الحسيني، عمر بن عبد السلام: (توفي سنة 1266ه/1850م)
(نقيب أشراف القدس ومعظم مدن فلسطين(جنين ونابلس وبافا وغزة) في النصف الأول من القرن التاسع عشر، ومن أبرز الشخصيات المؤثرة في الحياة السياسية والإجتماعية والإقتصادية فيها. تخوف رجال الإدارة والحكم من سطوته ونفوذه، ونُفي بعد ثورة سنة 1843، فترة قصيرة فورثه ابنه محمد علي في منصبه ومكانته.)
هو عمر بن عبد السلام بن عبد الله بن عبد اللطيف. كان جده نقيباً للأشراف ومن الشخصيات البارزة وصاحبة النفوذ الواسع في أواخر القرن الثامن عشر. توفي والده عبد السلام صغير السن، في رجب 1211ه/1797م، حين كان عمر شاباً صغيراً، فرعاه عم والده وجديه لأمه حسن أفندي المفتي، ونقل إليه نقابة الأشراف رسمياً في غرة شوال 1214ه/26 شباط (فبراير) 1800م. ومنذ ذلك التاريخ استقرت الوظيفة في عمر أفندي ونسله، ولم تخرج من بيتهم إلا فترات قصيرة حتى نهاية القرن التاسع عشر. لكن عمر أفندي الذي شغل تلك الوظيفة خلال الثلث الأول من ذلك القرن أصبح من أبرز أعيان القدس، وتمثل ذلك في النفوذ السياسي والإجتماعي والإقتصادي الذي كان من نصيبه. ومثل أية شخصية مهمة وقوية في ذلك العصر، صاهر العائلات والشخصيات البارزة والمتحكمة في القدس ومدن فلسطين المجاورة. ومن بين هؤلاء: آل الخالدي والجماعي في القدس، وطوقان في نابلس، ومحمد باشا أبو المرق، والي يافا وغزة الذي تزوج أخت عمر أفندي.
مضافته وضيوفه:
بعد وفاة جده المفتي حسن أفندي سنة 1224ه/1809م، ورث عمر أفندي مكانته في الزعامة السياسية والإجتماعية، بينما تولى ابن عمه طاهر شؤون الإفتاء. وفي تلك الفترة زار القدس الشيخ حسن العطار، شيخ الأزهر في الثلاثينات، وترك لنا في أحد مخطوطاته وصفاً موجزاً لرحلته إلى بيت المقدس وضيافته في بيت عمر أفندي. ويقول العطار: «فنزلت في دار السيد عمر أفندي وليس ثمة دار آهلة للواردين سواها. وكان المذكور معزولاً عن نقابة الأشراف وله عادة ورثها عن سلفه الأقدمين عمل الموسم الموسوي بالتوجه لضريح السيد موسى الكليم... فيبدل الهمة مالاً وبدناً في إقامة شعائر الموسم وإطعام الطعام إلى انقضاء الموسم. فاتفق أن جاء المنصب قبل الموسم بيومين وعزل المتولي الذي كان لا يستحق هذه الوظيفة الشريفة، وكنت إذ ذاك بمنزله.» كما زار الرحالة البريطاني ريتشاردسون عمر أفندي وجلس في مضافته عدة مرات. وكان ريتشاردسون طبيباً، وكانت عينا عمر أفندي مصابتين بتلوث، فطلب مساعدة ضيفه، ففحصه وعالجه بإجراء عملية بسيطة. وقد وصف الرحالة البريطاني في كتابه عدة سهرات أمضاها في مضافة عمر أفندي، وحضرا كبار علماء المدينة وأعيانها، ومتسلمها أحياناً. ويقول ريتشاردسون إنه لم يكن أمراً نادراً أن يجتمع على مائدته المفتوحة للحجاج والزوار ثمانون شخصاً وأكثر، حتى أنه سمع عدة مرات شكوى النساء من كثرة العمل حين عالجهن.
دوره وشهرته:
تعدى نشاط عمر أفندي ودوره مناصبه ومسؤولياته الرسمية: نقابة الأشراف، ومشيخة الحرم، ونظارة الموسم النبي موسى. ففي رجب 1225ه/ آب (أغسطس) 1810م تسلم مبلغاً ضخماً قدره 85,500 غرش أسدي من يوسف باشا والي الديار الشامية، لصرفها في تعمير قناة السبيل الوارد من البرك إلى مدينة القدس. ولم يكن شيئاً نادراً أن يستعين حكام القدس وولاة الشام وصيدا بعمر أفندي لتنفيذ مهمات مختلفة. فوثائق المحكمة الشرعية في القدس تزدحم بالأمثلة لذلك. ويظهر أن نفوذ عمر أفندي ومكانته أثارا خوف رجال الدولة وحسد منافسيه وخصومه، فحاولوا عزله عن مناصبه مرات عدة، وصدر الأمر بالقبض عليه وإبعاده عن القدس. ويظهر أن من أسباب نفيه في بداية العشرينات علاقاته الجيدة بعبد الله باشا، حاكم عكا، إذ عفي عنه شرط قطع علاقاته بالمتمرد المذكور. وعلى الرغم من محاولات خصومه ومنافسيه، كان عمر أفندي يعود إلى وظائفه بعد مدة قصيرة. فقد أثبتت شبكة العلاقات المتشعبة والجيدة التي بناها آل الحسيني في ذلك العهد قيمتها وقدرتها على الدعم وحل الإشكالات. وهكذا تغلب عمر أفندي على منافسيه، واستمر في شغل وظائفه وتعزيز مكانته حتى بداية الثلاثينات.
ولما غزا جيش محمد علي بلاد الشام ووقف شهوراً أمام أسوار عكا، حاول ابنه إبراهيم الحصول على تأييد علماء القدس وأعيانها. لكن عمر أفندي لم يسرع إلى تقديم الطاعة، حرص العلماء والأعيان الغزاة. ففي رسالة كتبها يوحنا البحري إلى الباشمعاون في مصر يشرح فيها حرج الموقف في القدس، يقول: «وكذلك يلزم إرسال متسلم (حاكم) بدل المتسلم الذي فيها الآن لأن متسلمها هو مأمور عمر أفندي ولا يعمل إلا بما يأمره فيه عمر أفندي.»
ونجح إبراهيم باشا في فتح عكا، فلم يبق أمام العلماء والأعيان في القدس بديل في الخضوع والإستسلام للحاكم الجديد. لكن في ربيع سنة 1834م تجمعت الأسباب، وحانت الفرصة للتمرد، فاشتركوا فيها، وكان بينهم عمر أفندي النقيب. ولما أُخمدت الثورة في جبال القدس كان عمر وابنه محمد علي والمفتي طاهر أفندي ضمن مجموعة المبعدين عن القدس إلى مصر. ويظهر أن العفو صدر سريعاً بالنسبة إلى محمد علي، نجل عمر، فعُين نقيباً بدلاً من والده، الذي بقي منفياً في مصر عامين تقريباً، حتى أُعيد إلى موطنه.
أعوامه الأخيرة:
كانت تجربة ثورة سنة 1834 والنفي بعدها ضربة لمكانة ونفوذ عمر أفندي وفئة الأعيان والعلماء بصورة عامة في فلسطين. ولما أعيد الحكم العثماني سنة 1841، كان عمر أفندي عجوزاً، فورث أولاده مكانته، يتصدرهم كبيرهم محمد علي. وعوضت الدولة عمر أفندي عما أصابه أيام الحكم المصري، فعينت له ولابنه النقيب مخصصات 500 غرش شهرياً، بالإضافة إلى الصابون والحنطة والشعير. ولقد جمع عمر ثروة طائلة، وتعدى نشاطه الإقتصادي حدود مناصبه الرسمية وحدود لواء القدس. فقد استثمر أمواله في مدينة يافا، وفي استئجار أراضي أوقاف سنان باشا في منطقة الصرفند، من أعمال الرملة، وفي لواءي غزة وصفد. كما كانت لعمل أفندي مشيخة البصمة خانة ملكاً شخصياً مدى الحياة، بموجب براءة شريفة سلطانية.
كانت حياة عمر أفندي حافلة بتقلد المناصب الرسمية والدينية والإجتماعية، لكن نشاطه ونفوذه السياسي والإقتصادي كانا أوسع كثيراً من حدود وظائفه الرسمية. وقد خلف ثروته ومكانته لأولاده وأحفاده. أما هو فقد توفي في رجب 1266ه/ 1850م على ما يبدو. وكان في حياته خير ممثل للنفوذ الواسع والمكانة العالية، التي وصل إليها العلماء والأعيان في فلسطين في ظل ضعف الدولة العثمانية وإدارتها المحلية. وعلى المستوى المحلي في القدس، فقد مثل عمر أفندي وابن عمه المفتي طاهر أفندي. حتى وصل فيها نفوذ آل الحسيني إلى أوجه. وتأخر هذا النفوذ قليلاً في عهد الحكم المصري وسنوات التنظيمات العثمانية، لكن أحفادهما تمكنوا من المناصب والمراكز المهمة في متصرفية القدس في أواخر القرن التاسع عشر. فكانت تلك الخلفية العائلية الطبيعية التي بنى الحاج محمد أمين الحسيني عليها زعامته القومية في فلسطين أيام الإنتداب البريطاني.
أعلام فلسطين في أواخر العهد العثماني
عادل مناع