الحاج علي سليم إبريق (أبو حسين) 87 عاماً ولِد في الكويكات وهُجِّرَ منها عام 1948، الى لبنان، ثم عاد ليعيش في ابو سنان على امل أن يعود ويستقر في مسقط رأسه، ولكن هذا الامر بقي حُلماً حتى يومنا هذا.
خِفت على ولادي من القصف وحطّيتهن بقلب الصندوق وغطّيت عليهِن
التقيت به في بيته في ابوسنان ورافقتنا في الجلسة الزوجة ام حسين الحاجة فاطمة إبريق. إبتدأ اللقاء بحضور الإبن حسن الذي حاول قدر المستطاع ان يسهل مهمتي بسبب سمع والده الثقيل، وبعد ذلك طلبت منه أن يترك الأمر لي لأتدبر، وتدبرت بسرعة ... قلت لابو حسين بصوت عالٍ: إحكيلي شو صار معاك في الـ 48 .. قال: كنت اشتغل بمصنع الشُحّاط بعكا، إشتغلت فيه 13 سنه، وبِديَت المشاكل، وراحت عكا وراحت حيفا وراها، الناس خافت وانهزمت، وإذا بقينا بالبلاد بقتلونا ... قاطعت ام حسين جوزها وقالت: اجت الحرب علينا من ناحية نهريا، وصاروا يضربو قنابل لتخويفنا وبطّلنا نشوف قدامنا، ولما شفت الحرب بدها تدور ... كان عندي ولدين حسين عمره (اربع سنين) وحسن عمره (سنه ونُص) ... ما خفت على حالي .. خِفت على ولادي من القصف ... قلت : وين اروح فيهن!! وين بَدي اخبيهن!! .. قلت لنفسي : أحُطهِن عالسِّده!! بس وان هبطت السِدّه!! قلت : أحُطهِن تحت السدّه! نفس المشكلِه ممكن السدِّه تهبط عليهن!!
في صندوق خشب .. حطّيت لِولاد بقلب الصندوق وغطّيت عليهِن ... قام حسين فَزّ من الصندوق وقال: خنقتينا يمّا.
سكتت ام حسين شوي وقالت: يا ويلي كيف شعتلونا وكيف ساوو فينا .. الحمد لله على كِتبِتْ الله .. وناديت يا بو حسين.. إحمل انتي حسين واطلع غربي البلد دَخلك هِجّ فيه ... وانا بحمِل حسن وبَلحَقك .. مشيت وشلِحت الحطّه البيضه أحسن من بياض الحطّه بشوفوني ويطخّوا علي، ومن كثر الضرب هجّينا من الكويكات على ابوسنان .
بعد الهجيج قعدنا في بيوت دار خير ودار سعد في أبوسنان
صاح أبو حسين بصوت عالي وقال لأم حسين استني شوي خليني أنا احكي إسّا وقال: أجينا عِندار سليمان زياده في ابوسنان واستقبلونا كثير منيح، وقعدنا عندهن ثلاث تُشهُر وإحنا نوكل ونشرب، لا نِخبِزْ ولا نُطبُخ وهذا كان حال اهل كويكات كلهن. بعدين طلعنا انا وإخوتي وولادي ع لبنان وقعدنا في قانا بمنطقة صور سِنِه كاملِه ... ما عَجَبنا الوضع هناك وارجعنا على ابو سنان عَبين ما نركّز حالنا ونرجع ع بيوتنا ع كويكات ... رُحنا لعند مشايخ دار خير ... بيوتهن كانت ملانِه ناس مرَحلّين ... وقام اجا واحد من دار سعد كان يشتغل معاي بفبركة الشُحّاط، وأخذنا لعِندو وقعدنا في بيتو ثلاث سنين، دار سعد أوادم ومناصِب.
تناولت الحكي إم حسين وقالت: أجا البوليص عشان يغرِّبنا من البلد، وكانوا ماسكين جوزي ابو حسين، وبدهن يوخذوني ... إم معروف الشوفانيه من دار خير أصلها من لبنان كانت ما تقلّلي إلا يمّا ... أجت وقالت للبوليص : لوين ماخذينها؟ هاي المَرَه حِبلى وبدها تجيب ... صدّقوا حكياتها وفلّتونا، ولأجل ام معروف بقينا في البلد.
يعني هذا عدل .. إحنا نعمّر هون بابوسنان وكويكات بعيده اثنين كيلومتر بس عنّا
أبو حسين قاعد وصافن ومش سامِع حكي ام حسين صاح وقلّها بتسمحي تخليني اكمّل ... وقال: اشتريت 300 متر ارض وبنينا براكيّه وقعدنا فيها سبع سنين على أمل نرجع بعدين على كويكات .... وقاطعت ام حسين وقالت: لما شفنا إنّو العودِه طالت عمّرنا بيت 120 متر من الحجر وسكنا فيه، قام سألني واحد من البلد .. يا مجنونه لليش اشتريتو البيت ولليش عمّرتو؟! قلتلّو: بدّي اعمّر ولما نرجع عالكويكات بتِركو للدروز يصلوا فيه، وانضبّيت أنا وولادي في هالبيت، يعني هذا عدل إحنا نعمّر هون بابوسنان وبلدي كويكات بعيده اثنين كيلومتر بس عنّا.
صاح ابو حسين وقال: خليني أكمّل حديثي وبعدين معِك؟ وقال: رجعت على فبركة الشحاط اللي اشتغلت فيها 13 سنه اطلب منهن يرجّعوني ع الشغل، وما استرجيت اطالب باتعابي ... قلولي: إمضي على ورقَه إنّو ما إلَك اتعاب عِنّا ومنرجعك تِشتغِل ... صَفَنت ... ويلي انو هذا حقي وبدّي اياه ... وويلي بدي اشتغل وأدبِّر حالي ... بس بالآخر لا طِلِعلي اتعاب ولا شُغل ... طحوني وقالولي لما يصير شُغل منبعتلك ... وبعدين فتح الشغل وصرت اشتغل بالتجاره اشتري قماش وأبيع ومَرتي تخيّط عالماكنه. خَمستَعشَر سنة مِتغَلبين ... تعذبنا كثير تنّو الله دبّرنا.
هذا البيت إلي وهذا الزتون إلي، بدّي أنقيلي شويّة زتون آكلهن قبل ما أموت!
قاطعت ام حسين حديث ابو حسين وقالت: الحصرَه بعدها بقلبي لليوم لمّا طلعنا من كويكات ما كان معنا مصاري وكنّا معمرّين بيت جديد من الحجر وحاطّين كل دَمنّا فيه، والبيت بعدو لحدّ إسّا في بلدنا اللي صارت اليوم كيبوتس بيت هعيمق ومسكونة باليهود ... كل سنه مِنروح نزورو، وإذا قعدت أكثر من سِنه ما شُفت البيت بِتدور النار في بَدَني، وبَضلني ألِحّ عولادي تنروح ونزور البيت.
ومرَه رُحت عالبيت وصرت أشرُط زتون من الزتونات اللي قدام البيت زرَعتهن بأيديّ بدّي انقّي أكم حبّة زتون أرُصهن وآكل منهن ... نَهَر عليّ اليهودي اللي ساكن بحدّ البيت وقللّي : شو بتساوي؟ .. قلتلو: شو بَساوي!؟ هذا البيت إلي وهذا الزتون إلي، بدّي أنقيلي شويّة زتون آكلهن قبل ما أموت .. اليوم طلاب المدرسه في الكيبوتس صاروا يُفُرطوا الزتون ويُدرسوه ويوزعوه على بعض. بروح مَرات.. اول وثاني عالبيت وبتطلّع مِن سُكرّة الباب... وبَبْكي على حالنا وعاللي صار فينا ... علوَاه أرجع عكويكات وأقعد تحت الزنزلخت باقي عمري.
في أحلى من اللّي بُملك حُرّيتو يا بنَيّي!!
قُلت لأم حسين طيّب شو صار بأهلك؟ ... غصّت بالبُكى، وقالت: كل أهلي ... ابوي وإمي وإخوتي الأربعة ماتوا بصبرا وشاتيلا وانا ظليت لحالي ... وياما بكيت وقلت: بعرِفش اعيش بلاكو يَمّا شو صار فيكي وشو صار بحالكو!؟ .. ظل إلي من الخمِس إخوه بَس واحد في بيروت..
وصارت إم حسين تبكي، وأنا سكتت ونزّلت راسي للحظات حتى اخذَت أم حسين شوية نفس وقالت بحزن وكأنّو النار بدها تطلع من أحشائها: في أحلى من اللّي بُملك حُرّيتو يا بنَيّي ... بَلَدك اللي خلقت وإربيت فيها؟!!.
إذا ما رْجِعتْ أنا علكويكات بِرجَع إبني ...
صاح ابو حسين على أم حسين وقال : شو عم تحكي؟ خلص خلص ... اعطيني أنا احكي وبس ... ووجه الحكي إلي وقال: شايف هذا الشارع اللي بروح على نهريا؟ .. كلّو أخذوه من ارضنا إللي في الكويكات ... راح بيجي يوم انشا الله وإحنا طيبين ومنرجَع عالبلد وإذا ما رْجِعتْ أنا بِرجَع إبني ...
إخوتي لِكبار ماتوا بلبنان، إبن أخوي مات بالقاسميّه، مَرت أخوي ماتت بالبازوريّه، جوزها مات في قطر، إبن اخوي الثاني مات في استراليا، اخوي الثاني مات في برج البراجنه، وإبن أخوي وإبنو أجتهن قذيفِه في بيروت وماتوا.. كل واحد مات بمَحل هذا نصيبهُن. راحوا لِعتاق كُلهن، بس ضلوا ولادهِن، وبعدهن بطالبوا يرجعوا عالكويكات.
فكرّناها شمّة هوا
قلت لابو حسين طيّب ليش طِلعتوا من أصلو علِبنان؟ قال: كانت لُعبِه.. فكرّناها شمّة هوا ... في لبنان كنّا نوكُل على حساب وكالة الغوث في قانا ... ويوم قُلت للمَرَه: إذا ظليتني بلبنان بَفقَع، وقررت أرجع ... إخوتي ضَلوا هناك وأنا روَحت. قلت لأخوي : هذا بيتي.. إذا رجِعت علبنان هاي رجِِِعْت وإذا ما رجِعتْ خَذ البيت والله يسامحك ... ماتو إخوتي وما شُفتهن ... كيف بدّك إياني ما أبكي وأحزن عليهن ؟! ..
إم حسين قاطعت وقالت: أبوي وهو ينازِع جمع إخوتي وقَلهن إن مُتت قولوا: مات حزين عفاطمه، ووصاهُم عليّ ... وأمي ماتت وقالت نفس الكلمة.
مجلة الحقيقة
اجرى اللقاء: رفيق بكري