أبو رشيد "الحكيم"
إنصافاً للحق أقول، إن الظروف المعيشية والإجتماعية والإقتصادية، إلى آخر المسبحة ... للشعب الفلسطيني في اللجوء كانت غير عادية..! غير عادية بكل المقاييس:
-
بيوت من خيم .. وهو ما يفتقده العالم تماماً باستثناء المخيمات الكشفية للشباب والمخيمات الصيفية للعائلات المتنزهة..
-
بيوت من الحجر الخفيف يعلوها سقف الزنكو (التوتيا).. وهو يؤكد خواصه العلمية 100%: بارد في الشتاء حار في الصيف..
-
حمامات مشتركة لم تعرفها البشرية إلا في معسكرات الإعتقال النازية..
-
حنفيات مشتركة للأحياء، تضطر معها النساء والفتيات إلى حمل الجرة على الرأس أو الكتف..
-
محرقة في كل حي .. للقمامة .. تشتعل فيها النيران نهاراً فتؤذي المارة بحرارتها .. وتخمد ليلاً فتؤذي الناس برائحتها..
عموماً لو أردنا أن يطول بنا الحديث عن المخيم لما أمكن اختصار الموضوع بكتاب..!
أقول: في ظل هذه الأوضاع المتردية، ما كان ممكناً أن تكون أحوال الناس الصحية بخير..
فاقد الشيء لا يعطيه.. والمخيم ليس منتجعاً سياحياً مثل مونتي كارلو في فرنسا أو مالوركا في إسبانيا ولا حتى مغدوشة في جنوب لبنان..
وعلى الصعيد الصحي كانت هناك عيادة لما يسمى بـ "الأنروا " وكان يصرف لمريض بالصداع (أسبرين) ولمريض المعدة أسبرين ولمريض القدمين أسبرين.. كانت هذه صورة العلاج لدى هذه المؤسسة الدولية الإنسانية التي كان وما زال يفترض أن تقدم خدمات علاجية وليس العلاج بالمسكنات..!
في ظل هذه الأجواء، إلتفت الناس في مخيم عين الحلوة، ليفاجأوا بإنسان ليس بطبيب وليس بممرض.. ولكنه يعالج جيداً. أقول ليس بطبيب وإن كانت خبرته تفوق خبرة كل الأطباء آنذاك.. وليس بممرض عادي لأنه أرقى من هذا بكثير..
أبو رشيد .. نايف سلامة
أبو رشيد الحكيم
ذلك الرجل الطيب من قرية مجد الكروم
كان أبو رشيد يعالج الناس بخبرة عريضة ..
يعالج الناس ..كل الناس بمقابل رمزي أو حتى دون مقابل!
إن دفعت له قال لك: معافى .. بالشفاء .. وإن لم تدفع له قال لك الشيء نفسه..!
بيته .. عيادته (لا فرق) هي ديوانية لمجموعة من ختيارية المخيم .. يقدم لضيوفه القهوة والشاي والتمر وخلافه.
كثيراً ما كنت ترى أبو رشيد يحمل حقيبته الطبية الصغيرة وهو يسرع الخطى باتجاه أهل حطين .. لماذا يا عم أبو رشيد؟ ويجيب: هناك فلان لا يستطيع الوصول إليَّ! هو يذهب للمريض بخطى لم أر أسرع منها.. تحس أنه لا يطأ الأرض.. وبسرعة البرق كان يعود مريضاً آخر في منطقة طيطبا أو الزيب..
كانت وصفاته مثالية لكل داء.. متواضع.. تحس وأنت تستمع إليه أن عنفواناً كبيراً يقبع وراء ذلك الهدوء المرتسم على محياه.. طيب القلب.. كريم النفس.. سهل التعامل.. وفوق هذا وذاك فإنه كان يمثل ملاك الرحمة كما يطلق على العاملين في التمريض والطب.. ملاك رحمة وحيد لعشرين ألف لاجئ..
بركاته كثيرة .. ووصفاته مفيدة .. الله كان يلطف به وبمرضاه فقد كان يعطي إبر البنسلين دون أن يجري أي فحص ضد الحساسية، ولم نسمع أن أصيب أحدهم بحساسية أوصلته لمرحلة الخطر، من جراء ذلك!
عاش من أجل الآخرين.. ومات بهدوء وسكينة وراحة ضمير .. دون أن يخلفه أحد في مهنته.. وإنسانيته وتضحياته لمخيم بأكمله دام ما يقارب أربعة عقود من الزمن!!
غفر الله لأبي رشيد وأدخله الجنة..
لا يخلو الأمر من طرفة..
يرويها أبو عصام
روي عن أبو رشيد أنه مرض يوماً مرضاً شديداً اضطره للذهاب إلى مستشفى الجامعة الأمريكية في بيروت. وحين وصل هناك سألته عاملة الإستقبال: من أين أنت يا حاج؟ فأجاب من مخيم عين الحلوة. فقالت له بكل ثقة وثبات: يا رجل عندكم في المخيم أبو رشيد الحكيم وتأتي إلينا في الجامعة للعلاج....!!
أحمد نصر (أبو نبيل)
عن موقع:
www.einelhelweh.com