سقوط الكابري في شراك الصهانية
قامت قادة جيش الانقاذ العربي بزيارات الى مواقع المعركة بعد الانتصار . ابدوا اعجابهم بشجاعة وبطولات شباب وشيوخ الكابري واستعرضوهم باسلحتهم القديمة، ثم منحوا القرية مكافأة بنادق وذخيرة من اللجنة العسكرية العربية بدمشق. بدأت هذه القيادة لجيش الانقاذ بعد اسابيع من المعركة بتمثيل مسرحية تنقُّل واستبدال مفرزة قوات جيش الانقاذ في القرية وضابطها ابو محمد علوش بحجة التبديل العسكري تارة ودعم قوات الجيش في معركة صفد طوراً. هذه المسرحيات الهزلية دفعت الكثير من النساء والاطفال والعجائز الى مغادرة القرية الى ترشيحا وبقاء الشباب المسلح في القرية، والكثير من عائلاتها غادر الى لبنان لانهم اما من جذور لبنانية او لهم اصدقاء في قرى الجوار من جنوب لبنان.
شهادة السيد ابوموسى مصطفى بلقيس:
قبيل رحيل آخر فرقة من القرية قدم الرقيب اول من قوات الانقاذ المدعو "متروك"(1)، صديق الوالد، وهو من بدو الاردن، قدم منتصف ليل اول ايار 1948 بعد انفضاض جلساء ديوان الشيخ، همس باذن والدي "الشيخ" وبصوت خافت قال : "ياسيدي الشيخ أُطلعك على سر مفاده ان قرى الساحل خلال الايام القادمة يمكن ان تصير فريسة للصهاينة بسبب غياب قوات جيش الانقاذ. وانت يا شيخي بمقام والدي، ارجوك ان ترحل الى ترشيحا الجبلية مدة اسبوعين حتى نحرر صفد من الصهانية ثم نعود بقوة اكبر وعدادٍ افعل لاحتلال جميع مستعمرات الساحل الشمالي، وحياتي يا سيدي الشيخ رهن افشاء هذا السر، كما انك ياسيدي رجل كفيف البصر لا تستطيع الفرار اذا ما حصل اعتداء من العصابات على القرية في غيابنا، وسينتقمون من القرية التي دمرت قافلتهم وقتلت قواتهم". ولا ندري كيف انتشر الخبر في القرية كوميض البرق صباح اليوم التالي. كما اشار السيد متروك .
ارتحلنا الى زاوية ترشيحا، مكثنا هناك ثلاثة اسابيع ، طلب والدي من امي ان تعود الى الكابري برفقة خالتي ام محمود نبيهة بلقيس لتزويدنا بالطحين والمواد الغذائية وكمية من بيض الدجاج وبعض الفراريج وبعض كتبه الخاصة ومواد غذائية من الدكان.
توجهنا عصر يوم الثلاثاء في 20/5/1948، سبقتُهما على الشارع العام نحو القرية.عندما وصلنا القرية التقينا بالشيب والشباب المسلح اذكر منهم فضل بلقيس، مصطفى بلقيس عمر الاشوح، محمد عارف المصري، توفيق يعقوب، عمر احمد شاكر الجشي، وكانت أعداد كثيرة من الشباب والمتوسطي العمر في القرية يجوبون الطرق والاحياء ومنهم ابو حسين علي قدورة وابو خالد الزعزوع وابو محمد صالح الجشي والدليل واخوه عيد الفراري وابو محمد خليل الحاج وابو نمر حماد وابو موسى مصطفى بلقيس وابو محمد عثمان دغيم وابو العبد صالح الصفدي ومحمد صالح الدباجة.
قبيل الفجر ايقظتني والدتي على ضجيج تكسير الابواب واطلاق الرصاص الآلي والقاء القذائف بين حين وآخر على أحياء متفرقة من القرية. كانت قد اسرعت خالتي من منزلها في الحارة الغربية تضرب كفاً بكف وتخبر امي ان قوات اليهود كثيفة العدد تحيط بالقرية من الشمال ومن الغرب قائلة لها:" هيا بسرعة نغادر بوحيدك قبل وصولهم الينا". وما ان خرجنا من المنزل حتى سمعنا منادياً ملثماً بكوفية فلسطينية يربض في زيتون العفيفي دلنا على الطريق بين الزيتون الى ترشيحا بلكنة اجنبية.
وصلنا بساتين الشبايك المرتفعة شرقاً واذ شاهدنا جماعات من القرية نجوا من غدر الصهاينة . بدأت عتمة الصبح تنحسر، وقعت ابصارنا على اعداد هائلة من الصهاينة تحيط بالقرية من جميع المرتفعات الشمالية والشرقية. اخبرنا الناجون ان عناصر كثيفة تجوس ازقتها وطرقها وحاراتها وتتمركز فوق سطوح المنازل العالية، دار فارس سرحان ، دار عاطف سرحان، دار الزاوية الشاذلية ودار محمود ديب الصفدي. واذكر ان احد المجاهدين قال: " اين زعماء القرية وملاكو بساتينها واراضيها؟ "اجابه آخر: " لا يكفي انهم هجروا القرية بل بخلوا علينا بالسلاح والعتاد". واردف قوله:" من منكم شرب آخر شربة من عين العسل؟؟ لقد شربت منها شربة لا أظماً بعدها ابداً، هيا بنا الى ترشيحا نستجير بجيش الانقاذ."
وبينما نحن في طريقنا الىترشيحا بدأت اصداء الالغام في بيوت القرية تدوي وسحب من الغبار والدخان تتصاعد من القرية. وصلناترشيحا قبيل الضحى واخبار سقوط القرية تشيع جهاراً على الالسن وعناصر جبش الانقاذ العربي وقياداتهم اصيبوا بالصمم والعمى لا ينفر الطير من حولهم وكأن الامر لا يعنيهم.
عصر ذلك اليوم غادرنا زاوية ترشيحا نحو دير القاسي برفقة اقاربنا الذين تواجدوا في الزاوية. وفي الطريق التقينا بعائلات كثيرة هجرت قراها الى لبنان. مكثنا في دير القاسي – الحارة الغربية – ليلة وهي خالية على عروشها . كنا نسمع طيلة الليل اصداء المتفجرات في بيوت القرية المتهاوية. وفي الصباح الباكر فقدنا امل العودة الى ارض الآباء والاجداد، بدأ والدي يفسر حديث الرقيب الاول الاردني "متروك" له وتبين ان هذا الجيش يأتمر باوامر قائده العام الذي ضم الضفة الغربية بعد نزوحنا الى مملكته: وبدل الاستيلاء على مستعمرات الساحل الشمالي كما اخبره "متروك" قام هذا الجيش بتسليم قرى الساحل الشمالي للصهاينة.
توجهنا صباحاً الى لبنان صفر الايادي وحططنا رحالنا في الزاوية اليشرطية الشاذلية في زقاق البلاط – بيروت. مكثنا هناك اياماً معدودة ثم توجهنا الى كامد اللوز ومنهاالى القرعون – البقاع – وبعد قضاء سنة ويزيد عدنا الى قرية قانا في جنوب لبنان ؛ حيث توفي والدي الشيخ ودفن في مقبرتها عام 1950م وقد اوصانا ان ننقل عظمة من عظامه الى مقبرة آبائه واجداده بعد تحرير فلسطين . وفي صيف عام 1951م انتقلنا الى مخيم الرشيدية قضينا بضعة اشهر ثم انتقلنا الى مخيم برج البراجنة لمتابعة دراستي. اخيراً حدثت المعركة في 27/3/1948 يوم الخميس وسقطت القرية في 21/5/1948 فجر الاربعاء أي بعد (54 يوما) من معركة الكابري الكبرى .
يروي السيد ابو موسى مصطفى بلقيس انه شاهد ارتالاً من آليات الصهانية تتقدم نحو القرية من طريق السهل الترابي غرباً، وتتقدم مجموعات صهاينة راجلة من مرتفعات الدهرة شمال القرية، كانوا يطلقون النيران من اسلحة آلية كما يقذفون القرية بالقذائف الصوتية المرعبة بين الحين والحين. وما ان وصلت اعدادهم بيوت القرية من الجهة الشمالية حتى بدأوا بتحطيم ابواب وشبابيك البيوت المقفلة بالبلطات ينهبون ما شاء لهم ان ينهبوا ثم يتم تفجيرها بالالغام.
ما زلت اتذكر اسماء المجاهدين المسلحين من رجال القرية: على قدوره، خليفة الصفدي، محمود الزعزوع، صالح محمد ( ابو علي) الجشي، عيد سعيد فيراوي، خليل الحاج خليل، صالح الصفدي، علي مرجان، عمر الاشوح، جميل يعقوب، فضيل يعقوب، فضل بلقيس، الدليل فيراوي، ركاد يعقوب، خليل الصفدي، محمد الصفدي، محمد سعيد الاشوح، صالح بلقيس، فتح الله جوهر، خالد الاشوح، توفيق احمد شاكر الجشي، محمد عارف المصري، عبد الله ركاد الجشي، عمر احمد شاكر الجشي، محمد جوهر ، الحاج درويش الخليل، محمود الحاج درويش الخليل، نور الهدى محمود مرعي.
ويقّدم ابو موسى مصطفى بلقيس اعتذاره لمن كان من رجال القرية مداوماً وسقط اسمه سهواً لضعف الذاكرة في سن الشيخوخة . اجتمع الرجال الذين كانوا في قاعدتهم العسكرية امام دار فارس افندي سرحان شمال شرق القرية ودار نقاش حاد. كان الشباب مندفعين للمواجهة والاستشهاد، لكن كبار السن ذوي الخبرة العسكرية فضلوا الانسحاب بسبب اعداد الصهانية الهائل، كانوا مدججين بالاسلحة الحديثة والمدافع والآليات فضلاً عن عدد وتعداد المشاة، بينما كان عدد رجال القرية لا يزيد عن ثمانين رجلاً . كانوا يمتلكون بنادق قديمة ومتنوعة المصدر وذخائر محدودة ومتنوعة . وبعد جدل رجحت كفة العقلاء بالانسحاب على شكل مجموعات شرقاً نحو ترشيحا على صدى الانفجارات المتلاحقة. توقفنا في مرتفع بساتين الشبايك نودع قريتنا وقد لفها الدخان والغبار المتصاعد ينبعث منها رائحة البارود السموم. ذانِّك هي بلدي.
من كتاب:( سفر الكابري)
الحاج بدر الدين الجشي