عليه بعض أصدقائه القدامى، وتناول السم مرة أخرى، بل وعلاوةً على ذلك لجأ إلى بيعه نتيجة حاجته الشديدة للمال، إذ ساهم في إسقاط شباب كثير في "غِيّه"، حتى صفعه القدر وشاهد الموت بأمِ عينه لمرتين متتاليتين أثناء أخذ حقنةٍ في ذراعه، ليقرر التخلي عن الموت، واختيار الحياة. هو الآن غير متعاطٍ للمخدرات- حسب قوله-، لكنه لا يزال على علاقةٍ جيدة بأصدقاء يتعاطونها، وآخرين يحاولون التخلص منها، وهذا حالُ بعض شباب القدس، تلك الشريحة المقصودة بالتضييع والتغييب المُتعمد، رغم الكثير من المحاولات الشبابية والأهلية والمؤسساتية بدرء خطر الإدمان بأي طريقة متاحة. لكن كيفَ تسنى لك بيع المخدرات إذا ما كانت هناكَ ملاحقةٌ من الشرطة لبائعي وشاربي السم!، يجيب بما كان مفاجأةً بالنسبة لي:"لقد بعتُ "الحشيش" وسجائر المخدرات علناً في الشارع، وفي وضح النهار إذ لا يملك أحد أن يمنعه طالما الشرطة التي تُسير أمرَ القدس (إسرائيلية)، ومن أولى مهامها تدمير الشباب المقدسي حتى آخر رجلٍ فيهم. تراجع أكثرَ من مرة عن اخبارنا بقصته، لكنه كسرَ حاجز الخوف وتابع:"كنت أدرك أن ما أفعله خطأ، ولا أريد أن أبررّ لنفسي، لكني بالفعل كنت وقتها قد وصلتُ إلى مرحلةٍ يأس من الحياة إلى درجة أن كل شيء رخص عندي، فقد تم اعتقالي ذات مرة بلا وجه حق، وبعدها عرضت علي المخدرات فتناولتها واستمررتُ في ذلك أسبوعاً بينَ لائم لذاتي ومكابرٍ على الخطأ، إلى أن صرتُ مدمناً". وعما دفعه بشكلٍ مباشر إلى ترك هذه الطريق.. يشير قائلاً:"إن الوضع الاقتصادي لعائلتي سيئ جداً، وحالُ أمي الخائفة علي أرعبني، وصرت أخشى موتها حسرة، لذا قررتُ الشفاء من مرضي وانتقلت إلى مؤسسة لمكافحة الإدمان في رام الله، وهناك شُفيت تماماً، ولما عدتُ للقدس عاودَني "شبح الفقر" فقررتُ التجارة بالمخدرات.. يقول ذلك بنبرةٍ فيها استحياء. ويضيف:"حققت مربحاً جزلاً من تجارتي، خاصةً وأنَّ عدداً كبيراً من الشباب المقدسي آنذاك كان يتعاطى المخدرات كأنها الطعام، لمرتين وثلاثة في اليوم الواحد"، مشيراً إلى أنه شارفَ على الموت مرتين، إحداهما عندما كانت حقنة المُخدر في ذراعه، فشعر بدنو أجله وخاف من الحساب والعقاب في الآخرة، لذا قررَ العدولَ عن تجارته وتعاطيه، وشفي هذه المرة تماماً، وفق قوله. جزءٌ من سياسة إسرائيلية طلبنا من صاحبنا المُتعافي من إدمانه بأن يصلنا بآخرين يطبع الإدمان تحت عيونهم علاماته، فحاول.. وحاولنا معه، ولكن بلا فائدة، فالشباب أغلبهم لا يقضي من وقته على الشبكة العنكبوتية إلا قليلاً وفي آخر الليل أحياناً، وجميعهم يخشون من التحدث بالجوال، ناهيك عن أنَّ تجار المخدرات لا يمكن الوصول لهم نظراً لحمايتهم من الشرطة الإسرائيلية في القدس، ومن الصعب في حالةٍ كهذه الوقوع في الورطة معهم. لكن الفكرة العامة التي نقلها لنا هذا الشاب، هو أنَّ الجميع يُدرك خطأه، ويسعى للتخلص منه، وهم على يقينٍ تام بأنَّ ما تعرضوا له هو جزء من سياسة (إسرائيلية)، هدفها إضعاف أهل القدس لتسهيل الانقضاض عليهم على حين غفلة. "لن نلقي اللوم على شماعة الاحتلال، فالشباب المدمن هم أشخاص مغررّ بهم، أو أنَّ إيمانهم ضعيف، وهذا كُله قابل للعلاج، بل إنه من الضروري أن يعالج كي نحارب ظاهرة الإدمان في القدس"، كانت هذه آخر كلماتٍ خطّتها أنامله لتظهر على الشاشة أمامنا، كما لو أن قلبه لفظَ الحرف قبلَ يديه. معدلاتهم في انخفاض كان أهم ما خرجت به من "الحديث الإلكتروني" معه نيابةً عن زملائه بأنهم مخطئون، والسؤال الذي يطرح نفسه:"لمَ كان هذا الخطأ من البداية.. وما هو حال القدس الآن!، وهل تعاطي المخدرات فيها يقلق مؤشره، أم أنَّه حالة عرضية يُمكن الشفاء منها؟!. محمد صادق هو أحد الشباب المقدسيين المشاركين في جماعة "شباب من أجل القدس" الساعية إلى تفعيل دور الشباب المقدسي بالدفاع عن الأقصى، وتطهير القرى الفلسطينية في جُنباته، يتطرق في كلامه مع "فلسطين" عن أسباب انتشار المخدرات في القدس أكثر من المدن الفلسطينية الأخرى:"اتبعت الشرطة الإسرائيلية سياسة مُبيحة لتجارة المخدرات في القدس، إذ كانت تسمح بها، وتحت حمايتها المباشرة، ولكن بشرط ألا يبيع تاجر المخدرات سمومه لإسرائيلي، فبموجب ذلك يقع عليه مخالفة كبيرة"، متابعاً:" تباع في القدس كافة أنواع المخدرات لأن هذه سياسة إسرائيلية لتدمير العقول المقدسية وتهويدها، إيذاناً بالاستيلاء على القدس بالكامل". ويضيف:"تُباع المخدرات بشكلٍ علني في الأسواق والمنازل، حتى إن هناك منازل معروفة لتجارة المخدرات، تحميها حراسة خاصة من الشرطة الإسرائيلية، وعلى أبوابها آلات تصوير". ويشبه آلية بيع المخدرات وكأنها "البندورة والخيار"، حيث تباع علناً في الشوارع والمنازل، مؤكداً أن "السياج الأمني" والحماية التي يلقاها بائعو المخدرات ومتعاطوها جعلاً من الصعب بمكان ملاحقتهم ومتابعتهم- تبعاً لصادق- الذي أكدَ أن المواطنين المقدسيين اتبعوا سياسة الإهمال والمقاطعة الاقتصادية والاجتماعية لهم. يقول صادق:"رغم الحماية الأمنية لهم، وحملهم للأسلحة، إلا أنهم موقنون أن عملهم لن يستر، فهناك ردع اقتصادي واجتماعي قوي لهم"، مشيراً إلى تراجع نسبة متعاطي ومروجي المخدرات في القدس. ووفقَ دراسةٍ أجرتها جماعة "شباب من أجل القدس فإن عدد متعاطي المخدرات في القدس يراوح العشرة آلاف شخص، ولكن النسبة تراجعت الآن، فهي الآن لا تتجاوز الثمانية آلاف متعاطٍ، وهذا مؤشرٌ على إمكانية الإصلاح. وعن الأسباب التي جعلت النسبة تتراجع، يبينها بقوله:" في السنوات الأخيرة انتقل عددٌ من المنتفعين اقتصادياً من القدس، وحل مكانهم مرابطون وأشخاص يرغبون في السكن في القدس لحمايتها والحفاظ على هويتها العربية". أي أنَّ من يسكن القدس لأجل الكسب المالي، خاصة وأنها كانت من أجزل مدن الضفة الغربية عطاءً، غادرها بسبب الضرائب والمضايقات المالية الإسرائيلية التي طالت الأشخاص فيها، بينما قطنَ مكانهم أشخاص "ملتزمون، يرغبون في الدفاع عن القدس، ومن الصعب إيقاعهم في فخ المخدرات، ناهيك عن مقاطعة أهل القدس الاقتصادية والاجتماعية لبائعي المخدرات، التي جعلتهم يبحثون عن مكان آخر يروجون فيه بضاعتهم" تبعاً لصادق. وعن دور المؤسسات في مكافحة المخدرات في القدس، على غرار "شباب من أجل القدس"، أكدَ أنَ جهودهم ضعيفة مقابل سياسة "دولة إسرائيلية" تسعى لتدمير المقدسيين بكل ما استطاعت من قوة. وعند رجوعنا إلى محافظ القدس عدنان الحسيني للوقوف معه على كيفية محاربتهم لظاهرة انتشار المخدرات في المدينة بتلك الطريقة المكشوفة، وجدناه في جولة، وأخبرنا مرافقه الذي يُدعى "محمود" أنه غير قادر على إجراء اللقاء ليومين متتاليين، والسبب- كالعادة- إما اجتماع أو بعدهم أثناء ذلك عن المحافظة"..
المصدر: صحيفة فلسطين