” أن تُبقيَ شّهيدَ الوطنِ حيّاً في ذاكرةِ الجيل، هنا المعركة، وهنا يبدأ الشّعور بالرّغبة في النّصر.”
حيثُما يمّمتَ وجهَك فيها، تجدْه واقفاً، يعتلي مِنبرَ نصرِه، يقول: أيّها الجيل، تعلّم ولا تنسَ الوطن، فإن فعلتَ، كنتَ نكرةً في هذا العالم، الوطنُ يجبُ أن يعيشَ فيك، ولا بأس إن لم تعش أنتَ فيه. بهذا الشّكل أجد الشهيدَ يحاورُنا.
في جامعة بيرزيت، وقُبيلَ وصولك المكتبةَ جهةَ اليسار، يُسنِدُ جذعُ الشّجرة على كتفه أغصاناً غضّة، لمّا يقوَ ساعدُها بعد، يمدُّها بكلّ قوةٍ تبعثُ فيها حبّ الحياة. في الطّريق، ينظرُ إليها كلّ مَن ألِفتْ عيناه معنىً للجمال، يلمحُها ويُدهشُ من تموّجِ أغصانها ولون أوراقها، وحينَ تتهافتُ أوراقُها فصلَ الخريف، تراها ثابتةً تجسّد معنى الوقوفِ بثباتٍ في زمن الانهزام.
كلّ شهيدٍ رحلَ عنّا إنّما رحل جسدُه، ومن الواجب أن يبقى خالدَ الرّوح في الذّاكرة، ولعلّ بيرزيت كانتْ ركناً رئيساً في كتابة تاريخنا المقاوم ومحاولة ربطنا المتواصل به، فأروقتُها حَوَتْ كثيراً من القاماتِ العليّة، وضمّت في جنباتها أرواحاً وأجساداً تجعلُ من حقّنا أن نفخرَ كطلّابٍ أنّنا أبناءُ هذه الجامعة، طلّابُ علمٍ يطلبون الحقّ في الحياة، لِهذا هي سببٌ يدعونا للفخرِ بها، كما دعانا من قبلها الشّهداء لنفخرَ بهم ونواصل الطّريق.
الشاعر والمقاوم
أحاولُ بجهدِ المقلّ أن نلجَ باب قاعةِ الشّهيد كمال ناصر؛ لنعلمَ عنه، ولنبنيَ له صرحاً في ذاكرتنا لا ننساه ولا مَن سار سيرَه. عام 1924 وُلد في غزّة، وتربّى في أحضان بلدةِ بيرزيت، لمّا يدرِ حين أبصرَ الحياة أنّ شغف حياتِه يتأرجح بين أمرين: حياةُ وطنه المحتل وكيف له أن يُطيرَ حمامه من قيده؟ وثانيهما شعرُه ذو الطّابع الوطنيّ الّذي وجدَ فيه خيرَ مَن يُلقي إليه مكنونَ فؤاده وحصيلةَ إعمال عقله. في اللّغة العربيّة يقولون: إنّ الضّمير هو أعرفُ المعارف، وشهيدُنا لم يكن يلقّب إلّا بـالضّمير بين أقرانه، حتّى انسحبَ هذا اللّقب عليه وأبدلوا اسمَه بهذا اللّقب بعيد المرام.
كمال بطرس إبراهيم ناصر، هو ضميرُنا الّذي خاطبتْه الأديبة السّوريّة غادة السّمّان قائلةً: “ينتابُني إحساسٌ دائمٌ كلّما كتبتُ إليك، هو أنّني لن أتلقى ردًّا، فأنت أيّها الفارس المشرّد، ضائعٌ في هذا العالم الواسع، ومن المحتمل أن تصلَ رسالتي إليك وأنتَ قد غادرتَ عمّانَ وصرتَ حاكماً لسوريا، أو قتيلاً في بيرزيت”
نعم يا غادة، مات قتيلاً لا في بيرزيتَ؛ بل في بيروت، ولمّا يحكم سوريا، بل ملّكناه قلوبَنا. نعم، لم يجلس كمال ناصر ليتعلّم على مقاعد جامعة بيرزيت، فقد تعلّم في الجامعة الأمريكيّة في بيروت وتخرّج منها مجازاً في العلوم السّياسيّة!وبعد استشهاده قرّر صديقُه عبد المحسن قطّان أن يُبقيَ ذكراه عامرةً فينا بأن شيّد هذا الصّرح العلميّ عام 1985.
كان شهيدُنا شاعراً يُحمّل شعرَه همّه وهمّ الوطن، يخاطبُ الجيل القادم بقلبٍ ينبض بحبّ الوطن، يقول:
“رأى الظّلمَ يُدمي رُباه
فثارَ إلى مبتغاه
وكانَ شهيداً، وكلُّ شهيدٍ إله
تسامى، فلوّن معنى الصّلاة
وعمّق من وحيِها وابتكرْ
فسالتْ نضالاً دِماه”
عام 1972، اغتيلَ غسّان كنفانيّ، وكان ممّن شيّعه صديقُه الشّاعر كمال ناصر، واراه التّراب، وذرفَ عليه حزنَ دمعه، لم يدرِ وقتَها أنّ اللّقاء سيكون قريباً؛ بل قريباً جدّاً. في العاشر من نيسان 1973، في بيروت قامت قوّاتٌ خاصّة إسرائيليّة بالتّسلّل بحراً إلى منازلِ قادةٍ ثلاث عِظام في منظمة التّحرير هم كمال ناصر، كمال عدوان، أبو يوسف النّجّار، تمّ الاغتيال، وأشرف حينها إيهود باراك على العملية الّتي أطلق عليها (فردان) أو (ربيع الشّباب). بعد استشهاد كنفاني ودفنه في مقبرة الشّهداء الإسلاميّة، كان كمال ناصر وهو المسيحيّ البروتستانتيّ قد تركَ وصيته بأن يُدفنَ جوارَ صديقه، ليعيشا معاً بعدها دونَ ضجيج هذا العالم في بيروت، سقطَ كمال من رحم أمّه يوم العاشر من نيسان، وارتقى قمّة قلوبنا أيضاً حين صار شهيداً للوطن في ذات التّاريخ.
ربما، يجدُر بالمرء أن يحزنَ أحياناً؛ ليبصرَ موضعَ قدمِه، ويعيد قراءة الواقع، ولأنّه لن يرى قاماتٍ كهذه إلّا بين سطورِ التّاريخ في دفّاتٍ من الكتب ملأ غبارُ الواقع صفحاتها، ربما علينا أن نعلم مَن هو كمال ناصر؟ الّذي نمرُّ كثيراً أمام بابه، وننسى أن نقف ونلقي عليه التّحية، يجدر بنا الحزن؛ لنرسمَ طريقَ الوطن. كتبتُ عن كمال ناصر، وآخرون ينتظرون أن نكتبَ عنهم، لا لأنّهم أرادوا ذلك، بل لأنّهم الأحقّ، ولأنّهم الأمل، وكلّ طريقٍ لا يكونون منارَه هو طريقٌ يُكسبكُ الوهنَ دون الوصول.
وأنت، أضِف اسمَ شهيدٍ وعرِّفنا به، عرّفنا بماضينا وحاضرنا والمستقبل.
من موقع جامعة بيرزيت