كما هو معروف بقي بعد النكبة في داخل حدود الهدنة عام 1949 حوالى مئة وخمسين الف عربي من الفلسطينين أبناء المكان. وقد بقوا لأسباب مختلفة تتفاوت بتفاوت زمان ومكان الاحتلال الذي تعرضت له القرى والبلدات العربية خلال حرب 1948. ويمكن القول بقدر من اليقين أن الأشلاء التي بقيت لم تشكل شعباً متماسكاً، بل تجمعات سكانية متناثرة، أو بقية من شعب شرد الى جهات الأرض الأربع. ما تبقى هو قرى وبلدات صغيرة ضعيفة اقتصادياً ومعزولة عن شعبها وأمتها، منشغلة بالبقاء وغير قادرة سياسياً وحضارياً على استيعاب التحولات الوجودية الكبرى التي عصفت بها. وغابت القيادة السياسية، لأن قيادة الشعب الفلسطيني التقليدية وغير التقليدية انتقلت الى المنافي بعد الشتات. وخلت فلسطين داخل خطوط الهدنة من الفئات المدينية والبرجوازية الصاعدة والطبقة الوسطى وكبار ملاك الارض؛ فما بقي هو ريف زراعي متناثر مشتت غير قادر على التواصل في غياب تكنولوجيا وسائل الاتصال، وفي غياب سوق عربية واقتصاد عربي، ولأنه مقيّد الحركة وخاضع لحكام عسكريين على مستوى البلدة والناحية والمنطقة.
مُنح العرب الباقون في الداخل المواطنة الإسرائيلية بعد انتهاء الحرب. وقد جرى هذا لأسباب مختلفة لا مجال للخوض فيها في هذه المقالة. وشكلوا في تلك الأيام 12,4% من المواطنين[1]. ثم شاركوا في انتخابات الكنيست الاولى عام 1949 بنسب عالية ازدادت في انتخابات عام 1951 مع استقرر الأوضاع اكثر قليلا.
من الواضح ان العرب اعتبروا التصويت شكلا من أشكال الولاء أو للدقة، التظاهر بالولاء للكيان السياسي الجديد الذي قام على أنقاض الشعب الفلسطيني. ومن نافل القول انه لم تنشأ أحزاب عربية، ولم يسمح بقيام أحزاب من هذا النوع في تلك الفترة. وقد توطّد نهج المشاركة والتصويت مع الزمن، خاصة ان الانتخابات كانت تجري مع انتخابات البلديات في اليوم ذاته. ثم بدأ الهبوط في النسب منذ ثمانينيات القرن العشرين.
شكّلت البنية الاجتماعية التقليدية التي ترسخ فكرة الانتماء الى العائلة الممتدة (العشيرة) والقرية والناحية التي يمثّلها زعماء محليون وسيطاً بين السكان من جهة، والدولة ممثلة في الحاكم العسكري وبالدائرة العربية في نقابة العمال العامة «الهستدروت» (التي كانت أكثر من نقابة وشكلت جزءاً رئيسياً من المؤسسة الحاكمة كقطاع اقتصادي واسع وكذراع استيطانية) ولاحقاً بمؤسسات الدولة المركزية من جهة أخرى. وتحوّل بعض هؤلاء الزعماء المحليين إلى نواب في الكنيست بعد أن استخلص مستعربو حزب العمل وأجهزة الأمن الإسرائيلية من هذه البنى الاجتماعية قوائم عربية مرتبطة بحزب العمل تخوض الانتخابات للبرلمان. ففي حينه لم تسمح الاحزاب الاسرائيلية بعضوية العرب فيها (وربما لم تتوقع أن يقبل العربي أن يكون عضواً فيها)، ولذلك أقامت قوائم عربية مرتبطةً بها تألفت من زعماء ريفيين تقليديين. وقام مستشرقو «الدوائر العربية» في الحزب الحاكم والهستدورت بتوزيع تلك القوائم على اساس المناطق: جليل، مثلث (ولاحقا النقب)، وعلى اساس طائفي أيضاً.
لقد انجب هذا النوع من الاتصال بين القيادات التقليدية والدولة الوليدة مطلب «قيادة الطائفة الدرزية» أن يخدم ابناؤها في الجيش. وقد طالبت قيادة الطائفة بتجنيد الدروز عام 1954، ولبى بن غوريون الطلب عام 1956. ومنذ ذلك العام وضعت سكة المسار الخاص بتطور هذه الفئة من العرب في الداخل بنتائجه الاجتماعية والسياسية الكارثية.
في تلك الفترة كان التصويت لتلك القوائم يعني التصويت للأحزاب الصهيونية التي رعتها، وبالأساس حزب «مباي» الحاكم الذي تحول فيما بعد الى حزب العمل. ولكن لم يكن غريباً أن نجد عرباً يصوتون بنسب مرتفعة للأحزاب الصهيونية مباشرةً، وحتى للحزب القومي الديني المتطرف «المفدال»، وذلك بموجب الوزارات التي يديرها الحزب الصهيوني، والخدمات التي يعد بها الزعماء المحليون ومقاولو الأصوات مواطنيهم في حالة التصويت لذلك الحزب.
في تلك الأيام كان الحزب الوحيد الذي يعلن عن نفسه أنه غير صهيوني هو الحزب الشيوعي الإسرائيلي الذي قام بعد الاحتلال مباشرةً نتيجة لدمج الشيوعيين العرب الذين بقوا داخل الخط الأخضر بالحزب الشيوعي الفلسطيني (PKP) الذي كان مؤلفاً من مهاجرين يهود. لقد اعترف هذا الحزب بدولة إسرائيل فور قيامها، وساهم أعضاؤه في ما يسمى «حرب الاستقلال»، أي حرب احتلال فلسطين. ووقَّع ممثله (مئير فلنر) وثيقة استقلال اسرائيل. ومع ذلك، وكجزء من الحركة الشيوعية العالمية، ظل هذا الحزب يعلن عن نفسه ايديولوجياً، أنه غير صهيوني، بل معاد للصهونية. مع أن تعريف الحزب في البند الثاني من دستوره يقول إن الحزب الشيوعي الإسرائيلي هو حزب الأممية البروليتارية والوطنية الإسرائيلية. وقد حصل هذا الحزب على 22% من أصوات العرب عام 1949 في مقابل 27% حصلت عليها الأحزاب الصهيونية، و51% حصلت عليها القوائم العربية المرتبطة بحزب العمل. وكان هذا بحد ذاته دليلا على أن عملية التصويت جاءت خوفاً أو قبولاً بالهزيمة. فمن يصوت لهذا السبب يفضل أن يعلن ولاءه للسلطة الحاكمة مباشرة وليس لمعارضيها.
اختفت القوائم العربية المرتبطة بالدولة نهائياً بعد نهوض الوعي الوطني، اي بعد يوم الارض في سنة 1976، ولم تتمثل في البرلمان في انتخابات 1981ولم تخض الانتخابات عام 1984. كانت الأحزاب الوحيدة التي تسمح بعضوية العرب فيها هي الحزب الشيوعي الاسرائيلي وحزب العمال الاشتراكي الموحد، «مبام» الذي مثل اليسار الصهيوني وكان شريكاً في الائتلافات الحاكمة منذ اليوم الأول. أما الحزب الشيوعي الإسرائيلي فقد ظل معارضاً مثابراً، وموالياً بشكل كامل للاتحاد السوفياتي. وقد نجح الحزبان باجتذاب أعداد من الشباب العربي المثقف.
وقد فرغت صفوف «مبام» بالتدريج من الشباب ذوي الحس الوطني. أما الحزب الشيوعي الإسرائيلي فقد ازدادت جاذبيته لهؤلاء الشباب أولا لأنه لم يُسمح بقيام أي حزب عربي وطني، وثانياً لأن الهوة في المواقف بين الاتحاد السوفياتي وقيادة الحركة الصهيونية اتسعت بالتدريج، ولأن تقارباً بين الاتحاد السوفياتي والتيار القومي العربي قد حدث في مرحلة الخمسينيات والستينيات. وقد أثر ذلك في النهاية مباشرة في الحزب الشيوعي الاسرائيلي بانشقاقه عام 1965 بين من انحازوا الى الوطنية الصهيونية وناقشوا الموقف السوفياتي، وأولئك الذين انحازوا الى الموقف السوفياتي الجديد خاصة في مرحلة التحالف مع عبد الناصر. لقد حظي هذا الشق من الحزب الذي سمي بداية «راكح» (القائمة الشيوعية الجديدة) بتأيد أوسع من المواطنين العرب، وازداد عدد العرب في صفوفه حتى شكلوا أغلبية اعضاء الحزب. ولا شك أن هذه الموجه دفعت بأعداد كبيرة في صفوفهم في ظروف غياب حزبهم. ولكن الحزب لم يحز أغلبية اصوات العرب وظلت تلك الأغلبية تذهب الى الأحزاب الصهيونية التي غلب في أوساطها عنصر البراغماتية والنفعية على عنصر الخوف حتى نهاية السبعينيات. (عام خاض الحزب الانتخابات في إطار تحالف واسع وحاز على نصف اصوات العرب[2].
وقد جرت في تلك المرحلة المبكرة، أي قبل عام 1967، محاولات عدة لإقامة تنظيمات عربية كانت أهمها محاولة إقامة «حركة الأرض» التي، خلافاً لما يعتقد، طلبت خوض انتخابات الكنيست، ولكنها مُنعت من ذلك، ثم حُلت كتنظيم، ومنعت حتى من تسجيل نفسها كشركة. وجرت محاولات أخرى لإقامة مؤسسات تحالفية تشمل حزبيين وغير حزبيين مُنعت هي الأخرى[3].
نهوض وطني
في سبعينيات القرن العشرين، بعد نشوء فئات واسعة نسبياً من المتعلمين والمثقفين، ونشوء تنظيمات طالبية وبعد أن تبلورت قيادات وطنية من مناطق مختلفة تواصلت وتعارفت كحالة اغتراب في إطار الجامعات الإسرائيلية، وبعد نشوء بدايات طبقة وسطى من المهنيين وصغار رجال الأعمال، راحت تتولّد حركات وطنية عربية منظمة ذات خطاب قومي عربي أو وطني فلسطيني. وإضافة الى الانتشار التدريجي للوعي الوطني بين هذه الفئات عبر السنين، والتجاوز التدريجي للخوف، لم يأت توقيت النهوض صدفة. فقد كان ذلك في فترة صعود الوطنية الفلسطينية بعد هزيمة 1967، وبعد اللقاء المباشر مع فلسطينيي الضفة الغربية وقطاع غزة، وبشكل خاص مع صعود منظمة التحرير الفلسطينية بقوة على الساحة الدولية بعد حرب 1973.
في هذه الفترة نشأت حركات عربية ذات طابع قطري (المقصود غير محلي) مثل «اللجنة القُطرية للطلاب الثانويين العرب» عام 1974، و«اتحاد لجان الطلاب العرب في الجامعات» عام 1975، ثم «الاتحاد القُطري للطلاب العرب» عام 1976. وهي الفترة نفسها التي شهدت قيام التنظيم العربي الأهم حتى ذلك الحين، وهو «لجنة الدفاع عن الأراضي العربية». والأخيرة كانت عبارة عن ائتلاف بين القوى الوطنية الصاعدة غير الحزبية والأعضاء العرب في الحزب الشيوعي الإسرائيلي في مرحلة النهوض الوطني. وانطلقت اللجنة بخطوات نضالية ضد الموجات الجديدة من مصادرة الأراضي العربية، وتوجتها بإعلان الإضراب العام في اليوم الذي أصبح يوماً للأرض في 30 آذار 1976.
كانت تلك الواقعة نواة ممكنة لتجاوز البعد المطلبي (حتى لو جمع الوطني بالمدني في حالة يوم الأرض) والتحول الى تنظيم وطني شامل للعرب في الداخل. ولكن اي تطور كهذا كان يتناقض مع الاستراتيجة المعلنة للحزب الوحيد فيها، اي الحزب الشيوعي الاسرائيلي. فتعرضت اللجنة لانشقاقات، ثم ضمرت، وانتهت تماماً بعد أن صُيِِّرت عضواً في تحالف جبهوي لدعم الحزب الشيوعي تدعمه في انتخابات الكنيست تحت المسمى الجديد «الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة»، («حداش»). فقد خرجت العناصر الوطنية منها وشكلت تيارات وأحزاباً جديدة.
ولذلك شهدت الساحة العربية ولادة حركات سياسية وطنية عربياً مثل «حركة أبناء البلد» و«الحركة التقدمية للسلام». ومن حيث الخطاب السياسي والمزاج الثقافي بشكل عام يمكن اعتبار هذه الحركات أكثر قرباً حركات اخرى مثل «فتح» و«الجبهة الشعبية» في ظروف المواطنة الإسرائيلية، مع التناقض الكبير الذي تحمله هذه السياقات. وقد خاضت «الحركة التقدمية للسلام» انتخابات الكنيست عام 1981 ولكي يسمح لها بخوض تلك الانتخابات تحالفت مع تنظيم يهودي صغير اسمه «ألترنتيفا» (البديل).
كانت هذه التلوينات التي تحولت فيما بعد إلى صراعات، هي الانعكاسات الأولى للواقع المركب للعرب في الداخل، والذي يقوم من حيث إنتاج حياته المادية بالمعنى الواسع للكلمة، في واقع إسرائيلي. ويشمل ذلك سبل المعيشة والحقوق السياسية مروراً بالتعليم والعناية الصحية والخدمات على أنواعها. ولاحقا نشأت تيارات سياسية عربية منظمة اكملت الطريق المنقطع للقوائم التقليدية المرتبطة بحزب العمل مثل «الحزب العربي» من جهة، و«التجمع الوطني الديموقراطي» الذي شكل صيغة منظمة للحركة الوطنية في الداخل بخطاب يميزها في ظروف الداخل من دون تبعية لقوى خارجية. كما نشأت «الحركة الاسلامية» في بداية الثمانينيات التي انشقت بدورها عام 1996 الى تيارين يشدد الأول على الإسلام كهوية اجتماعية تقليدية في إطار الاندماج في المجتمع والدولة في إسرائيل، ويؤكد الثاني على الإسلام كهوية اجتماعية، ولكنه يلتقي في الكثير من المواقف مع القوى الوطنية ضد الأسرلة.
الواقع المركب
من المتوقع في ظروف أبناء أقلية قومية يعيشون كمواطنين في دولة، حتى لو كانت دولة احتلال، أن ينشأ تيار قوي موال لتلك الدولة. وهذا الأمر صحيح تماماً إذا كانت الأقلية من السكان الأصليين الذين كانوا أكثرية وأصبحوا أقلية معزولة عن أمتها، وضعيفة اقتصادياً وثقافياً، ومن دون مراكز مدينية، ومرتبطة تماماً بالخدمات التي تقدمها الدولة، علاوة على سيطرة أجهزة الأمن والخوف منها. في مثل هذه الحال يُفرَز المجتمع بشكل واضح إلى قوى وطنية وقوى غير وطنية. ولا يصح في المرحلة الأولى تعريف غير الوطنيين كتيار أيديولوجي، خاصة أنهم يعكسون حالة اجتماعية لا تصاغ في الوعي إلا كمجموعة مخاوف ومطالب وتبريرات ووساطات. أما بعد أن تتوسع حقوق المواطنة، وتزداد الثقة في النفس، وتصبح الدولة المسيطرة أكثر انفتاحاً، بعد أن ترتفع نسب التعليم لدى الأقلية ويزداد معها الوعي السياسي، فإن التعبيرات عن الواقع المركب تصبح أكثر وعياً لذاتها كأفكار، وتتحول الأسرلة والتأسرل من حالة مادية وصيرورة واقعية تميّز الواقع المعيشي إلى تعبيرات على مستوى الهوية، وعلى مستوى الوعي السياسي.
فمع نمو الوعي الوطني نما وعي إسرائيلي حمله مثقفون، لا الزعماء التقليديون. وتطور هذا الوعي الإسرائيلي السياسي على درجات؛ فقد نجده يبرر الخدمة العسكرية أو الخدمة المدنية، ليس خوفاً كما كانت عليه الحال في السابق، بل للحصول على حقوق (بتقليص المفهوم الى خدمات) بثمن باهظ هو قبول مفهوم صهيوني للمواطنة في دولة يهودية. أو نجده يدخل في وعي قوة سياسية عربية معارضة لسياسات الحكومة، ولكنها معارضة كقوة اسرائيلية، وتعتبر نفسها قوة سلام إسرائيلية، أو جسراً للسلام مع الدول العربية والفلسطينية وهكذا.
وما ان اخترق الواقع الإسرائيلي الوعي العربي في الداخل على شكل واقعية سياسية واعية لذاتها، حتى راح يتدرج من تقمص كامل لشخصية «الإسرائيلي من أبناء الأقليات» الذي لا يتورّع عن الانضمام إلى حزب الليكود وغيره، والى «العربي الإسرائيلي» الذي يغادر حزب العمل ويقيم حزباً عربيا،ً ويتصرف تماماً بموجب قواعد اللعبة الإسرائيلية، ويحاول إثارة إعجاب الإسرائيليين بتقليده شخصية الإسرائيلي، فضلاً عن اعتداله وواقعيته، ويتبنى تصنيفهم للعرب بين معتدلين ومتطرفين وما إلى ذلك.
زادت «مسارات» السلام العربية من تركيب هذا الواقع في الداخل. فمن ناحية أصبح في الإمكان أن يتساوق العربي مع النظام الحاكم في إسرائيل، وحتى مع أجهزته الأمنية، وأن يجد مع ذلك أنظمة عربية ترعاه أو تحتضنه باعتباره معتدلاً. وأصبح من يعارض سياسات الاحتلال الاسرائيلي أو يرفض يهودية إسرائيل أو يطالب بحق العودة للاجئين الفلسطينين يعتبر، بأعين إسرائيلية، أكثر تطرفاً من بعض الدول العربية، بل يعتبر متطرفاً بأعين هذه الدول أيضاً.
من ناحية أخرى، وفي مقابل هذه التركيبة والتشويه، نشأت الحاجة الى فكر وطني يعيه ويتعامل معه. ومن هنا نشأ تيار وطني عربي يعمل في هذه الظروف المركبة، ويعي أن لا بد من أن يتعامل مع الواقع المركب لمجتمعه على مستوى الحياة اليومية وعلى مستوى الوعي. ومن هنا نشأت المحاولة للجمع بين فكرة المواطنة المتساوية المتناقضة مع الفكرة الصهيونية والوعي الوطني الفلسطيني والوعي العروبي في تركيبة عربية ديموقراطية لا زالت فريدة إلى حد بعيد.
هل يمكن أن يشكّل المواطنون العرب في الداخل حالة سياسية في هذه الظروف المركبة؟
لم تكن المؤسسة الصهيونية ذات الخبرة الواسعة في التعامل مع عرب الداخل غائبة عن تركيب الصورة أعلاه. وهي لا تدركه فحسب بل تؤثر فيه بشكل فاعل عبر سياساتها وعبر إعلامها، ومن خلال مناهج التدريس، وبواسطة احتواء النزعات النقدية في إطار المؤسسة، وعبر التعيينات والوظائف والميزانيات والخدمات وغيرها. وقد طوّرت المؤسسة الإسرائيلية تعاملها مع العرب وفقاً للمرحلة. فقد أبطلت الحكم العسكري عام 1966، وفتحت الأحزاب الصهيونية المجال لعضوية العرب بالتدريج، وبدأت في اتباع سياسات توسع هامش النقد وحرية التعبير، وتعترف حتى بوقوع تمييز حق المواطنين العرب. وفي عام 1974 ـ 1975 وفي مواجهة لجنة الدفاع عن الأراضي العربية بادرت الدولة (ممثلة في حينه بمكتب مستشار رئيس الحكومة لشؤون العرب) بجمع رؤساء البلديات والسلطات المحلية العربية كقيادات معتدلة. وما لبثت أن تحولت هذه القيادات إلى جسم دائم يفاوض الدولة على الميزانيات الممنوحة للقرى والمدن العربية وعلى سياسات التخطيط والبناء. وينتخب غالبية هؤلاء على أساس محلي أو عشائري. وقلما ينتخبون على أساس حزبي، أو موقف سياسي. ولذلك فهم لا يشكّلون حالة سياسية قُطرية. أما الأحزاب السياسية العربية، أكانت عربية وطنية أو عربية إسرائيلية (بالمعنى الحرفي للكلمة)، فتتنافس تحت سقف البرلمان الإسرائيلي وبموجب قواعده. ولا يوجد سقف وطني يجمعها، ويضع قواعد بالمسموح والممنوع. وقد يصل التنافس في الكنيست حد التآمر بمحاولة إثارة إعجاب المؤسسة الحاكمة والإعلام الإسرائيلي على حساب القوى الوطنية، وتقديم تنازلات سياسية لقاء خدمات، أو يصل حد التحالف مع القوى الصهيونية ضد القوى الوطنية المنافسة.
هذا الجمع بين أحزاب عربية متنافسة في البرلمان الإسرائيلي من جهة ولجنة رؤساء بلديات من جهة أخرى لا يشكل كياناً سياسياً ينظم شعباً. ومن هنا فإن الهيئة التي قامت عام 1981 من هذا المزيج، وسمّيت «لجنة المتابعة لشؤون المواطنين العرب»، على أهميتها وضرورة الإصرار على وجودها، لم تنجح في أن ترتقي إلى درجة أعلى من لجنة تنسيق. وقد احتدم في داخلها خلاف بين القوى السياسية التي ترغب في الارتقاء بها إلى هيئة وطنية تُمثل شعباً (الحركة الإسلامية ـ التيار الشمالي والتجمع الوطني الديموقراطي) من دون أن يتناقض ذلك مع حقوق المواطنة، وبين تيار أكثر تأكيداً على الاندماج في البنية السياسية للدولة اليهودية وفي الخريطة السياسية الإسرائيلية، ويخشى أن يُفسّر التنظيم الوطني الشامل للأقلية العربية كنزعة انفصالية، وما زال هذا النقاش دائراً. وقد احتدم هذا النقاش عندما طرحت القوى الوطنية (التجمع تحديدا) منذ عام 1998 أن الطريق الوحيد للارتقاء بعرب الداخل إلى حالة شعب منظم هي ايجاد سقف وطني يجري التنافس تحت ظله من خلال انتخاب المواطنين العرب لجنة المتابعة انتخاباً مباشراً على أساس ميثاق وإعلان مبادئ تقبل بهما التيارات المتنافسة وتقصي الأحزاب الصهيونية. وإلى أن تحسم تلك المسألة لا يشكل العرب في إسرائيل كياناً سياسياً يبلور إجماعاً، أو حتى أغلبية وأقلية ديموقراطيَتَيْن. وتظل القوى السياسية منقسمة بين قوى تتجه نحو الأسرلة بشكل مطردّ، وثانية تبلور طريقاً يجمع بين مطالب المواطنة الديموقراطية والحفاظ على الهوية الوطنية والقومية، وثالثة تبحث عن توازن بين الواقعية المعيشية وسياسات هوية دينية الطابع.
التصعيد الإسرائيلي اليميني الراهن
كتبنا في مواقع عديدة عن النزعة الإسرائيلية الدائمة للانزياح نحو اليمين منذ عام 77 فصاعداً. لقد رافق هذ العملية «لبرلة» اقتصادية وسياسية وتوسع للطبقة الوسطى وحقوق المواطن. ونال العرب في الداخل قسطاً من ارتفاع مستوى المعيشة الناجمة عن هذه التطورات، وقسطاً من الحقوق السياسية الناجمة عن توطد عملية بناء الأمة والمؤسسات وتمايزها. لكن العقد الأخير راح يشهد ردةً يمينيةً للتضييق على الحريات ولقمع القوى الوطنية التي «استغلت» هامش الحرية المتاح كي «تتجاوز جميع الحدود» بحسب اليمين الصهيوني. وتحمل بعض القوى الصهيونية الليبرالية الوعي الوطني العربي المسؤولية عن «ردة الفعل اليمينية المتطرفة». والحقيقة أن من السخافة قصر هذه التطورات على «ردة فعل». فهي تعكس تطوراً تدريجياً مستمراً نحو اليمين منذ احتلال عام 1967 حتى فترة الانفتاح الليبرالي داخل المجتمع اليهودي. والحقيقة أن التشريعات والقوانين الإسرائيلية الاخيرة تحمل قدراً من ردة فعل على الوعي الوطني والثقة بالنفس عند قيادات وطنية عربية صاعدة. ولكن كان من الممكن أن تبقى ردة الفعل هذه هامشية في أحزاب يمينية متطرفة تعمل على هامش الخريطة الحزبية الإسرائيلية. ولكن التشريعات اصبحت ممكنة نتيجة تحول هذه الاحزاب إلى أحزاب حاكمة قادرة على سن القوانين. وهو وضع ناجم عن تطورات لا علاقة لعرب الداخل بها، ولا يمكنهم أصلاً التأثير فيها. إنه واقع تغلعل الثقافة الاستيطانية والدينية في قطاعات واسعة من المجتمع.
أما الصلف الاسرائيلي الذي تجسده الدعوات العنصرية لطرد العرب وغيرها، فهو يعبر عن غرور ناجم عن عدم وجود أي تهديد عربي أو دولي، وبالتالي غياب أي إلحاح على التوجه نحو «الاعتدال». فالتيار الصهيوني»المعتدل» هو الذي يسعى، بنظر الاسرائيليين، للتفاهم مع العرب، أو مع دول العالم. ولا وجود لتهديد عربي أو دولي يحتم على الاسرائيلي الدفع بقوى قادرة على التفاهم. فتاريخياً كان هنالك شعور بالتهديد، وقاد المجتمع الاسرائيلي تلك القوى، وهي التي كانت دائما القوى نفسها القادرة على إعلان الحرب على العرب أيضاً.
إن انزياح المجتمع الاسرائيلي نحو اليمين الديني والعلماني على حد سواء هو نتاج عملية طويلة من فقدان اليسار الصهيوني قوته ونفوذه وقواعده الاجتماعية. وقد كان هذه اليسار حاكماً ليس كتيار يستوطن ويبني مؤسسات الدولة ويعلن الحرب فحسب، بل كتيار يدّعي انه يريد السلام مع العرب في الوقت نفسه. ومنذ أن زال أي خطر أمني على إسرائيل اصبح اليمين الاسرائيلي الحاكم هو الأكثر ثقة بالذات والقادر على التحالف مع هوامش اليمين الاسرائيلي المعادية علناً لأي سلام مع العرب، الرافضة لأي مظهر او ادعاء للتسامح والديموقراطية وحقوق المواطنة للعرب في الداخل. وحالما يتضح ان الممارسات والقوانين العنصرية «تلحق الضرر بصورة إسرائيل في «الخارج» (أي في الغرب)، باعتبارها «دولة ديموقراطية» يجري تجميد القوانين وينضم حتى نتنياهو الى إدانة بعض التصريحات العنصرية حين ينفلت الجنون تماما... وذلك كله لاعتبارات لا علاقة لها بالسلوك السياسي لعرب الداخل.
في هذه الأثناء، ومنذ عام 2000 بشكل خاص، تميّز المؤسسة الاسرائيلية عملياً بين قوى سياسية عربية تضعها في مصاف الأعداء، وقوى أخرى تعتبرها معارضة إسرائيلية عربية شرعية. إن شعباً يريد الحياة يرد على مثل هذه المحاولات بمواقف وحدة وطنية. ولا يكون الرد على هذه الموجة العنصرية بالعودة الى التزلف والتأكيد على الاعتدال في مقابل التطرف، ونيل الرضى والإعجاب، وبتفتيت اي امكانية لنشوء حالة سياسية غايتها ايجاد قبول لدى المؤسسة الاسرائيلية، بل بالإثبات ان التخويف لن ينفع وأن المواطنين العرب في الداخل قد تجازوا حالة الخوف. فالإصرار على أسرلة الوعي والتأسرل السياسي لا يشجع اليمين على المضي في سياسته العنصرية التحريضية فحسب، بل يجني على أبناء شعبه من الوطنيين أيضاً، اذ يجعلهم يظهرون كمتطرفين حتى لو كانوا الاكثر اعتدالا، قيماً وسلوكاً.
[1] على الرغم من نسب الولادة المرتفعة نسبيا، وبعد اكثر من ستين عاماً ارتفعت نسبة العرب 7% فقط. لأن اسرائيل دولة هجرة تمدها بموجات من الزيادات السكانية على الرغم من الهجرة المعاكسة.
[2] فقط بعد قيام أحزاب عربية منذ الثمانينات اصبحت هنالك اغلبية تصوت للأحزاب العربية. وصار الحزب الشيوعي بمسماه الانتخابي (الجبهة الديموقراطية للسلام والمساواة) يعتبر احد هذه الأحزاب العربية، على الرغم من معارضة هذا التصنيف.
[3] تأسست حركة الارض سنة 1959. وأعلنت عن قيامها رسمياً عام 1964 تحت اسم حركة الارض، وطلبت تسجيلها كحزب سياسي. ورفض الطلب. وأصدر ليفي إشكول رئيس الوزراء أمراً بحل حركة الأرض واعتبارها خارجة على القانون.
المصدر: مركزالزيتونة -عزمي بشارة-