إعتَقَدَ من اغتصب الأرض وهجّرَ السكان وهدم القرى ومسح بيوتها مع الأرض واقتلع أشجار الزيتون، وزرع مكانها الصنوبر والسرو وما الى ذلك من تغيرات جغرافية، انه بمثل هذه الإجراءات، تطرد من ذاكرة الكبار معالم قراهم فينسون بيوتهم واراضيهم.. بل اكثر من ذلك إذا وصفوا لصغارهم والأجيال الطالعة شكل البيوت والارض فاذا قام بزيارة بلدتهم يصطدمون بواقع آخر. لكن، وكما يقول المثل الشعبي"العتمة لم تأت على قد يد الحرامي"، فرغم كل تلك الإجراءات الهمجية ما زال الكبار يعرفون موقع كل بيت وحجر، وحدود كل ارض، بل ازدادت الأجيال الطالعة تمسكا بقضيتها مُصرّة على حق العودة متشبثة بكل حفنة تراب.
أما الحاج أبو أحمد علي محمد غضبان من قرية كويكات القريبة من كفرياسيف فلم يكتفِ بنقل قصة تهجيرهم من قريتهم ومعاناتهم لأحفاده، او مشاهد دائرة على خريطة فلسطين تشير الى موقع بلده بل على لوحة كبيرة، قام برسم بيوت وطرقات وحارات كويكات واضعا كل موقع مكانه، ومن ثم وبمساعدة مختصين قام ببناء مجسم لتلك البيوت والمواقع والطرقات.. ثم أخذ يشرح مدى تعلقه وحنينه لكويكات قائلا ان عمره كان 21 عاما يوم تم تهجيرهم:
ألاتحاد: كيف تم تهجيركم؟
أبو أحمد: عندما وصلت قوات "الهجناه" إلى مشارف القرية جرى تراشق بالنيران بيننا وبينهم ثم اخذوا يطلقون القذائف وبدأت ذخيرة المسلحين تنفد..
الاتحاد : عفوًا، لكن الضابط دوف يرميا الذي احتل مع فرقته قريتكم، يقول في كتابه "صبر بلا شوك"، "في الثامن من تموز، دعيتُ الى مقرّ القيادة وتلقـيـتُ أمراً باحتلال قرية كويكات في نفس الليلة. واستنادا الى المخابرات، تواجد في القرية 100 حامل بندقية، حيث طوّروا عند قدومنا، منظومة دفاعية، وكان من المرجّح أن تتجه قوات القاوقجي الى القرية للمساندة، في حال تم الهجوم عليها".
أبو أحمد: ما أعرفه ان ذلك كان في الليلة الأولى من شهر رمضان الكريم وكنا نعرف ان اليهود يبيّتون الشر لقريتنا، انتقاما لما جرى في معركة الكابري الأولى، حيث نسب إلى أهالي كويكات دور كبير في مهاجمة القافلة المتجهة نحو جدين لفك الحصار عن مستوطنة "يحيعام" وتم تكبيدها خسائر كبيرة بالأرواح والعتاد. وحتى لو كان عدد البواريد المذكور صحيحا، لكن الذخيرة كانت قليلة جد، أضف إلى ذلك ان جيش القاوقجي كان مرابطا في ترشيحا بكامل عتاده ولم يقم بأي اتصال معنا ولم يقدم اي دعم او إمداد (ماكو أوامر)..
الاتحاد: لكن الضابط يرميا قال أيضا في إحدى المقابلات الصحفية بأنه وجد القرية خالية من السكان.
أبو أحمد: واصلنا المقاومة بقدر إمكانياتنا، لكن على اثر ما كان يصلنا من أخبار مرعبة عن المجازر والمذابح في دير ياسين وغيرها، قررنا الانسحاب وترك القرية، خاصة وان اعتقادا ساد بين الفلسطينيين ان الخروج من البيوت هو مسألة أسبوع او أسبوعين الكل سيعود الى بيته، ثم ان اغنياء وزعامة المنطقة التقليدية في كابري وترشيحا وغيرها تركوا البلاد قبل غيرهم.. واليهود واصلوا إمطار البلدة بالنيران فانتاب الصغار والنساء الكثير من الذعر الى درجة ان امرأة انتبهت فيما بعد بانها تحمل المخدة بدل رضيعها، أضف الى هذا انهم قتلوا عيسى إبريق عندما رفض الخروج من بيته وفيما بعد قتلوا، هند غضبان يحيى ومريم إبريق، عندما عادتا الى القرية لأخذ بعض متاعهما.
الاتحاد: أتريد أن تقول إن القوات اليهودية كانت مسلحة ومنظمة أكثر من القوات العربية؟
أبو أحمد: كانت منظمة ومسلحة أكثر من أهالي القرى. كما انه لم يكن اتحاد وتعاون عسكري بين قرانا المتجاورة مثل عمقا والغابسية والنهر والكابري والشيخ دنون وأم الفرج، أي بالمشبرح كانت "مِتّكلة" على جيش الإنقاذ، أي على الملك عبدالله الهاشمي والحاج أمين بيك الحسيني.. وهكذا "بين حانا ومانا ضاعت لحانا".
الاتحاد: هل من برهان ولو بسيط؟
أبو أحمد: مثلا رباح العوض معروف في البلاد، وكان ثائرا وقائد "فصيل" في ثورة 1936، في الـ48 ذهب الى الملك عبدالله طالبا الذخيرة والتشاور والمساعدة فقال له الملك عُد ولا تتدخل الأمور على ما يرام!! فعاد ليقول للناس ان القضية "مبيوعة" فأخذوا يلاحقونه بشتى الاتهامات.
الاتحاد: وهكذا أصبحتم لاجئين في أبوسنان.
أبو أحمد: نعم ولكن معظم اللاجئين ذاقوا الأمرين، اذ تم ترحيلهم من ابو سنان إلى منطقة العفولة في اتجاه جنين، ومن هناك انتقل قسم كبير منهم الى عمّان ومن عمّان الى دمشق، ومن دمشق الى لبنان ومن لبنان عاد العديد منهم إلى أبو سنان. أما انا وعائلتي فانتقلت قبل ذلك الى موقع المزرعة بجانب نهريا فجاء الجيش لأخذنا وطردنا، فتصدى له بعض اليهود من عبرون وشفي تسيون المجاورتين ممن كنا نعرفهم، وقالوا للضباط، هؤلاء يعملون عندنا وهكذا "مزطنا" من الطرد لخارج البلاد.
الاتحاد: لنعد الى فكرة بناء المُجَسم كيف خطرت ببالك؟
أبو أحمد: بعد زيارة لكويكات والتي أصبح بالمفهوم الصهيوني اسمها "بيت هعيمك" وجولة بين "بيوتها" و"طرقاتها" و"حاراتها" المجروفة، ورغم كل طمر وتغيير معالم، وضعتها في مخيلتي كما كانت قبل النكبة، إذ تذكرت كل بيت تماما اين كان موقعه ومن صاحبه، كل زاوية كل ساحة.. هنا كانت البيادر، هذا مكان المنزول، تلك المقبرة، يا حسرتي على معاصِر كويكات، هنا كانت ترفع الأرض وهناك تنحدر طريق..
ألاتحاد: كم استغرق رسم وبناء هذا العمل الهام؟
أبو أحمد: بين ثلاثة الى أربعة اشهر واضطررت للعودة الى كويكات عدة مرات لأتأكد من دقة ما اقوم برسمه، اذ لم يعد شاهدا على القرية غير المقبرة وبناية المدرسة التي غيروا اتجاه مداخلها وشبابيكها ويستعملونها كمكاتب، بالإضافة لبقايا بيت هنا او "ريف" صبر هناك، ثم وبمساعدة احد أطباء الأسنان وما يستعمله من مواد قمنا ببناء المُجسّم، مستندين الى اللوحة التي رسمتها، وأود التأكيد انها تماما في موقعها ومكتوب على سطوحها أسماء أصحابها، العمل لم يكن سهلا ويستطيع أي مهندس بموجب ما قمت به إعادة بناء كويكات، من جديد، كما كانت قبل الـ 48.
الاتحاد: نلاحظ انك لم تتطرق الى الارض خارج مسطح القرية؟
أبو أحمد: ومع هذا فانا ما زلت اعرف مواقع الأراضي رغم انهم اقتلعوا زيتونها وزرعوا مكانه الأشجار غير المثمرة، وكثير من الأراضي المروية قاموا باستغلالها للزراعة. فاهالي كويكات كانوا يعتاشون على زراعة الخضار والحبوب وتربية الماشية فهم يحبون الارض بشكل لا يوصف وما زال الكثير من كواشين الطابو بايدي الأهالي.
ألاتحاد: هل لخص لنا أبو أحمد علي محمد غضبان اهمية بناء مثل هذا المُجسّم؟
أبو أحمد: أليهود جرفوا الأرض وغيروا معالم البلد، ومهما اصف الأمر للأحفاد فلا استطيع شرحه كما هو بالمُجسّم، ومن يسألني من أولاد كويكات ممن أهاليهم بقوا في ابو سنان عن بيتهم أشير لموقعه على المُجسم، ولا شك بانه يزداد عشقا لبيته وأرضه وبلده.. وما هذه المقابلة وطرح قصة تهجير ومعاناة اهالي كويكات إلا هدف استطيع إضافته الى ما خَطَرَ ببالي من مهام. وهكذا، وانا في مثل هذا السن المتقدم أساهم في ترسيخ: أنه لا بد من العودة الى ديارنا وإعادة بنائها من جديد.
الاتحـــــــــاد
أجرى اللقاء مفيد مهنا
الأربعاء 12/5/2010