تم عصر الثلاثاء 20 شباط/فبراير الجاري تشييع جثمان الفنان مصطفى الكرد بعد صلاة الظهر من المسجد الأقصى إلى مثواه الأخير في مقبرة المجاهدين في شارع صلاح الدين الملاصق لأسوار القدس العتيقة، وغاب الكرد، بسبب التهاب الرئة وضيق التنفس، عن المدينة التي عشقها وارتبط بها، وظل وفياً للوطن وبيت المقدس حتى الرمق الأخير.
حضرتْ لحناً بصوته
اشتعل حنين الفنان الكرد للقدس العربية عندما كان يعيش بعيداً عنها في برلين الألمانية مطلع الثمانينيات، فحضرتْ لحناً جميلاً على وقع موسيقاه، ولمعتْ صوراً شعرية في نبرة صوته وحروف أصدقائه الشعراء، وغنى لأحيائها القديمة في محاولة لإطفاء حنين يشتعل كلما صعدت إلى الذاكرة طقوس سهرات الأصدقاء في مقهى أبو بكر عيد في باب العمود. وأوقد الحنين نار الاشتياق في أوتار عوده، مستحضراً أحياء البلدة القديمة، ومتعة أمسياتها وطقوس سهرات الأصدقاء:
من باب حطة بنظم كلامي
من خان الزيت بعمل أنغامي
من الباشورة نبع الأماني
كل الناس تحيا بأمان
آه يا زمان وين السهر
وين الليالي ع ضو القمر
وين السحلب يا أبو عمر
نشربه صبحية مع الآذان
ولد مصطفى درويش الكرد صباح 20 كانون الأول/ديسمبر 1945 في بيت مقدسي قديم على طريق الجبشة قرب حارة النصارى بمدخل البلدة العتيقة، لوالد يعمل في تجارة السكاكر والمكسرات ويمتلك محلاً تجارياً في باب الخليل بمشاركة شقيقه من أمه الحاج حافظ الطحان.
أطاحت النكبة الكبرى عام 1948 بأحلام الشقيقين درويش وحافظ في الاستقرار بمنزل جميل شيّداه في حي البقعة غربي مدينة القدس، ورحلا قسرياً مع آلاف العائلات. استقرت عائلة الكرد-الطحان، حتى مطلع الخمسينيات، في مدينة أريحا شمال البحر الميت على نهر الأردن، ثم عادت أدراجها إلى البلدة القديمة في القدس، عقب شفاء الأخ الأكبر حافظ من إصابة تعرض لها خلال المواجهات المسلحة في معركة النوتردام الشهيرة على أبواب أسوار القدس.
السعدية والعمرية
استعادت ذاكرة الطفل مصطفى بوضوح عودة أفراد عائلته من أريحا إلى القدس صيف سنة 1951، وغاب عنها تفاصيل بيته في البقعة ومنزل اللجوء القسري في أريحا، لكنها استعادت جدران الطين بساحة واسعة أمام بيت أريحا بدرج خشبي خارجي معلق.
أقام مصطفى مع والده ووالدته وشقيقته وصال في حارة السعدية، وقضى طفولته في حوش البسطامي الواسع حيث تسكن فيه عائلات المصري، والوعري، والأفغاني، وجودة، والصحصاح، وتميزت الحارة بدرج حجري شكل مكاناً لألعاب الأطفال.
وَرَثَ صوت والده الذي كان يتلو القرآن بتجويد جميل بعد صلاة كل فجر، وكان يتشرب هذا الصوت العذب في الصباح الباكر. كان والده يقضي أمسياته، برفقة أصدقائه، في بيت الشيخ محمد المصري في حارة السعدية لترديد حلقات الذكر الصوفية وأناشيد الغناء الصوفي والمدائح الدينية، وحَرَصَ على اصطحاب نجله مصطفى للاستماع إلى فن تجويد القرآن الكريم في المسجد الأقصى وقبة الصخرة، وأسلوب الغناء الصوفي في بيت أصدقائه.
لم يرث مصطفى صوت والده فقط، بل أخذ كثيراً من نبرات والدته انتصار الشوا، التي ظل صوتها يفيض بالإحساس على الرغم من تجاوزها الثمانين من العمر، وامتزجت نبراته بمأساتها الشخصية، إذ فقدت زوجها قبل أن تجتاز عتبة الثلاثين من عمرها، وظلت حتى أيامها الأخيرة تجود بغناء جميل على الرغم من مفردات الحزن.
في السادسة من عمره رافق والده إلى المدرسة العمرية، قبّل الأب يد أستاذه وديع حبش وقدم له نجله، وبات مصطفى يُقبّل يد أستاذه ومعلم والده كلما شاهده في أسواق المدينة حتى عقب مغادرته المدرسة شاباً يافعاً. أشرف مدير المدرسة محمد القيمري والمعلمان العسلي والشيخ كمال الركن على تعليم مصطفى المواد الأساسية، وأحكام تجويد القرآن الكريم، وقواعد الإضغام والإقلام والقلقلة، وانتبه المدرسون إلى صوت مصطفى الغنائي، وكانوا يطلبون منه الغناء في أثناء الرحلات المدرسية، وكان يجلس خلف مقعد السائق، ويترك لصوته العنان من غناء وتجويد في جو من فرح زملاء المدرسة وتقدير الأساتذة.
لم يكمل مصطفى تعليمه المدرسي، واضطر إلى مغادرة المرحلة الإعدادية للعمل عقب وفاة والده سنة 1958، وقد رحل مبكراً قبل أن يتجاوز الأربعين من عمره بمرض الالتهاب الرئوي "الآزما"، عقب استنشاق مواد كيماوية من مخلفات جيش الاحتلال البريطاني خلال عمله بعد النكبة في منطقة البحر الميت جنوب أريحا. تولت أرملة الراحل شؤون الأسرة، وكافحت من أجل صغارها الخمسة، وأكبرهم مصطفى، ثم وصال، وخولة، وأروى، وعلي.
سعى يوسف النجار، صديق والده الراحل، لدى يعقوب كمال، أحد أبرز أصحاب الحدادة في القدس، كي يتعلم مصطفى مهنة الحدادة، فتعلم الحرفة جيداً وأتقنها، وكان يخلط عمله بالغناء في أثناء الشغل، وبات معروفاً بين الحدادين باسم الفنان، إلى أن غادر المحددة بلا رجعة عندما ضاق صاحب العمل من غنائه. اشترى أكورديون ثم كلارينيت، وتعرف على العازفين علي الزعانين وحسني، عازفان ترومبت وكلارينيت وساكسوفون بفرقة موسيقى الجيش الأردني، وأخذ بالتدرب على كل آلة موسيقية على انفراد عندما كانت الفرصة تتاح بعودة الزميلين علي وحسني من الوظيفة في إجازات خاطفة.
العزف في جبل النار
قبل أن يكمل السادسة عشرة من عمره، قرر مغادرة عمله في القدس، على الرغم من معارضة والدته، والتوجه إلى نابلس (جبل النار) للعمل في المدينة، وساعده وجود خالته (أم علي) المتزوجة من عائلة الأسطة والمقيمة بنابلس. أقام بغرفة في حارة العقبة بالبلدة القديمة تطل نافذتها على شباك للجيران، وكان في المساء يطلق صوته الغنائي في الغرفة، وعندما سمعه جاره حسن داود حسنين (أبو علي) طلب منه زيارته، وواظب على قضاء معظم الأمسيات في بيت جار خالته (أبو علي)، وهو عازف عود جيد يحمل أفكاراً يسارية شيوعية، وأقام سنوات طويلة كلاجئ سياسي في سورية.
صقلته التجربة مع أبو علي، بدءاً من الانفتاح على الموسيقى، مروراً بالفلسفة والمفاهيم الفكرية، وانتهاء بالتدقيق بالرؤية الصوفية التي صاحبت سلوك فتى متديّن ومحافظ. أدرك من خلال أبو علي الأحداث التاريخية التي شهدتها فلسطين قبل النكبة وبعدها، ولامس الأفكار اليسارية التقدمية، وتعلم العزف على العود بشكل جيد.
استأجر بيتاً برفقة أحد أصدقائه في قصبة نابلس، وغادر بيت خالته، وعاش في المدينة ثلاث سنوات تقريباً، وتعرف في تلك الفترة على الشاعر وأستاذ الفلسفة عبد اللطيف عقل. شارك أبو علي أمسياته وحفلاته الموسيقية، وغنى للمطربين عبد الوهاب، وعبد الحليم حافظ، وكارم محمود، ومحمد رشدي وغيرهم. وحرص أبو علي وفرقته على إحياء الأمسيات بشكل طوعي ومن دون مقابل، في حين واصل مصطفى حياته المهنية في الحدادة نهاراً وأمسياته الموسيقية ليلاً.
توجه صباح 5 حزيران/يونيو 1967 برفقة مجموعة من زملائه إلى معسكر للجيش الأردني (حوارة) جنوبي نابلس، وعرضوا تطوعهم مع القوات المسلحة، لكن قادة المعسكر طالبوهم بالانخراط في صفوف لجان الدفاع المدني. عاد مصطفى إلى البيت، وجَمَعَ أغراضه في حقيبة، وانطلق قبل الظهر في حافلة ركاب نحو القدس برفقة السائق الصيرفي. ومع انتشار نبأ سقوط جبل المكبر في القدس، غادر الركاب الحافلة بطلب من السائق، وقطع مصطفى الطريق الطويلة على الأقدام، وعثر على سيارة نقلته من أحياء مدينة البيرة إلى حي بيت حنينا، وتمكن بصعوبة من اجتياز أحياء وشوارع القدس: شعفاط، والتلة الفرنسية، وحي الشيخ جراح، ودار الطفل، والمأمونية، وباب الساهرة، ووصل بيته في حي السعدية مع ساعات المساء. سقطت البلدة القديمة في قبضة المحتل، وأحضرت قوات الجيش حافلات للراغبين في الهجرة ومغادرة المدينة. تمسك سكان حارة السعدية وحوش البسطامي وأهالي البلدة القديمة بالبقاء في بيوتهم رافضين المغادرة.
المسرح والموسيقى
أعاد الكرد علاقته بالمهتمين بالموسيقى، والتقى عازفي الكمنجة أبو روحي عبيدو وداود أبو خاطر وعثمان الأفغاني، والتقى أبو حسن زمرد أمين سر نقابة الحدادة والطراشة، وعرض تنظيم نشاطات في مقر النقابة الواقع بشارع الزهرة، وبدأ نشاطه الغنائي في محاولة لاستقطاب الشبان المقدسيين من نادي بيت داود الذي أسسته بلدية القدس التي باتت في قبضة الاحتلال. شارك مع النقابة في تنظيم نشاطات ثقافية مطلع تشرين الأول/أكتوبر 1967، وأقامت النقابة عرضاً مسرحياً بعنوان "هزيمة الشيطان" يروي محاكمة الأموات للشيطان وتحميله وزر خطاياهم في محاولة لتبرئة سلوكهم.
عَرَضَ مسرحية "الطريد" سنة 1968، التي تروي حكاية شاب يجنح بعيداً عن سلوك مجتمعه، وبات يعيش حياة الرذيلة والضياع نتيجة الظروف المستجدة بعد الاحتلال، إلاّ إن القيم الأساسية المتأصلة به انتصرت في النهاية وأعادته إلى رشده، وتزامنت مع المسرحية شهرة أغاني الأمل، والأرض، والسكة.
تعاون مع زملائه على تأسيس نادي القدس الرياضي، ثم افتتح مع أحد أصدقائه معهد القدس للفنون والمسرح سنة 1970، وتعاقد مع أساتذة معروفين في حقل الموسيقى: عبد اللطيف الأشهب، وعبد الحميد عبيدو، وفرانسوا نيكوديم، وسميح مراد. لكن المعهد لم يتمكن من متابعة مهمته لقلة الإمكانات المتوفرة، في حين واصل مصطفى الغناء للعمال، وأعاد توظيف بعض الألحان الفلكلورية لتنسجم مع الأغنيات الشعبية التي بات لها جمهورها، وتزايد الاهتمام من أجل خلق رؤية للغناء المقاوم وبلورته في إطار مؤسسي جماعي.
أقام الشاب الياس نصر الله بالقدس قادماً من مدينة شفا عمرو في الجليل، وكان طالباً في الجامعة العبرية ومناصراً للحزب الشيوعي الإسرائيلي، واشتغل مترجماً للغة العبرية في صحيفة "الشعب" المقدسية، ثم فتح مع رفيقيه، داود خوري من الرامة في الجليل وتوفيق أبو رحمة من شفا عمرو، مكتب صلاح الدين للنشر. التقى مصطفى عقب عرض من الشاب نصر الله مجموعة "بلالين" المسرحية التي أسسها فرانسوا أبو سالم، وسامح عبوشي، وإميل عشراوي، وهاني أبو شنب، وماجد الماني، واستجابة لفكرة الياس شارك مصطفى في نشاطات الفرقة التي نجحت في تنظيم مهرجان متميز سنة 1973. شارك في مسرحية "يونس الأعرج" مع "بلالين"، وغنى "بيت سكاريا" من كلمات عمر يوسف، وأيضاً قصيدة "الجلاد" للشهيد كمال ناصر، وتضمنتْ المسرحية نصوصاً شعرية للشاعر التركي التقدمي ناظم حكمت.
قدم مسرحية "تع تخرفك يا صاحبي" للمخرج وليد عبد السلام، ثم "تربايتك عمي" بمشاركة الممثل جبر الزبيدي، وقدم مع فرانسوا أبو سالم مسرحية "القاعدة والاستثناء" للمسرحي الألماني بريخت، وقدم مجموعة أغاني من كلمات الشاعر خليل توما. تواصل نشاطه مع فرقة "بلالين" حتى انقسامها سنة 1974 بين جناحي "بَلا لين" و"بِلا لين"، لكنه واصل عروضه الغنائية في الجليل والمثلث داخل أراضي 1948 بالتنسيق مع مكتب صلاح الدين للنشر والحزب الشيوعي الإسرائيلي.
شارك سنة 1975 مع فرانسوا أبو سالم وعادل الترتير وأنيس البرغوثي في أول تجربة للمسرح المحترف بتشكيل "صندوق العجب"، وعرضتْ الفرقة باكورة أعمالها "لما انجنينا"، ولعب فيها مصطفى دور "أبو الجنازير"، بينما مثّل الترتير دور "عنتر"؛ قدم مصطفى دور الجنرال المصاب بجنون العظمة، والراغب في أن تستجيب البلاد له بقرع طبول الحرب، في حين لعب زميله الترتير دور المستكين الذي يدعو إلى تجنب شر القتال لأن البلاد تعيش تحت وطأة ظرف بائس تحت الاحتلال. اشتغل مع زملائه فترة طويلة على العمل المميز، قبل عرضه ثلاث ليال متتالية في مدرسة الفرير بالقدس، وفي ليلة العرض الأخيرة تعرض أبو الجنازير للضرب والاعتقال، ومكث عدة أيام في التحقيق بسجن المسكوبية قبل الإفراج عنه.
أعاد الاحتلال اعتقاله أواسط شباط/فبراير 1976 بذريعة توفر اعترافات لدى أجهزة الأمن الإسرائيلية بشأن نشاطه الوطني وعلاقته بفصائل المقاومة الفلسطينية. خضع للتحقيق المتواصل لمدة 28 يوماً من دون انتزاع أي اعتراف بالإدانة، فأصدر الاحتلال قراراً بالاعتقال الإداري لمدة ستة أشهر قابلة للتجديد. دافع عنه المحامون محمد كيوان، وفليتسيا لانغر، وليئا تسيمل، ووليد الفاهوم، وعلي رافع، وتقرر إبعاده عن الوطن، وغادر إلى العاصمة الأردنية عمّان صباح 29 كانون الأول/ ديسمبر 1976، وتابع طريقه إلى بيروت، وكان قد سبقه إلى العاصمة اللبنانية أسطوانته الأولى التي أصدرها مكتب صلاح الدين سنة 1974.
المنفى والعودة
تعرف في بيروت على مجموعة كبيرة من المثقفين والفنانين اللبنانيين والعرب، أبرزهم الموسيقار زياد الرحباني، والسينمائي جان شمعون، والمسرحي روجيه عساف، الذي شاركه في تحضير مسرحية عرضها في عدة مناطق في لبنان، وأبدى اهتماماً بالاستماع مطولاً إلى تجارب المسرح في فلسطين، وخصوصاً تجربة بلالين، وفكرة تميزها بالإخراج الجماعي.
غنى لجمهور المخيمات الفلسطينية، وأنتج أسطوانته "نوح إبراهيم"، نسبة إلى شاعر ثورة 1936، وتضمنت الأسطوانة الجديدة أغانيَ من كلمات محمود درويش، وتوفيق زياد، وخليل توما، وسميح القاسم، ودفع تكاليف إنتاجها ماجد أبو شرار، مسؤول دائرة الإعلام لحركة "فتح". وأقام مدرسة لتعليم الموسيقى لأبناء جميع الفصائل من دون تمييز، وتعرف على المغني التقدمي مارسيل خليفة في مهرجان برلين الشرقية سنة 1977.
تعرف على الناشطة والأكاديمية الألمانية هيلغا باومجارتن التي ربطتها علاقة متينة بالحركة الطلابية اليسارية عندما اندلعت شرارة ثورتها سنة 1968 في العواصم الأوروبية، إذ وصلتْ الطالبة الألمانية لبنان لأول مرة سنة 1973 لإجراء دراسة أكاديمية حول القضية الفلسطينية، ثم عادتْ بعد عامين لمتابعة أبحاثها الأكاديمية بغرض نيل شهادة الدكتوراه في العلوم السياسية، وعملتْ في الجامعة الأميركية في بيروت كمحاضرة للدراسات الثقافية. تزوج من هيلغا بوكالة شيخ المحكمة الشرعية وبشهادة رفيقيه الدكتور عبد الرحمن برقاوي والسينمائي مصطفى أبو علي، وأقام العروسان حفلاً بسيطاً في أحد مقاهي بيروت، ثم حصل على وثيقة الزواج وترجمها إلى اللغة الألمانية استعداداً لمغادرة لبنان.
عاش في بيروت في أثناء اشتداد الحرب الأهلية، لكنه أدرك أن الأمر بات معقداً وقاسياً في لبنان، وشعَرَ أن دوره الموسيقي بات بلا جدوى، وقرر الرحيل. فغادر بيروت بعد ثلاث سنوات على إقامته برفقة زوجته هيلغا عبر الطريق البري في سيارة صغيرة اشتراها من ألمانيا سنة 1977. ترك بيته بعهدة صديقه الدكتور البرقاوي، وقطع سبعة أيام في الطريق البري عبر تركيا، وبلغاريا، ويوغسلافيا، والنمسا، وتابع طريقه إلى ألمانيا. أقام في بيت للطلاب، بينما أكملت زوجته رسالة الدكتوراه في جامعة غوتنغن، ونَجَحَ خلال إقامته في المدينة في تنظيم أسبوع للثقافة الفلسطينية، من محاضرات وأفلام وموسيقى وغناء، على الرغم من اعتراض المؤسسة الفلسطينية المتنفذة التي تحتكر النشاطات المتعلقة بفلسطين، ولا تسمح بها إلاّ من خلال قنواتها. لم يستجب الكرد لهذه النزعة، وواصل نشاطه الفني بطريقته الخاصة، وانتشر لاحقاً في أوساط الغناء اليساري العالمي، وتعرف على مغنين من أميركا اللاتينية وإيران وأفريقيا، وأدرك أبعاد القضية الفلسطينية وامتدادها مع حركات التحرر الأممية.
قضى سنة كاملة في غوتنغن تعلم فيها اللغة الألمانية والموسيقى الغربية، ثم انتقل إلى برلين واستقر فيها. وتابع شغفه بمتابعة دراسة الموسيقى في برلين، وتواصل مع كلية العلوم الموسيقية في جامعة برلين الحرة، وفشل في التسجيل رسمياً في الكلية لعدم وجود شهادة الثانوية العامة معه، لكن البروفيسور كوكرز، عميد كلية العلوم الموسيقية، تعاطف مع خصوصية تجربته عندما قدم له أعماله الموسيقية، ووافق على متابعة المحاضرات كزائر مشارك، من دون الحصول على شهادة أكاديمية. تعرف في الكلية على تاريخ الموسيقى العربية والنهضة الموسيقية التي شهدتها الفترة العباسية، وقضى في الكلية عامين حصل فيها على وثائق تفيد بدراسته لمواد متخصصة في الموسيقى.
قضى في برلين خمسة أعوام، وفرح فيها مع زوجته هيلغا بقدوم نجله الوحيد درويش سنة 1981. أنتج في أثناء إقامته بألمانيا ثلاث أسطوانات موسيقية غنائية، شارك مع مجموعة من الشعراء في صياغة كلماتها. غنى وعزف في مجموعة واسعة من العروض الموسيقية ومهرجانات أقيمت في أوروبا والولايات المتحدة وكندا.
عاد إلى القدس أواخر عام 1983 واستقر نهائياً في مسقط رأسه وزهرة مدنه بعد حصوله على الجنسية الألمانية؛ وذلك عندما نجحت المحامية الإسرائيلية التقدمية ليئا تسيمل بانتزاع قرار من المحكمة يقضي بعودته لانتهاء فترة إبعاده. غنى في الأمسية الأولى لافتتاح مسرح الحكواتي سنة 1984، وتسلّم عرضاً لتأسيس قسم للموسيقى في مبنى المسرح، وقدم مشروعه إلى رئيس مجلس الأمناء فيصل الحسيني قبل تسلم أنيس القاق المنصب. تابع شؤون تمويل القسم مع الدكتور خليل نخلة، مدير مكتب مؤسسة التعاون في جنيف، وظل قسم الموسيقي في مبنى الحكواتي، لكنه بات مستقلاً عن إدارة الحكواتي منذ سنة 1991 عقب خلافات إدارية بين الشركاء، وأصبح يُعرف باسم مركز القدس للموسيقى العربية.
شارك في تأسيس قسم الموسيقى في الإذاعة الفلسطينية عقب تأسيسها سنة 1994 في أريحا، ووفر حزب الخضر الألماني اليساري أجهزة تقنية وفنية لتدريب الإذاعيين قبل انطلاق الراديو، وشارك في تقديم تدريب تناول إعداد البرامج الموسيقية. ثم تسلم إدارة دائرة الموسيقى في الإذاعة، ووفر لها من أرشيف مركز القدس معظم أشرطة الموسيقى التي كان يبثها صوت فلسطين. بدأ العمل بفريق جيد متماسك نجَحَ في تقديم برامج بمستوى رفيع، ثم دبت التكتلات في كادر الإذاعة، واتسعت محاولات الإقصاء والتهميش، ووجد نفسه عالقاً في خلافات متشعبة، فقرر المغادرة الطوعية من دون مذكرة استقالة.
تابع نشاطه في إدارة مركز القدس للموسيقى، وأنتج سنة 2009 أسطوانة "المداح"، التي تضمنت ثماني أغنيات تناول فيها ذكرياته في المدينة، وعلاقاته مع الأحباء والأصدقاء وحارات وأحياء البلدة القديمة، وضمن الأسطوانة أغنية تكريم للمسرحي الراحل يعقوب إسماعيل بعنوان "صاحب الطير"، وأغنية "عتم الليل" باللهجة اللبنانية المحلية من كلمات الشاعر عز الدين المناصرة.
غاب عن القدس نحو سبع سنوات، وعندما اشتدت عليه قسوة المنفى استحضر من ذاكرته شواهد المدينة التي يعشقها، ليكتشف أن وقائع يومياتها وتفاصيل جوامعها وكنائسها وحاراتها وشوارعها وأبوابها وجدرانها محفورة في قلبه، فأطلق لها أجمل الألحان وغنى لها بنبرة صوته الجميل:
من باب حطة بنظم كلامي
من خان الزيت بعمل أنغامي