عبد الحفيظ عركة – الكابري
عبد الحفيظ عركة من موالد عام 1930، والده اسماعيل عركة، ووالدته زهية بلقيس، من قرية الكابري قضاء عكا. كان لي أخت ماتت وعمرها 14 سنة.
بلغ عدد سكان القرية بين 1500-2000 شخص، هي بلد كبيرة، والجيران كلهم في المناسبات كانوا يجتمعون ويتعاونوا في ما بينهم. وهناك عائلتان بيت سرحان وبيت الشاذلي وهما كبيرتان ولهما أرزاق واسعة.
تبعد الكابري عن البحر حوالي 5 كلم أو أكثر قليلاً، الزيب ونهاريا عالبحر، وأرض كابري كانت تزرع قمح وشعير.
حدود القرية هي الفاسية، الريّس، النهر، والمسافات بينهم قريبة، والشيخ داوود ودندون، ثم عمقا والزيب قريبة أيضاً، والبصة وهناك بساتين مشتركة بينهم. وفي الكابري هناك عينان، عين العسل تدخل البلد، ومياه العين جيدة كانت تصدر لبريطانيا.
ويقول الحاج عبد الحفيظ، «بيتنا كان بمدخل الكابري، ولدي جدة اسمها هند وهي قابلة قانونية، تخلف نساء البلد وهي لا تأخذ نقود من أحد كل أهل البلد كانوا يُقبلون يدها ويدعونها باسم ست أم إسماعيل».
«كانت أحوال بيت جدي المادية جيدة. وجدي أحمد عنده اثنين من الابناء هما عمي صالح وأبي إسماعيل، ولا يوجد بنات. وكان يعمل بالزراعة، وهناك بساتين من الليمون والبرتقال، والخضار مثل الخيار والبندورة....».
«كنا عايشين في بيت لوحدنا ولكن بجانب بيت جدي. وقد عمّ بيتنا بناؤون جاؤوا من صفد، وعمّروه من الحجر والباطون. وكان دار كبيرة وسدة. بيوت الكابري كانت قريبة لبعضها، البلد عبارة عن حارات قريبة من بعضها، وساحة الحارة عندنا مكان للتواجد ويقام فيها الأعراس».
مختار الكابري كان من بيت الصفدي وإسمه مرشد الصفدي.
والدي فكان يزرع البرتقال والحاض، قصب السكر، القمح والذرة والشعير والزيتون، وكنا نشبل الدخان ويأتي أهل ترشيحا لأخذ الشتلات وزرعها، عمي كان له عمله الخاص بالبساتين والزراعة. كان عمي عنده بنت رشدية بعمري، ونحن أخوة بالرضاعة أنا وهي، وولد توفي إسمه توفيق وعنده داوود وأحمد».
وكان والد عبد الحفيظ قد أخرجه من المدرسة وعمره 12 سنة ليساعده في الزراعة، فكان يحتاج الى من يذهب إلى حيفا لنقل المحاصيل. ويضيف الحاج «كنت الأول بالمدرسة، وكنت متفوقاً كثيراً، وأذكر من الأساتذة عبد الرؤوف العبوسي، وديب من نابلس. والمدرسة كانت تحوي على صفوف، ويذهب الابناء إليها عندما يصبحون في السادس من عمرهم. حيث أني وصلت للصف الرابع، ومن كان يريد أن يكمل تعليمه كان يجب أن يخرج إلى عكا أو القدس لإكمال تعليمه. كانت كرة القدم هي لعبة الأولاد».
أذكرمن أصدقائي، أحمد خليفة، محمود الأنس، إبراهيم قدورة، ومحمد جوهر، ومعظمهم ماتوا، لكن أحمد خليفة الصفدي ما زال حيّ يرزق.
البلدة فيها الحارة الغربية، ومدخل الكابري من بيت دغيم (فوق الحارة)، عائلة الأشوح من جيراننا، وكذلك بيت علي عويدي، وبيت سرحان، وبيت مرعي. أما الديوان لم يكن هناك مضافات كبيرة، كان الضيف وأبناء البلد يستقبلون بعضهم في البيوت.
سيارات كانت تدخل الى البلد وإلى الحارة وبيت سرحان. وهناك سيارات لنقل الخضار إلى عكا وحيفا. كان في باصات من ترشيحا للتنقل على الشارع الرئيسي. وهناك سيارات أجرة أيضاً من عكا. شوارع البلد مبسطة ولكنها ليست مزفتة، ولم يكن هناك تجمعات لليهود قرب الكابري.
لا أذكر وجود الآثار، ولم يكن هناك كنيسة بالبلد، أما المساجد كانت الزاوية، وهناك مسجد فوق العين ولكنه لم يتمم بنائه. كانت الناس تصلي بالزاوية، وأساتذة المٍدرسة هم من كانوا يخطبوا خطبة الجمعة. أعرف منهم عبد الرؤوف العبوسي وهو شيخ كان يؤم بالناس.
كان في مدرسة واحدة ولكن البنات لا تذهب اليها، والبلد لم فيها أطباء ولا عيادات. من يريد الطبابة يذهب الى عكا أو نهاريا. أو إذا كانت حكمة عربية خفيفة كانت تحصل بالبلد.
جدتي كانت الداية الوحيدة بالبلد، ولكن عندما خرجنا إلى لبنان، أمي وزوجة عمي تعلمت من أمي، وأصبحوا دايات بلبنان.
أما المطهر يحضر من خارج البلد.
أما الماء كانت الناس تعبي بالجرّة من العين، ومن هو بعيد عن العين مثل دار سرحان عندهم دابة لحمل الماء عليها. هناك فقط بركة ماء (من العين) كان الناس يسبحون فيها. وكانوا يضعون البطيخ بالنبعة نصف ساعة لتصبح باردة جداً.
أما الإنارة تتم باللوكس ولم يكن هناك كهرباء.
المحال والحرف
كان في دكاكين بالبلد، أذكر ابن مرشد (توفيق)، كان في 3 – 4 دكاكين. الدكاكين فيها أشياء بسيطة مثل الفستق.
كان في ملحمة عند بيت نور الدين مرعي وأبوه وأخوه كلهم كانوا لحامين، كانوا يذبحوا ماعز وغنم وبقر، وما يتم شرائه يدُفع ثمنه نقداً. لم يكن هناك أفران، والنساء تخبز على الصاج. وكان يوجد قهوة بالساحة لبيت دغيم أرضها. وفي العام 1936 صار هناك في راديوهات في البلد. كان توفيق مرشد هو حلاق البلد وأشخاص آخرين، مثل من عائلة الأشوح.
أما النجار فكان خليفة الصفدي، وكان في واحد من قانا وسكن بالكابري كان يعمل حداداً في القرية، وفيها أيضاً مبيّض يأتي من الخارج، وكان يأتي ناس من خارج البلدة للفلاحة والحصاد ومعظمهم من جنوب لبنان.
بالنسبة لعصر الزيتون، بالأول كان هناك معصرة والخيل تديرها، ثم بين التربة والبلد عملوا معمل (بابور) للعصير. والزيتون كان كثيراً. أيضاً كان يوجد تربية نحل بالبلد، واختص بيت بلقيس (أقرباء والدتي) بهذا العمل، إذ كان عندهم منحلة لكنها لم تكن تصدر المنتوجات لخارج البلد.
«قبل خروجي من فلسطين كان عمري 18 سنة، كنت أراقب الرزق في حيفا، أذهب إلى حيفا، أحياناً كنا ننام بحيفا بالحسبة وأخرى بالأوتيل، ثم نرجع بالشاحنة».
المناسبات
أما رمضان فكان جميل جداً، الاهالي تهتم بالصيام والأولاد كذلك كانوا يتسابقون على الصيام، وقبل العيد كان الناس يصنعون الكعك والحلويات في منازلهم.
وفي ذكرى المولد كانت الناس تذهب إلى عكا - الزاوية للإحتفال فيها. والزاوية بعكا غير الزاوية عندنا من حيث المساحة الكبيرة ويأتيها أناس من سوريا (الشاذلية) وكان لهم وزن.
النكبة والخروج
أيام الاحتلال البريطاني كنت طفلاً أسمع عن البريطانيين، أذكر في أحد المرات هربنا وخرجنا خارج البلد الى الجبل، والطيران البريطاني كان يضرب البلد. كنا نلتقي بالثوار، كان عدد كبير من الثوار من أهل الكابري بالثورة وبالقيادة، مثل بيت الدليل وعيد ونمر حمّاد.
أما في 1948، وما حصل قبل المعركة كان اليهود يحاصرون بعض القرى، كان عدداً من أبناء القرية ذاهب إلى حيفا، فقام اليهود بقطع الطريق عليهم بجانب نهاريا قبل وصولهم وأنزلوهم إلى الأرض ومن ثم أطلقوا النار على 10 اشخاص ماتوا على الفور، وذهبنا وحضرنا العزاء. وبعد ذلك بمدة، غادر اليهود الى حانوتا قرب حدود لبنان، وكانت بريطانيا تمونهم في ذلك الوقت. ولكن لا أحد كان يتعاطى معهم لا من الصبة ولا من الزيب، وعندما أرادوا بناء مستعمرة بجانب ترشيحا بجدّين، كان في شخص من بيت يعقوب نازل على الدابة للسقاية، ونحن جالسون في الساحة، فقال شفت اليهود، وكان معنا أشخاص من جيش الإنقاذ من الأردن وضابط أردني، فقلت له "في قافلة يهود طالعة لم لا نهاجمها، فقال الضابط لا يوجد أوامر لفعل ذلك، فقلت له نحن لا ننتظر الأوامر، فذهبنا الساعة 1:30 وعندما أطلت القافلة من النهر، بدأنا برمي قنابل عليها، فطلع الجيش البريطاني لحماية القافلة، ولكنهم بعد ذلك عادوا إلى مستعمرتهم وأصبحوا يضربون بالمدفعية علينا.
بعد ذلك صار يأتي الثوار من ترشيحا، ومن القرى المجاورة، بدأت المعركة الساعة 1:30 وإنتهت الساعة 7:30. في اليوم التالي أتت الحكومة البريطانية لتستلم 89 جثة من اليهود.
وواحد فلسطيني استشهد آنذاك، كان هو في كفر ياسين يسقي الزرع وأراد الإختباء، فأطلق اليهودي النار عليه، وهو أحمد حسن كان معه جمال. أنا كنت بالمعركة وقلت للضابط نريد الهجوم.
كان هناك 7 دول عربية يؤمرون من السفير البريطاني بيروت، وهذه الدول جعلوا الملك عبد الله مسؤول جيش الإنقاذ.
كان جيش الإنقاذ يدخل القرية يُخرج الناس منها واليهود وراءهم يطلقون النار ويدخلوا البلد، وجيش الانقاذ لم يطلق طلقة واحدة لأن الملك عبد الله كان يمنعهم، فتم تسليم فلسطين لليهود بسهولة.
السلاح كنا نشتريه 40 –50 ليرة سعر البارودة الواحدة، جئت مرة إلى بيروت (شمة هواء بعد المعركة) أُخبرنا بأن صفد سقطت.
سبب خروج الناس من الكابري، وصل اليهود الى البلد، وأطلاقهم النار على الرجال الكبار بالعمر والصغار. في ذلك الوقت كان نحن في بلدة بجويا جنوب لبنان.
خرجت أنا ووالدتي وأخوتي من الكابري، اما والدي فلحق بنا بعدها بمدة. والدي بقي ليرعى الرزق، ولكن عندما ساءت الأوضاع خرج والدي.
غادرنا الكابري بسيارة من البلد، ووصلنا إلى صور ثم إلى جويّا، إخترنا جويّا لأنها قريبة إلى فلسطين على أمل العودة قريباً.
لم نحمل سوى أشياء بسيطة من فلسطين، مثلا الملابس. جدي أيضاً جاء إلى لبنان، وتوفي في نفس السنة عام 1948، وجدتي سابقاً توفت 1939 قبل النكبة. أيضاً عمي وأولاده طلعوا لوحدهم من الكابري، إلتقينا بهم هنا في مخيم برج البراجنة. عدت أنا والشيخ مرعي إلى ترشيحا، بعد الخروج من لبنان، ولكننا لم نذهب الى البلد لأن اليهود هدموها بأكملها.
خالي ناجي بلقيس، هو وأولاده (3 أولاد) وأمه بترشيحا، ضرب الطيران هناك، ماتوا، وبقيت بنت واحدة عايشة قامت والدتي بتربيتها.
عندما ذهبنا إلى جويّا، بقينا هناك لغاية سنة 1948 تركناها وجئنا على منطقة برج البراجنة وعشنا في شوادر، وأنشأ مخيماً صغيراً بعدها.
سنة 1951, كان الهبري سفير بالأرجنتين (سعيد الهبري)، قلت له سيّد سعيد أريد أن أطلب منك طلب، نريد أن نأخذ بعض الناس الى مخيم البرج، وأخذني على المحكمة العدلية، كان جورج خيمري المسؤول عن الموضوع، فساعدنا وأخذنا كل الناس الذين كانوا معنا الى المخيم.
إذا فتحوا الطريق لفلسطين، اكيد برجع على بلدي الكابري، حتى ولو كانت مدمّرة، بتتعمّر.
لا زلت اذكر الكابري كما كانت. وأذكر عيشتنا الجيدة والطيبة.