الــــــــنــــــــكـــــــــبــــــــــة[1]
أحمد الحاج علي
نادراً ما شهد التاريخ حوادث متسارعة إلى هذا الحدّ. ففي أشهر قليلة يطرد مستوطنون – بدعم من دولة عظمى- شعباً كاملاً. فترة زمنية بسيطة، لكنها كافية، لأن تقتلع العصابات الصهيونية خلالها حوالى 800 ألف فلسطيني من 20 مدينة ونحو 400 قرية, غدت أملاكها ومزارعها جزءاً من الكيان الصهيوني الناشئ.
عصابات مجهّزة ومدرّبة جيداً على يد بريطانيا العظمى، ودول شرقية وغربية أخرى، قتلت عشرة آلاف فلسطيني على الأقل في مجازر عديدة, وأُصيب ثلاثة أضعاف هذا الرقم بجروح. المقاومة الفلسطينية والعربية كانت شرسة، لكن غير مجهّزة، فلم تستطع بإمكانياتها المتواضعة أن توقف الجرائم المرتكبة، والتهجير، وما بات يُعرف بـ "النكبة".
قرار التقسيم
في 29 تشرين الثاني/نوفمبر 1947 تبنت الجمعية العامة للأمم المتحدة مشروعاً لتقسيم فلسطين وفقاً للقرار رقم 181. وقد أصبح عدد اليهود في فلسطين 608 آلاف نسمة، بعد أن كان 84 ألفاً عام 1922. أما المستوطنات فارتفع عددها من 27 مستوطنة عام 1897، إلى 300 عام 1947. إنه الدعم البريطاني والدولي لزرع حاجز بين مصر وبلاد الشام. وكانت من المرّات النادرة التي اتفق فيها الاتحاد السوفياتي والولايات المتحدة على شيء واحد، فكان قيام دولة "إسرائيل". دعم سياسي من الولايات المتحدة، وسياسي وعسكري من الاتحاد السوفياتي، وخصوصاً الأسلحة التشيكوسلافية التي كانت تتدفق على عصابات الهاغاناه.
ونص قرار التقسيم على إنشاء دولة يهودية مساحتها 14100 كيلومتر مربع، تمتد من الجليل الشرقي، والشريط الساحلي الممتد من عكا إلى إسدود، إضافة إلى النقب، وتضم 558000 يهودي، و 405000 عربي، إلى جانب دولة عربية مساحتها 11500 كيلومتر مربع تشمل الجليل الغربي والضفة الغربية والقطاع الساحلي في منطقة غزة، وفيها 10000 يهودي و 804000 عربي، وحُدّدت منطقة دولية تضم القدس وبيت لحم والأماكن المقدسة، وفيها 100000 يهودي و 105000 عربي. رقص اليهود فرحاً في شوارع تل أبيب، وبكى العرب وتوعدوا. وصدرت صحيفة "فلسطين" بعنوان "فلسطين العربية تُباع بأرخص الأثمان في سوق السماسرة الدولية". وفي اليوم التالي لقرار التقسيم شنت العصابات الصهيونية هجماتها على المدن والقرى العربية.
كانت العصابات الصهيونية أكثر تنظيماً وتدريباً، وأقوى تسليحاً، وتملك دعماً وغطاء دولياً. إضافة إلى الانقسامات العربية، والاتفاق الذي عُقد بين الوكالة اليهودية وملك الأردن عبد الله، الذي تعهد عدم مهاجمة الأراضي التي منحتها الأمم المتحدة للكيان الصهيوني، مقابل منحه الضفة الغربية. حتى إن هارولد بيلي، مستشار وزير الخارجية البريطاني، أسرّ إلى الخبراء الأميركيين بأن "اليهود إذا ما دُعموا بالمجندين الوافدين من البحر، سيتمكنون، في بعض الوقت على الأقل، من أن يصدّوا، وربما من أن يهزموا الجيوش العربية السيئة التنظيم، والضعيفة التجهيز". كذلك كان هذا رأي الكولونيل روشر لوند، أحد خبراء الأمم المتحدة، إذ صرّح أن "اليهود متفوقون بما لا يُقاس على العرب، وذلك بفضل احتياطهم الكبير من الضباط المدربين والمتمرسين بميدان الحرب".
عديد العصابات الصهيونية المسلّحة وصل إلى 60000 مسلّح، بينما كان عديد المسلّحين العرب في فلسطين (مع دخول جيش الإنقاذ والجيوش العربية الحرب) لا يصل لأكثر من 23000 عنصر. التدفق الكبير للأسلحة على العصابات الصهيونية لم يتوقف، لا قبل إعلان دولة "إسرائيل" في 15 أيار/مايو 1948، ولا بعد ذلك. فإضافة إلى الدعم الغربي، كان هناك جسر جوي مفتوح لإمداد الكيان الصهيوني بالسلاح، انطلاقاً من قاعدة زاتيك العسكرية التشيكية. ومع نهاية السنة كان عديد العصابات الصهيونية حوالى 90000 مسلّح، بينما بلغ عديد الجيوش العربية المتواجدة حوالى 40000 جندي. وما بين تشرين الأول/أكتوبر 1947 وتموز/يوليو 1948 أنتجت مصانع الهاغاناه وحدها 3 ملايين طلقة، و 150000 قنبلة يدوية، و 16000 بندقية رشاشة، و210 مدافع هاون. يُضاف إلى ذلك أن معظم البلدان العربية كانت تحت الاحتلال، مما منع الاشتراك العربي القوي في المعارك.
"التهجير" هدفاً
صرخ ديفيد بين بن غوريون، أول رئيس وزراء للكيان الصهيوني، مخاطباً اللجنة التنفيذية للوكالة اليهودية في حزيران/يونيو 1938 "أنا أؤيد الترحيل القسري، ولا أرى فيه شيئاً غير أخلاقي". فسياسة التهجير كانت هدفاً صهيونياً منذ البداية. وفي 10 آذار/مارس 1948، وضعت مجموعة من أحد عشر رجلاً، مكونة من قادة صهاينة قدامى وضابطين عسكريين، اللمسات الأخيرة على خطة لتطهير فلسطين عرقياً. وفي مساء اليوم نفسه، أرسلت الأوامر إلى الوحدات على الأرض بالاستعداد للقيام بطرد منهجي للفلسطينيين من مناطق واسعة في فلسطين. وأُرفقت الأوامر بوصف مفصل للأساليب الممكن استخدامها لطرد الناس بالقوة: إثارة رعب واسع النطاق، محاصرة وقصف قرى ومراكز سكانية، حرق منازل وأملاك وبضائع، طرد، هدم، وأخيراً زرع ألغام وسط الأنقاض لمنع السكان المطرودين من العودة إلى منازلهم. وتم تزويد كل وحدة بقائمة تتضمن أسماء القرى والأحياء المحدّدة كأهداف لها في الخطة الكبرى المرسومة. هذه الخطة، التي كان اسمها الرمزي الخطة "دالِت"، هي النسخة الرابعة والنهائية عن خطط أقل جذرية وتفصيلاً عكست المصير الذي كان الصهيونيون يعدّونه لفلسطين، وبالتالي لسكانها الأصليين.
بدأت أولى عمليات التطهير العرقي، بعد خطة دالِت، بعملية "نحشون"، واحتلال القسطل. ثم في 9 نيسان/أبريل 1948، احتلت القوات اليهودية قرية دير ياسين. جُمع السكان في مكان واحد، وقُتلوا بدم بارد. وانتُهكت حرمة أجسادهم، في حين اغتُصب عدد من النساء، ومن ثم قُتلن. حوالى مائتي ضحية، بينهم ثلاثون طفلاً. أذاعت القيادة اليهودية الخبر كي تجعل من دير ياسين نذيراً بالنكبة، وتحذيراً للفلسطينيين أن مصيراً مماثلاً ينتظرهم إذا رفضوا أن يتركوا بيوتهم ويهربوا. مدن وقرى فلسطينية عديدة بدأت تسقط نتيجة مذبحة دير ياسين. وصل الخبر إلى طبريا، حيث كان يعيش يهود وعرب منذ عشرات السنين دون حوادث تُذكر. القوات اليهودية قصفت المدينة، ومنعت القوات البريطانية جيش الإنقاذ من الوصول. مكبرات الصوت تُصدر أصواتاً مخيفة لبث الذعر. ولتسقط المدينة في 12 نيسان/أبريل.
ترويع مدينة حيفا كان مبكراً، فمنذ سنوات والانفجارات تقع في هذه المدينة. والقصف متواصل منذ كانون الأول/ديسمبر 1947. بدأت العملية اليهودية تحت اسم "المقص". انسحب البريطانيون منها مبكراً، وقبل الموعد المحدّد بأشهر، ليفسحوا المجال أمام العصابات الصهيونية. نيران القناصين الصهاينة من الجبال، أنهار النفط والوقود المشتعل والمتدفق من أعالي الجبل إلى الأسفل، وبراميل مملوءة بالمتفجرات. أوكلت مهمة احتلال المدينة إلى لواء كرملي البالغ تعداده 2000 جندي، مقابل 500 من المتطوّعين الفلسطينيين. القائد البريطاني الذي كان يشرف إدارياً على حيفا (رغم انسحاب جنوده)، استدعى ممثلي حيفا الفلسطينيين، ونصحهم بالمغادرة. أصدر قائد اللواء اليهودي الأمر إلى جنوده "اقتلوا كل عربي تصادفونه، واحرقوا جميع الأشياء القابلة للاحتراق، واقتحموا الأبواب بالمتفجرات". وبدأ الناس في 22 نيسان/أبريل بالتدفق إلى ميناء حيفا هرباً من العصابات القادمة، ليرحل عن المدينة حوالى 70000 فلسطيني.
مقاومة رغم المذابح
في 29 نيسان/أبريل هاجم 1000 من جنود البالماخ المدربين جيداً مدينة صفد التي يوجد فيها 400 متطوع عربي، نصفهم لا يملك بنادق. طردت قوات البالماخ سكان صفد البالغ عددهم حوالى 10000 نسمة. ولم تسمح إلا ببقاء 100 رجل طاعن في السن، لكن لفترة طويلة. وفي 5 حزيران/يونيو سجل بن غوريون في يومياته باقتضاب "أخبرني أبراهام حانوخي، من كيبوتس أييليت هشاحر، أنه نظراً إلى بقاء 100 رجل طاعن في السن فقط في صفد فقد تم طردهم إلى لبنان".
قصفت القوات اليهودية الأحياء العربية الغربية في مدينة القدس، واحتلتها في نيسان/أبريل. كانت التعليمات واضحة بالنسبة لليهود المهاجمين "عليكم القيام باحتلال الحي وتدمير جميع منازله". ويتذكر يتسحاق ليفي، رئيس استخبارات الهاغاناه في القدس "في أثناء تطهير القطمون بدأ النهب والسرقة. وشارك فيهما الجنود والمواطنون سواء بسواء. اقتحموا البيوت، وأخذوا الأثاث، والملابس، والأدوات الكهربائية، والأطعمة". والحصيلة في القدس، كانت التطهير العرقي لثمانية أحياء، وتسع وثلاثين قرية فلسطينية، وطرد سكانها إلى الجزء الشرقي من المدينة.
واصلت حملة تدمير المدن الفلسطينية والقرى الفلسطينية، فاحتلت عكا على الساحل، وبيسان في الشرق، في 6 أيار/مايو 1948. وفي البداية برهنت عكا أن نابليون لم يكن وحده من اكتشف أن من الصعب إخضاعها، وعلى الرغم من الازدحام الشديد الناجم عن تدفق اللاجئين الهائل من مدينة حيفا المجاورة إليها، والقصف اليومي العنيف، فقد فشلت القوات اليهودية في قهر المدينة. غير أن مصدر مياهها المكشوف، الواقع على بعد عشرة كيلومترات إلى الشمال منها، من ينابيع الكابري، المسحوبة عبر قناة عمرها 200 عام، كان بمثابة عقبة بالنسبة لصمودها. وقد جرى خلال الحصار تلويث المياه بجراثيم التيفوئيد. وقد رفع مبعوثو الصليب الأحمر الدولي المحليون إلى مركزهم الرئيسي تقارير بذلك. ومع القصف الشديد، وانتشار التيفوئيد، كانت مكبرات الصوت تنطلق بالتحذيرات "استسلموا أو انتحروا". احتُلت عكا، ونُهبت، وطُرد الفلسطينيون.
في أواسط نيسان/أبريل هاجم 5000 جندي تابعين للهاغاناه والإرغون مدينة يافا، بينما حاول متطوعون عرب بقيادة ميشيل العيسى، وهو مسيحي محلي، الدفاع عنها، وكان بين المتطوعين وحدة استثنائية مكوّنة من 50 مسلماً من البوسنة. وبلغ عدد المتطوعين 1500 مقابل 5000 جندي يهودي. وقد صمدت المدينة ثلاثة أسابيع في وجه الحصار والهجوم. وعندما سقطت في 13 أيار/مايو طُرد جميع سكانها البالغ عددهم 50000 نسمة. وما بين 15 أيار/مايو (إعلان ما يُسمّى دولة إسرائيل) و11 حزيران/يونيو 1948 تم محو تسعين قرية.
حاول جيش الإنقاذ بقيادة فوزي القاوقجي منع الاحتلالات، وأثناء قصف جيش الإنقاذ لأحد الكيبوتسات (مشمار هعيمِك)، قُتل ثلاثة أطفال. استغلّت العصابات الصهيونية هذا الحدث لتقوم بتطهير عرقي واسع في مرج ابن عامر.
"طيهور"
بعد إعلان "دولة إسرائيل"، زاد استخدام كلمة "طيهور" أي التطهير. وأصبحت تُستخدم هذه الكلمة بشكل أكثر صراحة من قبل. وحدثت المذابح الواسعة وأشهرها مذبحة قرية "الطنطورة". حتى إن خبير المتفجرات الصهيوني جُويل سكولنيك، والذي شارك في المذبحة قال إنها "واحدة من المعارك الأشدّ خزياً التي خاضها الجيش الإسرائيلي". المئات قُتلوا. كان ذلك في 22 أيار/مايو. تتابعت الأوامر بالمذابح "مهمتنا هي: الهجوم من أجل الاحتلال... قتل الرجال، تدمير وإحراق الكابري وأم الفرج والنهر". وصرخ بن غوريون بالكنيست "تم تحرير الجليل". ذُبح الشبان أمام كنيسة قرية البصة. حتى بعض القرى التي كانت قد عقدت اتفاقات مع الكيبوتسات تنصّ على عدم الاعتداء، جرى احتلالها، ومنها قرية هوج، التي بنى أرييل شارون على أراضيها منزله الخاص ومزرعته الممتدة على 5000 دونم. لم تعد لغة بن غوريون حذرة، فقد دوّن في يومياته "هذه قائمة بأسماء القرى المحتلة والمخلاة من سكانها". وعقد اجتماعاً في منزله لتقدير قيمة الأموال التي نُهبت من مصارف العرب.
أكثر من هدنة عُقدت، لكن العصابات الصهيونية لم تتوقف خلالها عن احتلال القرى الفلسطينية من صفورية إلى ترشيحا اللتين قصفتا بالطائرات، إلى مجزرة الدوايمة، والتي بلغ عدد القتلى فيها 455 شخصاً، بينهم 170 طفلاً وامرأة. وصف الجنود اليهود الذين شاركوا في المجزرة مشاهد تقشعر لها الأبدان: أطفال رضّع حُطّمت جماجمهم، ونساء اغتُصبت أو أُحرقت أحياء داخل بيوتهن، ورجال طُعنوا حتى الموت. في شتاء 1948 أَطلق الصهاينة ما سموه "عمليات التخلص ممن تبقى"، والقصد منها تطهير قرى لم تُستهدف في الأصل، مثل إقرت وكفربرعم والغابسية ودير القاسي. واستمرّت هذه العمليات حتى نيسان/أبريل 1949. ووُقعت بين 24 شباط/فبراير و20 تموز/يوليو 1949 أربعة اتفاقات هدنة بين لبنان ومصر والأردن وسورية والكيان الصهيوني.
قامت الدعاية الصهيونية على القول إن الفلسطينيين قد خرجوا بناء على دعوات القادة العرب. لكن قام الكثيرون، ومنهم المؤرخ الإسرائيلي بِني موريس، بتحليل تسجيلات هيئة الإذاعة البريطانية، واستنتج أنه "ليس هناك أي كلمة أو دعوة أو طلب، في سنة 1948، بشأن النزوح عن فلسطين، من جانب أي محطة إذاعية عربية، لا في فلسطين ولا في الخارج". ويوضح بعض المؤرخين الجدد في الكيان الصهيوني أن العكس هو ما حدث "عندما اتخذت عمليات الفرار حجماً واسعاً في نيسان/أبريل 1948، بث كل من الأمين العام لجامعة الدول العربية عبد الرحمن عزام باشا، والملك عبد الله دعوات تلزم العرب عدم مغادرة مساكنهم. أما فوزي القاوقجي، قائد جيش الإنقاذ، فأصدر تعليماته بوقف الهجرة بالقوة، وطالب بتأمين وسائل النقل من أجل ذلك. وقررت الحكومات العربية السماح للنساء والأطفال بالدخول، وإعادة جميع الرجال ممن هم في عمر القتال (ما بين 18 و 50 عاماً)".
نكبة فلسطين عام 1948 هي نتيجة إجرام صهيوني، وخيانة عربية رسمية واسعة، كما تثبت الوثائق المنشورة، كذلك تواطؤ بريطاني واضح، وكان لبريطانيا 75000 جندي عندما بدأت المعارك، تستطيع بهم منع المذابح والطرد، لكنها لم تفعل. حاول المتطوعون العرب وقف المذبحة، لكنهم خُذلوا، أمام جيش مدرّب ومعدّ جيداً، حتى إن غلوب باشا، رئيس هيئة أركان الفيلق العربي سمّى حرب 1948 بـ "الحرب المزيفة"، نظراً لعدم توازن القوى. والنتيجة أن أكثر من سبعة ملايين لاجئ (حسب إحصاءات حديثة)، فقدوا بيوتهم، وحقهم في حياة كريمة، لكن لم يملّوا الانتظار؛ انتظار قطار العودة.
[1]- اعتمدت هذه الدراسة بشكل رئيسي على: كتاب "خطيئة إسرائيل الأصلية" لدومينيك فيدال، وكتاب "التطهير العرقي في فلسطين" لإيلان بابه.