جاءت أحداث قرية العراقيب الفلسطينية في منطقة النقب، لتكشف وعلى الملأ مجدداً، المساعي الإسرائيلية الصهيونية المتواصلة لتهويد ما تبقى من الأرض الفلسطينية المحتلة داخل حدود العام 1948، وتحديداً في منطقتي الجليل في الشمال، والنقب في الجنوب.
وذلك في سياق خلخلة الوجود السكاني العربي وحشره في نقاط جغرافية وعلى مساحات محدودة، وترك المساحات الواسعة من الأرض لعمليات التهويد والاستيطان، ومصادرة الجيش الإسرائيلي لما تبقى من الأراضي العربية.
وقد ترافقت هذه الخطوة الصهيونية، مع مصادقة اللجنة الوزارية الإسرائيلية لما يسمى «تطوير النقب والجليل»، على مخطط لتوطين 300 ألف يهودي في منطقتي النقب والجليل، في مشروع عرضه سلفان شالوم النائب الأول لرئيس وزراء الاحتلال ووزير تطوير النقب.
حيث عمل على صياغة الخطة مسؤولون كبار على مدى عدة أشهر، بغرض تحقيق ثلاثة أمور، أولها توطين المزيد من اليهود في الجليل والنقب، وثانيها دعم النقاط الاستيطانية التهويدية التي أقيمت في تلك المناطق، وثالثها إقامة نقاط إضافية يسكنها المتدينون اليهود.
وحسب المخطط، سيقام في البداية 150 مبنى لاستيعاب السكان الجدد، ثم تبدأ عملية بناء الوحدات الاستيطانية الخاصة بعد ذلك مباشرة، وكذلك دعم النقاط الموجودة أصلاً بإمدادها بالأموال والميزانيات، لإقامة 20 نقطة استيطانية جديدة.
وتعتبر قرية العراقيب من القرى المسماة بـ «القرى غير المعترف بها» من قبل سلطات الاحتلال الإسرائيلية، حيث يقطن تلك القرية قرابة 100 ألف مواطن عربي فلسطيني من بدو النقب، ويعيش في أصغرها 500 نسمة، وفي أكبرها أكثر من 4500 نسمة.
إن تعبير «قرية غير معترف بها» يعني بالنسبة للدولة الصهيونية، أنها بلا اسم ولا عنوان ولا حق انتخاب لسلطة محلية، وبلا شوارع ولا كهرباء ولا مؤسسات ولا خدمات، مع نقص في صفوف المدارس الابتدائية اللازمة داخل القرى ودون مدرسة ثانوية واحدة.
وترفض سلطات التخطيط الرسمية الإسرائيلية إقرار خارطة هيكلية لها، كما ترفض إقامة سلطة محلية تشرف على البناء والترخيص والتخطيط فيها، وتقديم الخدمات التحتية لها، ولذلك لا توجد لجنة محلية للتخطيط والبناء تمنح رخص البناء.
وكانت سلطات الاحتلال قد أقرت عدم الاعتراف بالبناء غير المرخص، في اللحظة التي سنت فيها قانون التخطيط والبناء عام 1965، وطبقته بشكل تراجعي وقسري على واقع القرى الموجودة أصلاً قبل قيام الدولة الصهيونية، على أنقاض الكيان الوطني والقومي للشعب العربي الفلسطيني.
ويشار إلى أن سلطات الاحتلال الإسرائيلية لم تدخر جهداً، ولم تترك درباً أو أسلوباً من أساليب العمل ومن الضغوط، إلا وجربته مع سكان هذه القرى المسماة بـ «القرى غير المعترف بها»، وذلك لدفع سكانها وأصحابها الأصليين لمغادرتها، وتركها لعصابات التهويد والاستيطان.
وتختبئ سلطات الاحتلال وراء قوانين البناء والترخيص في عملية هدم البيوت، تحت حجة أنها غير مرخصة! والحديث يدور هنا عن عشرات الآلاف من بيوت عرب النقب، التي صدرت بحقها أوامر الهدم، وهدمت المئات من هذه البيوت بالفعل، وهو ما حل مؤخراً في قرية العراقيب.
ومن المفارقات التاريخية أن الحكومة الإسرائيلية أصدرت عام 2004 القانون/ الأكذوبة المسمى «قانون طرد الغزاة»، والمقصود هنا طرد عرب النقب أصحاب الأرض الأصليين، من خلال هدم البيوت وحرث الزرع وترحيلهم إلى تجمعات التوطين القسري.
وبالإضافة إلى هدم البيوت، تقوم وزارة الزراعة والبيئة الإسرائيلية سنوياً بحرث المحاصيل الزراعية للبدو العرب الفلسطينيين في النقب، ورشها بالمواد الكيماوية بهدف إبادة الزرع، ناهيك عن الأضرار اللاحقة للبشر الذين يستنشقون المواد الكيماوية السامة.
ومن الأساليب التي تمارس ضد أهل النقب في هذه القرى، ترك المياه العادمة من الصرف الصحي القادمة من مستوطنات يهودية مجاورة، تسيل وتمر من بين بيوت بعض هذه القرى.
كما هو الحال في قرى أم بطين التي تعاني الأمرين جراء مرور مياه الصرف الصحي العادمة القادمة من مستوطنات جبل الخليل، وكذلك قرية قصر السر التي تستنشق هواءً ملوثاً، جراء هذه المياه التي تسيل من مدينة ديمونا المجاورة وتمر من بين بيوت القرية، الأمر الذي يؤدي إلى حالات مرض كثيرة بين أطفال هذه القرى ونقل الحشرات للأمراض المعدية.
ولا بد من التذكير أن الوعي العام بدأ يتطور منذ سنوات التسعينات، إدراكاً لمخاطر التوطين القسري وتهجير البدو العرب الفلسطينيين من قراهم وأرضهم، وهذا ما جعل مهمة المؤسسة الإسرائيلية الأمنية والعسكرية والسياسية أكثر صعوبة، ولكن التحول الكبير بدأ مع تأسيس عدد من الجمعيات والهيئات الناشطة، منها المجلس الإقليمي للقرى غير المعترف بها، ومؤسسة النقب للأرض والإنسان.
إن حملات التضامن مع العرب الفلسطينيين في الجليل والنقب، لمواجهة حملات الطرد وتهويد الأرض، يفترض أن تنتقل نحو مستويات متقدمة من الدعم والإسناد، فالشعب الفلسطيني هناك يقف كالطود في مواجهة الاحتلال في ظل ظروف صعبة، وفي ظل اختلال هائل في قوة الحضور، حيث تستند الدولة العبرية الصهيونية إلى جبروت القوة العسكرية في الضغط على أبناء النقب والجليل.
ومع ذلك، فإن الشعب الفلسطيني الذي استطاع البقاء والثبات على مدى اثنين وستين عاماً داخل حدود فلسطين المحتلة عام 1948، حافظ على مساحات لا بأس بها مما تبقى من الأرض هناك، ويواصل الآن صموده الجبار متمسكاً بأرضه التاريخية وبحقوقه الوطنية، ومتضامناً مع باقي شعبه في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس والشتات.
mhalyan@albayan.a
صحيفة البيان الإماراتية