البراق – العدد آذار 2004
منى قدورة – مخيم الرشيدية
بيت جدي أبو أحمد، في مخيم الرشيدية، هذا البيت البسيط الذي شهدت طفولتنا فيه أحلى الذكريات وأحلكها. تقف جدتي الحاجة أم احمد على باب منزلها المطل على شاطئ البحر في تنتظرنا في أيام العطل، لكي تحكي لنا حكاياتها القديمة عن فلسطين، وتزرع فينا حب تلك الأرض التي لم نرها ولم نلمس ترابها ولكنها كل شجرة فيها عرشت في صدورنا وقلوبنا مثل الأوردة والشرايين.
وسوف تخيب أجيالنا مقولة أول رئيس وزراء في الكيان الغاصب: الكبار يموتون والأطفال ينسون.. وسوف يتحول مشروع توثيق العودة إلى: الكبار يحكون والأطفال يتعلقون ويتشبثون أكثر فأكثر.
كانت سحماتا مليئة بالنعم التي أنعم الله بها على هذه القرية الفلسطينية الصغيرة الآمنة. وقد كان لعائلة قدورة نصيب كبير في هذه الخيرات، تمثلت –مثل معظم أهل البلد- بامتلاك أراض فيها شجر الزيتون والتين والدخان واللوبية والخضار والفواكه المتنوعة ((اللي كنا نعيش منها)).
في أيام الصبى، كنت أنا وأمي وأخواتي، نقوم في الليل ونبدأ العجين والخبز والطبخ والغسيل، في الوقت الذي يذهب إخوتي الشباب وأبي إلى الحصيدة (الحصاد)، مثل باقي الفلاحين في القرية. وفي المساء يأخذ الأولاد البقرات إلى البيدر، ويدرسون هناك ما سبق أن حصدوه وتركوه في البيدر. كان الجميع يتشارك في العمل في القرية، إلا ((العطيلة)).
وكانت الحصيدة مثل العرس عند الشباب، فكانوا ينزلون إلى الحقل ومعهم مناجلهم، ويحصدون سنابل القمح ويذرونه على البيدر، وعند شغل البيادر كانوا يغنون ويزغردون أغاني الحصاد والدرس.
وكان للخطبة والزواج عندنا تقاليد وعادات خاصة، كان الشاب يطلب من والديه أن يخطبوا له فتاة معينة، ويتشاور الأهل فيما بينهم، فإذا اتفقوا كان يبدأون بتحضير الجاهة ((يعني شي سبعة ثمانية من كبار وشيوخ البلد))، فيطلبون يد الفتاة من أهلها.. وعند الموافقة يتم الاتفاق على المقدم والمؤخر ويتم عقد القران.
ويوم العرس يدعون أهل القرى المجاورة لسحماتا، ويحضرون ثمرة الحنة، وتقوم الصبايا بجولة على البيوت للعزيمة على العرس، ويعطون المعازيم من ثمرة الحنة.. ويحضر الشباب الحطب لنصبه في الساحة وإشعاله، ويتجمع المعازيم حول النار ومواقد الحطب، ويقوم الشباب بالسحجة (وهي إحدى الدبكات التراثية الفلسطينية)، على صوت زغاريد النساء..
وكانت الأفراح تستمر ثمانية أيام، من الصبح إلى المساء، وكانت تذبح خلالها الذبائح، وكان أهل القرية يتفاخرون بالكرم وإطالة مدة العرس.
وليلة العرس، تقوم نساء البلد بالطبخ لإطعام المدعوين كافة من الأكلات الفلسطينية الشهيرة في مثل هذه المناسبات (لبن إمه، وكبة، ومناسف من الأرز واللحوم)، بالإضافة إلى الذبائح ولحومها في الأطعمة المتنوعة.
وفي النهار يقومون بتحميم العريس في بيت صديق له، وقبل الحمام يأتي الحلاق ليحلق له لحيته وشعره، ويغنون له أثناء ذلك:
احلق يا حلاق بموس الفضة اتمهّل يا حلاق زعلان تيرضى
احلق يا حلاق وتمهل عليه تاييجوا صحابه يطوفوا حواليه
وبعد ذلك يلبس بدلته التي تقدم له على طبق مزين بالورود والرياحين. ويأخذه الشباب إلى البيادر، وهم يعزفون على الشُبّابة والمجوز، له ثم يعودون به على المهرة حيث يحيط به أخواته وبنات عمه ((حاملين بإيديهم الكرادين والبخور)).
ولكن يا حسرة، سقى الله تلك الأيام، راحت لما راحت البلد، ((ما عدنا نعرف الفرح الحقيقي من يوم اللي طلعنا من بلادنا))، ومن يوم ((اللي تشردنا وتهدمت سحماتا وبيوتها واحنا عم ننتظر اليوم اللي رح يفرجها فيه ربنا علينا)).
((يوم النكبة – يا ستي- ما بنساه))، من الساعة الثامنة صباحاً أغارت الطائرات بالقذائف على البلد ومحيطها، فشعر أهل البلد بالخوف وهربوا بأولادهم ((وشوية اغراض من البيت واللي قدرنا نحمله بإيدينا وراحت الناس تلا الزتونات، على أساس يناموا ليلة واحدة تحت الشجر هناك، وبعدها لليوم هالليلة ما خلصت)).
أخبرنا جيش الإنقاذ أن عكا وصفد سقطتا، ونصحونا أن ننسحب ونترك البلد.. يومها حملنا أولادنا وبعض أغراضنا وانطلقنا من فلسطين الساعة 8 مساء، ووصلنا إلى بنت جبيل الساعة 12 ليلاً.. والغريب أنه لم يسألنا أحد عن تصريح أو أي شيء من هذا القبيل.. ((وهون المصيبة، ليلة واحدة بعدها ما خلصت-يا ستي- من أكثر 55 سنة)).
ومع كل ذلك، لا تزال الحجة أم احمد تعيش على أمل العودة إلى بيتها وقريتها وكرمها.. ولا تزال حتى اليوم تحتفظ بمفتاح بيتها وحفنة تراب من أرضها، مثل كثير من اللاجئين الفلسطينيين في الشتات.