في ذكرى النكبة: مريم سرحان.. 86 عاماً من ذاكرة التاريخ الفلسطيني
14/05/2012
ولدت مريم لأسرة كبيرة في قرية التينة الفلسطينية الواقعة إلى الجنوب الغربي من مدينة الرملة.
فتحت عيونها على الدنيا لتشهد على سنوات تعد الأقسى في التاريخ الفلسطيني، فقد عاشت مريم في قريتها وشهدت أواخر حقبة الانتداب البريطاني لترى بأم عينها بل لتعاني من بطش القوات الإنجليزية التي جربت كل الطرق ومارست كل أشكال القمع والإذلال بحق الشعب الفلسطيني أواخر عهدها لتمهد لقدوم المهاجرين اليهود وتوطد الأسس لدولة يهودية على أرض عربية.
مريم اليوم وقد جاوزت عامها السادس والثمانين مازالت تذكر قريتها التي اقتلعت منها في العام 1948 بل وتذكر تفاصيل الحياة هناك بحلوها ومرها منذ طفولتها المبكرة.
"كنت في حوالي الثامنة من عمري عندما بدأ والدي والذي كان معروفاً في القرية باسم الشيخ يوسف بالعمل مع مجموعة من رجال قريتنا وعدد من القرى المجاورة بتنظيم أنفسهم في مجموعات وجمع ما يستطيعون جمعه من السلاح لمقاومة اليهود في بداية هجرتهم إلى فلسطين، فقد كان عدد من المهاجرين اليهود يقيمون في قرية ذنبة القريبة من قريتنا، وكان في تلك القرية (كبانية) لليهود (والكبانية هو الاسم الذي كانت تعرف به المستعمرات اليهودية في ذلك الوقت)، كان أبي ورفاقه يدركون أن ما يحدث ليس شيئاً عادياً، وكانوا يعلمون أنهم إذا لم يقاوموا تلك الجماعات القليلة من اليهود أن الأمر سيزداد خطورة وأنهم سيفقدون فلسطين إلى الأبد".
كان الشيخ يوسف في ذلك الوقت يجمع أصحاب الحمية والغيورين على أرضهم من شباب القرية ورجالها، وكان ينظمهم ليشكلوا مجموعة تغير على المهاجرين اليهود في الكبانية المجاورة، وتدمر كل الممتلكات اليهودية هناك ليدب الرعب في قلوبهم ويرحلوا عن الأرض عائدين من حيث جاءوا.
في ذلك الوقت كان عدد المهاجرين اليهود الذين يقيمون في فلسطين قليل جداً، لكنهم كانوا يسيطرن على بعض القرى ويعملون على التوسع في فلسطين وتوسيع ممتلكاتهم من خلال شراء العديد من الأراضي والسيطرة عليها بمساعدة الإنجليز.
"بالإضافة للمستوطنين الذين كانوا يقيمون في قرية ذنبة، كان يأتي عدد من اليهود إليها كل يوم سبت للاستجمام وقضاء العيد اليهودي هناك ثم يعودوا ليكرروا الزيارة كل سبت، وكانت ترافقهم دبابة لحمايتهم، في ذلك الوقت كان أبي قائداً للمجموعة التي تحارب اليهود بكل ما أوتيت من قوة، وكان يعمل بالتعاون مع قائد آخر يدعى شاكر عبد العزير في قرية جليا القريبة من قريتنا".
"كانوا يترصدون تحركات اليهود ويراقبوها ثم يخططوا للعمليات ضدهم وينفذوها، فكانوا يتتبعون اليهود الذين يأتون كل سبت إلى قرية ذنبة، وفي أحد الأيام قاموا بنصب كمين لمجموعة من اليهود بعد وصولهم إلى ذنبة وزرعوا ألغام في الطريق لتنفجر فيهم وهم في طريق العودة عل هذا من شأنه أن يجبرهم على الرحيل عن الأرض، وإنهاء أطماعهم التوسعية فيها، وفي طريق عودة المجموعة اليهودية آخر النهار انفجر اللغم فيهم، رأيت ذلك المشهد بأم عيني ولا يمكن أن يغيب عن ذاكرتي طيلة حياتي، فقد ارتفع الباص الذي يقلهم حوالي مترين للأعلى من شدة قوة الانفجار ثم هوى إلى الأرض وتناثرت أشلاء كل من يستقلونة في كل المنطقة المحيطة، والتهبت النار في الباص".
"بعد ذلك الانفجار المدوي قام الجنود الذين يستقلون الدبابة بالذهاب وإحضار المساعدة وبدأوا بلملمة الأشلاء المتناثرة ووضعها في أكياس ثم ذهبوا دون أن يقوموا بعمل أي شيء وحتى دون أن يردوا على ما حدث لأن قوتهم في ذلك الوقت كانت ضعيفة وكانوا يستنجدون بالقوات البريطانية في كل صغيرة وكبيرة".
كانت قوات الانتداب البريطاني لا تتقاعس عن تلبية نداء اليهود، وكانت تدافع عنهم بكل ما أوتيت من قوة، فقد كانت تجهز لقيام دولة يهودية على أرض فلسطين، وتعمل على تدعيم قوة اليهود وتعزيزها ليبسطوا سيطرتهم على الأرض التي وعدهم بها وزير الخارجية البريطاني بلفور متجاهلا الشعب الذي يقيم فيها.
"بعد حدوث الانفجار كان الجواسيس والعملاء من قريتنا وغيرها من القرى قد ذهبوا للإنجليز وقالوا لهم أن الشيخ يوسف ومجموعته هم من قاموا بتنفيذ التفجير، وفي صبيحة اليوم التالي جاءت قوة كبيرة من الانجليز مدججة بالسلاح ومعهم عدد كبير من الدبابات عدا عن قوات الخيالة واقتحمت القرية، وكنا نقيم على أطراف القرية عند أراضينا وبياراتنا، فقامت القوات الإنجليزية باقتياد جميع العائلات التي تسكن على أطراف القرية إلى داخلها، وهناك قاموا بفرز الرجال في مجموعة والأطفال والنساء في مجموعة أخرى وكبار السن في مجموعة ثالثة، كان ذلك اليوم من أصعب الأيام التي عشتها حيث قاموا بحجز الناس تحت أشعة الشمس طوال النهار، وتم إيقافهم ساعات طويلة دون راحة فكان الأطفال يبكون من التعب والجوع دون أن يستجيب أحد لهم".
وبعد يوم كامل من احتجاز أهالي القرية قامت القوات الإنجليزية بأخذ جميع شباب القرية وزجوهم في السجون، كانت تلك الأيام من أصعب الأيام التي مرت على أهالي القرية فبدأت النساء والأطفال بالبكاء، وظن الجميع أن القوات الإنجليزية ستقتل كل الشباب، لكنها قامت بحبسهم في المعتقلات الانجليزية في حيفا ويافا، وتم الحكم عليهم بالسجن لفترات مختلفة فمنهم من حكم بالسجن مدة ثلاث سنوات ومنهم من حكم مدة خمس سنوات.
في تلك الفترة كان الانجليز يحكمون البلاد بالحديد والنار لتثبيت أساسات الدولة اليهودية فلم تكن القوات الانجليزية تتهاون مع الفلسطينيين، ولم تكن تتردد في تنفيذ أي أمر من شأنه أن يحد من حريتهم ويكسر شوكتهم لتمهيد الطريق للدولة اليهودية المراد إقامتها على الأرض الفلسطينية، فكانت لا تتوانى عن قمع الثوار بل كانت تتخذ بحقهم أقسى أنواع العقوبات، فكان الإنجليز آنذاك يصدرون الحكم بالإعدام على كل من يوجد بحوزته سلاح حتى لو كانت رصاصة واحدة.
"لم يتمكن الانجليز من اعتقال أبي أثناء عملية مداهمة القرية فقد كان محتاطاً إذ اختبأ عند رفيقه قائد الثوار في جليا، عندها جن جنون الإنجليز وبدأوا بالعمل على قدم وساق في البحث عن والدي قائد الثوار حتى يعتقلوه ويكسروا شوكته وربما ليقتلوه ويجعلوه عبرة لمن يعتبر ليقطعوا الطريق على كل من يحاول أن يقاوم الوجود اليهودي في فلسطين، ولكنهم كانوا يفشلون كل مرة في إلقاء القبض عليه".
"كان الثوار في قريتنا قد أخذوا على عاتقهم أن يحاربوا اليهود في فلسطين ويقتلوهم أينما ثقفوهم، فبالرغم من ملاحقة الإنجليز للثوار إلا أنهم لم يكفوا عن تنفيذ العمليات ضد اليهود الموجودين في الكبانية اليهودية الموجودة في قرية ذنبة والتي لم تكن تبعد الكثير عن قريتنا، وكان عدد من اليهود يعملون على بناء قوتهم وتجهيز أنفسهم لإقامة قوة عسكرية تستطيع ردع الثوار والقضاء عليهم، فقد كانوا يقيمون تدريبات بالقرب من كبانية ذنبة، وكانوا يرتدون زي عسكري ليتأهبوا لمحاربة الثوار، وكان بحوزتهم ثلاث سيارات فيها معدات قتالية وأسلحة".
جمع الثوار جموعهم من جديد وأغاروا على اليهود الذين يتدربون قرب الكبانية وباغتوهم في عملية نوعية، فقتل منهم من قتل وتمكن بعضهم من الهرب والاحتماء بكبانية ذنبة، وتمكن الثوار من نهب محتويات السيارات من أسلحة ليشكلوا بذلك ضربة موجعة لليهود والإنجليز الذين يقفون خلفهم ويشدوا على أياديهم.
بعد الضربة الموجعة التي تلقاها اليهود في قرية ذنبة ذهبوا كعادتهم للاحتماء بالحضن الدافئ وأمهم الحنون بريطانيا، فتوجهوا للقوات الإنجليزية لتقوم كعادتها بالدفاع عنهم من خلال الإغارة على القرية وتفتيشها واعتقال شبابها ليسوموهم سوء العذاب.
"قام الخونة والعملاء كعادتهم بالوشاية عن أبي للإنجليز قائلين لهم أن الشيخ يوسف (أبو صالح) هو من دبر الهجوم، كنت أكبر إخوتي وبالرغم من صغر سني آنذاك إلا أني كنت أعي جيداً بالمخاطر التي تحدق بوالدي وما الذي يمكن أن يترتب إذا تم العثور على سلاح في بيتنا فأخذت بندقية والدي الموجودة في المنزل وقمت بإخفائها بين أغصان شجرة كثيرة الفروع والأغصان، جاءت قوة انجليزية كبيرة مدججة بالأسلحة وطوقت بيتنا الذي كان على أطراف القرية، وقاموا بتفتيش المنزل والبستان وكالعادة لم يعثروا على والدي ولم يتمكنوا من اعتقاله ومن لطف الله فينا لم يعثروا على البندقية فمروا من تحت الشجرة التي أخفيت فيها البندقية عدة مرات ولكنهم لم يروها، فقاموا بختم منزلنا بالشمع الأحمر وقالوا لنا سنأتي غدا لهدم المنزل".
"كان ذلك اليوم صعباً جداً علينا، فعند صدور قرار هدم منزلنا قامت أمي وزوجات أبي الثلاثة بإخراج الفراش والأمتعة من المنزل استعدادا لهدمه، كنت أنا وإخوتي الصغار نبكي خوفاً من هدم المنزل وضياع المأوى، وفي ذات الوقت كنا قلقين على والدي الذي من المحتمل أن يلقى القبض عليه في أيه لحظة ليلقى حتفه".
بقيت الأمتعة وأثاث المنزل في الخارج مدة أربعة شهور استعداداً لهدمه لكن القوات الانجليزية تراجعت عن قرارها فتم إرجاع الأمتعة للمنزل وعادت الحياة فيه لطبيعتها، لكن أبو صالح واصل مشواره النضالي ولم يكف عن ملاحقة اليهود والإغارة عليهم، فقام ومن معه بزرع لغم في الطريق التي تسلكها الدبابات، عندها قام العملاء بتحذير القوات الانجليزية بأن هناك لغم قد زرع، فجاءت القوات الانجليزية وفككت اللغم وسألوا عن الذين وضعوه فقال لهم أحد العملاء أن أبو صالح ومن معه هم من قاموا بزرعه.
"في ذلك الوقت كانت أمي حاملاً في شهرها التاسع فجاءها ألم المخاض ليلاً، وكنا أنا وإخوتي نائمين، كان أبي لا يبيت في المنزل لأن القوات الإنجليزية كانت تراقبه دائماً لتعتقله في حال العثور عليه، فكان يبيت في بيارتنا حيث كان فيها خندق جهزه خصيصاً ليتوارى فيه عن الإنجليز، كانت أمي تعلم بمكان اختباءه فذهبت إليه تحت جنح الليل ليذهب ويحضر القابلة من القرية لتوليدها، عندها أحس والدي بالعسكر الإنجليزي يقتربون من البيارة فاستشعر بالخطر وقال لأمي اذهبي من هنا لأني سوف أبدأ بإطلاق النار عليهم، خافت أمي على أبي كثيراً وذهبت تجر نفسها بصعوبة من شدة ألم المخاض إلى القرية وتخبر أهلها بأن العسكر يهاجمون أبو صىالح فذهبوا لنجدته في البيارة".
"في تلك الأثناء كانت أمي خارج المنزل، وكنا أنا وإخوتي صالح وعبد القادر وعلي نائمين وحدنا في المنزل، عندها جاء عسكر يهود من كبانية ذنبة إلى المنزل وكسروا الباب علينا وطلبوا منا أن نذهب معهم إلى الكبانية، وقعت حينها بين نارين نار خوفي من العسكر ونار إخوتي الصغار الذين يجب أن أحميهم بالرغم من أن عمري في ذلك الوقت لم يتجاوز العشر سنوات، فرفضت الذهاب معهم وقلت لهم لن نذهب معكم أبداً لأني كنت أتوقع بأنهم سيقتلونا انتقاماً من أبي، عندها قاموا بشدي من يدي وأغلقوا فمي بقطعة من القماش حتى لا أصرخ وسحبوني خارج المنزل ليقتادوني إلى الكبانية أنا وإخوتي، كنا على طول الطريق أنا وإخوتي نبكي فقاموا بضربي على عيني بكعب البندقية، أحسست من شدة الألم أن عيني خرجت من مكانها، وبينما كنا في منتصف الطريق علم أهل البلد بأن العسكر قد أخذونا فجاءوا لتخليصنا من بين أيديهم فاضطر العسكر لتركنا وذهبوا إلى الكبانية بدوننا".
كان العسكر اليهود قد زرعوا لغماً في المنزل بعد أخذ مريم وإخوتها معهم فانفجر المنزل الذي آواهم طوال السنوات وعاشوا فيه ذكريات حلوة ومرة وسوي بالأرض، فذهب عمها أحمد سرحان والذي كان مختاراً للقرية، واشتكى عليهم للإنجليز الذين كانوا يدعون بأن لا يد لهم بكل ما يجري، فجاء الإنجليز ليحققوا بما جرى وطلبوا مقابلة مريم وسألوها كيف اقتيدت وضربت على عينها، كما سألوها عن مواصفات الذي بضربها واسمه فأخبرتهم بأوصافه كما قالت لهم بأنها سمعتهم ينادونه (مناحم).
بدأ الإنجليز بالتحقيق بما جرى بشكل غير جدي ولكن ليثبتوا أنهم لا يوافقون على هذه التصرفات فقاموا بتعويض العائلة بمبلغ 25 جنيه فلسطيني تعويضاً عن منزلهم الذي تم تفجيره بالرغم من أن بناء هذا المنزل كان قد كلفهم ألوف.
"بعد هدم منزلنا زاد إصرار أبي وتحديه فقام ببيع قطعة أرض من أراضيه ليبني بثمنها منزل آخر، فطلب أهل البلد من أبي أن يبني منزله الجديد في مكان قريب من بيوت القرية وليس على أطرافها حتى يشعر الأطفال بالأمان بالقرب من أهالي القرية، وحتى لا يستفرد بنا العسكر كما حدث في المرة السابقة، وطيلة فترة بناء المنزل كنا نقيم في بيت عمي".
مريم التي تبلغ من العمر اليوم 86 عاماً لازالت تذكر تفاصيل الحياة التي عاشتها في قريتها التينة، والتي كان يمر من طرفها الشرقي خط سكة حديد بئر السبع – الرملة في العهد العثماني والتي كان طريقها بالقرب من أراضي الشيخ يوسف والد مريم إلا أنها لم تشهد الخط وهو يعمل بسبب تعطلة مع انتهاء الحكم العثماني لفلسطين، ولكنها ما زالت تحتفظ بذكريات أليمة عنه ما زالت ترسخ في ذاكرتها فسكة الحديد المعطلة طالما كانت السبب في مصرع الكثير من أهالي القرية وخصوصاً أطفالها الذين كانوا يلعبون هناك ويبحثون عن الحديد في تلك المنطقة ليبيعوه، إلا أن الألغام التي خلفتها الحرب بين الأتراك والإنجليز في تلك المنطقة كانت تنفجر وتوقعهم قتلى.
"أذكر أن رجلاً من القرية كان يحفر في المنطقة القريبة من سكة الحديد فوجد يد رجل مقطوعة قد تحلل اللحم عنها وعثر على قطعة قماش تحتوي ذهب مثبتة عليها، رجح أهالي القرية أن تكون هذه اليد يد عسكري تركي مات في الحرب وأن قطعة القماش التي تحوي ذهباً ربما يكون ذووه قد أعطوه إياها ليبيع الذهب منها عندما يحتاج للمال".
"وكان في قريتنا رجل تركي عجوز طاعن في السن يدعى برهوم يعمل في صناعة الأدوات الحديدية، كنا دائماً نسأل أمي عنه وكانت تخبرنا بقصته، فقد كان برهوم عسكرياً تركياً ومع انتهاء الحكم التركي لفلسطين وانتصار الإنجليز على الدولة العثمانية كان الإنجليز يبحثون عن كل من تبقى في البلاد من العسكر الأتراك ليقتلوهم حتى لا يبقى للدوله العثمانية أي أثر في فلسطين، كان برهوم ملاحقاً من الإنجليز واستجار بقابلة القرية التي قامت بتخبأته في خزانة تحت الفراش في منزلها لكي لا يعثر عليه الإنجليز وهم يلاحقوه، فجاء الإنجليز وفتشوا جميع المنازل ولم يجدوه، وبعد ذهاب الإنجليز قال لها أنه يريد البقاء معهم، فزوجته ابنتها ومنذ ذلك الحين وبرهوم واحد من أهل القرية".
بقي الشيخ يوسف (أبو صالح) يواصل عمله النضالي ضد المهاجرين اليهود الذين أقاموا كبانية يهودية في منطقة ديران والتي كانت بعيدة عن قرية التينة، فكان أبو صالح يذهب ومعه أربعون من الثوار تحت جنح الليل ويغيرون على اليهود هناك ويخربون الممتلكات ويقطعون الأشجار لإجبارهم على الرحيل، وكانوا يذهبون على الخيول يومياً كل ليلة دون كلل أو ملل.
مرحلة جديدة في حياة مريم
"كان أبي وعمي متفقان على تزويجي لابن عمي عبد الله منذ طفولتي، وعندما أنهى ابن عمي تعليمه في الرملة وأراد الزواج جاء عمي لخطبتي لكن زوجة عمي قالت أنه يحرم زواجي أنا وابن عمي لأني رضعت مع أخيه، عندها غضب أبي لأنها لم تخبرهم بذلك من قبل فقد تقدم لخطبتي الكثير وكان أبي يرفضهم ويقول أن مريم ستتزوج ابن عمها، وبسبب غضبه مما فعلته زوجة عمي حلف بالله ألا يزوجني أي شخص من العائلة وقال أن مريم محرمة على كل أبناء عائلتها فلن أزوجها لأي من أقاربها، بعد ذلك جاء كثير من أقاربنا لخطبتي إلا أن أبي لم يكن يوافق على تزويجي من أي واحد منهم فقد حلف يميناً بأن لا أكون من نصيب أي واحد من العائلة".
درجت العادة عند أهالي القرى الفلسطينية قديماً أن يرسلوا بناتهم منذ سن الثامنة عند امرأة تجيد التطريز من نساء القرية لتعليمهن التطريز الفلسطيني، وكانت الفتيات طيلة فترة تعلمهن التطريز يطرزن ثياب لهن وهذه الثياب هي التي ستأخذها الفتاة معها إلى بيتها عند زواجها أي أن هذه الثياب هي الكسوة التي ستأخذها العروس معها، وكانت الفتاة كلما تأخرت في الزواج استطاعت أن تطرز المزيد من الثياب.
كان من بين الثوار الذين ينفذون العمليات مع أبو صالح رجل من أهل القرية يدعى عبد الخالق وكان أبو صالح يحبه كثيراً لإخلاصه في الجهاد ضد العدو وحبه لوطنة الذي كان يتفانى في الدفاع عنه، كان عبد الخالق رجل في الأربعين من عمره ومتزوج ولديه ابنتين، وكان من أصول مصرية حيث كان أهالي القرية يقسمون إلى فلاحين ومصريين، فالفلاحون هم أهالي القرية الأصلاء والمصريون من أصول مصرية حيث جاء أجدادهم إلى فلسطين من مصر مع إبراهيم باشا ابن محمد علي باشا في حملته على بلاد الشام واستقروا فيها بعد انتهاء الحملة.
"لم أكن أعرف عبد الخالق إلا من خلال حديث والدي عنه ومدحه له، ولم أره سوى مرات قليلة في حياتي وكنت أناديه باسم عمي العبد، وفي إحدى المرات جاء عبد الخالق إلى منزلنا ليأخذ الفرس لوالدي فخرجت وقلت له هل تريد الفرس لوالدي يا عمي؟ فأجابني بنعم، عندها ضحكت مني بنات عمي أميرة وآمنة وقالتا لي هل تنادين عريسك بعمي؟، فسألتهما ما الذي يقصدنه فأجبنني بأن عبد الخالق سيكون زوجي فقد طلبني من والدي ووافق عليه، عندها لم أصدق فعبد الخالق كان متزوجاً وفي الأربعين من عمره بينما كنت في الخامسة عشرة من عمري".
"لكن الأمر لم يكن مزاحاً من بنات عمي وفعلاً كان أبي قد وافق على تزويجي من عبد الخالق، عندها لم يكن بيدي سوى الرضوخ لرأي والدي فتزوجت عبد الخالق ودخلت على ضرة، لكن عبد الخالق كان حنوناً في التعامل معي ولم يكن يرفض لي طلباً، لكني واجهت الكثير من الصعوبات مع ضرتي، وبعد فترة وجيزة من زواجي حملت وأنجبت بنتاً سميتها عائشة، إلا أن عائشة بعد ولادتها بفترة مرضت وأصبحت تضعف وتوهن يوماً بعد يوم، لم أكن أدري ما بها حتى أصبح عمرها خمسة أشهر وماتت".
شكلت وفاة عائشة صدمة كبيرة لمريم فقد كانت ابنتها الأولى وكانت روحها معلقة بها، وبعد وفاة عائشة اكتشفت مريم أنها حامل بشهرها الرابع دون أن تعلم فقد كانت صغيرة السن، فقالت لها إحدى قريباتها إن إرضاعها لعائشة وهي حامل هو سبب مرضها وموتها حيث لا يجوز لها الإرضاع أثناء الحمل.
لكن الله عوض مريم عن صبرها على وفاة ابنتها خيراً فقد أنجبت ولداً بعد وفاة عائشة بأربعة شهور وسموه عبد المالك، كانت فرحة زوجها عبد الخالق بالمولود الجديد لا توصفً فهو طالما تمنى أن يكون له ولد يحمل اسمه وكانت زوجته الأولى قد أنجبت ثلاثة أولاد لكنهم ماتوا جميعاً وهم رضع، فأحس أن الله سيعوضه خيراً بهذا الولد، فاشترى الحلويات وذبح الذبائح ووزعها على جميع أهالي القرية.
النكبة الفلسطينية في عام 1948
بدأت قوة اليهود في فلسطين بالتزايد وأخذ الصراع على الأرض يتخذ شكلاً آخر فبعد اطمئنان الإنجليز بأن اليهود قد بلغوا أشدهم وأصبحوا يملكون من القوة ما يؤهلهم لإنشاء دولتهم اليهودية على الأرض الفلسطينية بدأ الانجليز بالانسحاب من فلسطين لتوريثها لليهود وكأنهم أصحاب حق فيها.
أحس العرب بخطورة ما يجري في فلسطين فقامت اللجنة العسكرية التابعة للجامعة العربية في سبتمبر عام 1947 بتشكيل جيش للتصدي لليهود في فلسطين أطلق عليه اسم "جيش الإنقاذ العربي" وكان يضم 3,000 آلاف متطوع من عدة دول عربية وكان الضابط فوزي القاوقجي هو القائد الأعلى للجيش، وكان أفراد الجيش مسلحون بالبنادق، في حين بلغ عدد أعضاء عصابة الهجاناه بحسب المصادر الرسمية الإسرائيلية قرابة 45,300 فرد، وكانت العصابات الصهيونية مزودة بترسانة حربية ضخمة تؤهلها لحسم الحرب لصالحها.
بدأت قوة جيش الإنقاذ العربي بالتراجع في الوقت الذي كانت فيه قوة العصابات الصهيونية تزداد، فسقطت المدن الفلسطينية الكبرى تباعاً بيد الصهاينة في عام 1948 واستمرت العصابات الصهيونية في تقدمها نحو بقية القرى للاستيلاء عليها، وفي التاسع من نيسان عام 1948 وقعت مجزرة دير ياسين التي تعد من أفظع المجازر في التاريخ الفلسطيني وراح ضحيتها ما يقارب 300 فلسطيني.
"لم نكن في قريتنا نعرف بما يجري في بقية المدن والقرى إلا من خلال بعض أهالي القرية الذين كانوا خارجها وسمعوا بما جرى في دير ياسين وجاءوا لإخبارنا بما يجري، أصيب الجميع بالذعر وبتنا نخاف أن يكون مصير قريتنا المحتوم هو ذاته مصير دير ياسين، وبعد عدة أيام جاء رجل من أهالي القرية يحذرنا وقال لنا أن العصابات الصهيونية تتقدم وتسيطر على جميع القرى التي تصلها وتقتل أهلها وهاهي قد وصلت إلى قرية قريبة تدعى زكريا وأصبحت على مقربة من قريتنا".
"بدأ الأهالي بحزم أمتعتهم للهرب من الموت المحدق بهم وقيل لنا وقتها لا تأخذوا معكم شيئاً لأنكم ستتركون منازلكم مدة ثلاثة أيام فقط ثم تعودون إليها، فخرج جميع الأهالي من القرية، وتوجهنا نحن إلى قرية مغلس القريبة من قريتنا فقد كان لزوجي عبد الخالق (أبو العبد) صديق يسكنها وبعد المشي لمدة يومين وصلنا إلى مغلس وكان التعب قد أعياني ففي ذلك الوقت كان عمر ابني عبد المالك سنة ونصف وكنت حاملاً في شهري التاسع، وعندما وصلنا إلى مغلس استقبلنا صديق (أبو العبد) في منزله وأكرمنا ومكثنا في منزله مدة يومين، عندها كانت العصابات اليهودية في طريقها إلى مغلس فهاجرنا نحن وأهالي مغلس، وقال لنا الرجل الذي كنا نقيم في منزله أن له أختاً تقيم في قرية عجور فذهبنا معاً إلى عجور لننجوا بأرواحنا وأبنائنا من إرهاب العصابات الصهيونية، كنا نسير على أقدامنا ليلاً ونهاراً وكنت دائماً متأخرة عنهم لأني كنت مثقلة بالألم وعلى وشك الولادة".
"مكثنا في عجور مدة أسبوعين كاملين وعندها جاءني ألم المخاض فأنجبت ولداً آخر سميناه محمد، ولكن ضرتي حزنت وبدأت تبكي لأن اسم محمد هو اسم ابنها الذي مات وهو رضيع فاقترحت علينا المرأة التي كنا نقيم في منزلها أن نسميه (محمد الغريب) لأنه ولد غريباً عن بلده، وكان أهلي في ذلك الوقت قد خرجوا من البلد وتوجهوا إلى مكان آخر ولم نكن نعلم عنهم شيئاً".
اقترب الخطر الصهيوني من قرية عجور واضطرت العائلة للرحيل عنها، وكانت تلك الأيام صعبة جداً على مريم التي كانت تحمل رضيعها على يدها ولم يكن قد مضى على ولادته سوى أيام معدودة، واصلت العائلة السير على الأقدام ليلا ونهاراً مع بقية المهاجرين الذين كانوا يتوجهون إلى الخليل، وبعد مسيرة طويلة وصلوا إلى جبل حلحول وآثروا البقاء هناك بين كروم العنب فقد كان معهم فرس وجمل وفي الجبل مرعى لها، وتوجه باقي المهاجرين إلى مدينة الخليل.
مكثت العائلة في جبل حلحول أكثر من عام قاسوا خلالها أياماً عصيبة فقد كان الشتاء بارداً جداً ولم يكن يحميهم منه سوى مغارة كانوا قد اتخذوها منزلاً، وكان الثلج يكسو الجبل كأنه ثوب عروس، انتهى شتاء ذلك العام واستطاعت العائلة أن تصبر على برده وآلامه، طيلة ذلك العام لم تكن مريم تعلم عن أهلها أي شيء ولم تكن تعلم أين يقيمون وكيف حالهم.
"في يوم من الأيام كنت أجلس خارج المغارة ولمحت رجلاً يأتي من بعيد بقيت أدقق النظر لأعلم من هذا الرجل، وعندما اقترب أكثر رأيت أبي، عندها كأن روحي كانت مسلوبة مني وعادت لي، فذهبت أركض وعانقت أبي الذي كانت سعادته برؤيتي لا توصف، وحمدت الله الذي جمعنا بعد عام كامل من الفراق".
كان أهل مريم يقيمون في منطقة العوجا قرب أريحا، وقد علموا بمنطقة قريبة اسمها الفارعة فيها مياه وخير كثير، وكان المهاجرون يعتزمون الذهاب إليها والاستقرار فيها، فبحث أبو صالح عن عائلة ابنته مريم طويلاً ليطلب منهم الذهاب معه إلى تلك القرية ليستقروا فيها.
عندها قرر أبو العبد الذهاب إلى الفارعة مع بقية المهاجرين ولكن ابنه محمد مرض مرضاً شديداً، فطلب منهم أن يسبقوه إلى تلك القرية وبعد أن يشفى محمد سوف يلحق بهم هو وعائلته، كان مرض محمد شديداً، وكانت مريم تبكي وتدعو الله ألا يفجعها بوفاة محمد، عندها قيل لهم أن محمد مات.
"عندما قيل لي أن محمد مات حضنته وصرت أصرخ وأرجوهم ألا يدفنوا ابني وكنت أقول لهم ادفنوني معه فلا أريد أن أتركه وحيداً في هذه البلد وأغادر إلى بلد أخرى، جهز الناس الكفن والصابون ليغسلوه ويدفنوه، عندها جاء رجل من الخليل وقال دعوني أرى الطفل قبل أن تدفنوه فوضع أذنه على صدر محمد وقال لنا ماذا تفعلون؟ كنتم ستدفنون الطفل وهو حي، لم أصدق ما سمعت فحملت محمد وإذا به يتحرك بين يدي، حمدت الله الذي لم يجرعني حسرة فقدان ابني".
الرحيل إلى الفارعة
بعد أكثر من عام من التشرد والتنقل بين القرى والبلدان توجه مجموعة من المهاجرين الذين هاجروا من قرى التينة، والريحانية، والكفرين، وأم الزينات إلى الفارعة وزودتهم وكالة الغوث بخيم لتعوضهم بها عن بيوتهم وممتلكاتهم التي سلبت منهم قسراً.
العام 1950 كان من أسوأ الأعوام التي مرت على اللاجئين الفلسطينيين في مختلف المناطق التي شردوا إليها فقد عرفت هذه السنة عند اللاجئين باسم "سنة الثلجة"، في ذلك الوقت كان اللاجئون يقيمون في خيم مهلهلة لا تقيهم حر صيف ولا برد شتاء.
"شهدنا في سنة الثلجة أياماً عصيبة حيث كان الجو شديد البرودة، وكان شتاء ذلك العام قارسا، وكنا نعيش في خيم لا تصد عنا البرد، في أحد أيام عام 1950 وبعد الفجر بقليل تراكمت الثلوج على الخيم وأدت إلى انهيارها فوق رؤوسنا، لم تكن أي خيمة تخلو من الأطفال فعند انهيار الخيم بدأ الأطفال بالصراخ والبكاء خوفاً من الموت تحت الخيم، في ذلك الوقت كان العسكر الأردنيون يديرون شؤون الفارعة والقرى المجاورة لها وكانوا يتخذون من سجن الفارعة مقراً لهم".
"عندما سمع العسكر أصوات صراخ الأطفال هرعوا إلى الخيم وبدأوا برفعها وانتشال الأطفال من تحتها لإنقاذ حياتهم، وقاموا بتجميع الأهالي في ساحة السجن وأوقدوا لهم ناراً لتدفئهم، وبعد ذلك ذهبوا يجوبون القرى المجاورة ليطلبوا الغذاء والمعونات للاجئين الذين فقدوا كل شيء وحتى الخيم التي أعطتهم إياها وكالة الغوث".
بعد زوال الشتاء جاء إلى المخيم رجل من وادي الفارعة وعرض على (أبو العبد) أن يشاركه أرضه ويقوم بزراعتها والعناية بها، وفي نهاية كل موسم يتم تقاسم الأرباح بينهما، فانتقلت العائلة إلى وادي الفارعة، وبدأ أبو العبد يتفانى بزراعة الأرض وخدمتها لأن الأرض هي أغلى ما يملك الفلسطيني، ولعل هذه الأرض تصبره على فراق قريته التي مازالت روحه معلقة بها، وكان كل عام يزرعها بمحصول فتارة يزرعها بالقمح وتارة بالشعير وتارة بالفستق.
"بقي الحنين للقرية يسيطر على قلب (أبو العبد) فقرر أن يجعل من الأرض التي كلف بزراعتها نسخة عن القرية التي هجر منها، فزرعها بالبرتقال لتكون في المستقبل بيارة برتقال كتلك البيارات التي تركها أصحابها وهاجروا، وبعد زراعة الأرض بالبرتقال كان يعمل على رعايتها يومياً ويسهر طوال الليل فيها وهو يسقيها، وبدأ بتربيتها كل شبر بنذر لأن روح أبو العبد كانت معلقة بالأرض".
الكارثة من جديد
وبعد أربعة عشر عاماً من زراعة بيارة البرتقال أثمرت الأشجار وقام أبو العبد بجناية محصولها الأول ليفرح به فرحة كبيرة وليحصد نتيجة عمله وسهره طيلة تلك السنوات، لكن الفرحة لم تكتمل فقد حان وقت رحيل أبو العبد ليترك مريم تكمل الدرب وحيدة وفي رقبتها سبعة أبناء.
"كنا قد استَقَرّينا في وادي الفارعة، وكانت حياتنا تسير على ما يرام، عندما جاء ذلك العام المشؤوم عام 67، ذلك العام الذي وقعت فيه حرب الأيام الستة (حرب حزيران). كانت إسرائيل في ذلك العام شرسة جداً، وبدا لنا آنذاك أن إسرائيل ستهجّرنا مرة أخرى، وفي وقت اشتداد الحرب جاءت امرأة من أقاربنا اسمها طاعة وقالت لنا أنها سمعت في الراديو أن الطائرات الإسرائيلية تقصف القرى القريبة من القدس وأن كل أهاليها رحلوا عنها".
كانت القوات الإسرائيلية تعمل على السيطرة على بقية المدن والقرى التي لم تسقط بيدها عام 48. ذهبت مريم إلى المخيم (مخيم الفارعة) لتجد الجميع يستعدون للرحيل إلى الأردن خوفاً من البطش الإسرائيلي.
كان أبو العبد في ذلك الوقت يعمل في أرض له بعيدة عن المنزل هو وابنه محمد فلم تتمكن من الوصول إليه لتخبره بأنها تعتزم الرحيل إلى الأردن ريثما تهدأ الحرب، وكان ابنها الأكبر عبد المالك يستعد للسفر إلى السعودية للعمل هناك بعد أن أنهى تعليمه. أخذت مريم (أم العبد) أبناءها الخمسة الصغار خوفاً عليهم وذهبت هي وضرتها وركبت مع الناس في الحافلة التي ذهبت بهم إلى الأردن.
وعند وصولها إلى الأردن ذهبت عند خالتها شفيقة في جبل الحسين لتبقى عندها حتى تهدأ الأوضاع في فلسطين وتعود، عندها قامت الأردن بتخصيص المدارس للنازحين الذين جاءوا من فلسطين لتؤمن لهم مأكلهم ومشربهم وليبيتوا فيها، لكن مريم كانت تذهب إلى المدرسة وتقيم فيها نهاراً وتعود مع أبنائها ليلاً لتبيت في منزل خالتها.
"بعد ثلاثة أشهر ونصف جاء أبو العبد إلى الأردن لأخذي أنا وضرتي والأطفال لنعود إلى الفارعة وعند العودة واجهتنا مشكلة حيث أنه لم يكن بإمكاننا أن نمر عن الجسر بأسمائنا الحقيقية فلم نكن نملك أوراق أو حتى هويات، فقام أشخاص من قرية طمون بمساعدتنا بإعطائنا أوراقهم لنمر عليها، ولم يكن بإمكان أبو العبد أن يمر معنا، فلم يكن له مكان في الحافلة، فقال لنا اذهبوا وسأتبعكم".
"وعند عودتنا مرت أيام طويلة ولم يأتي أبو العبد فسألنا عنه في كل مكان، وسألنا جميع من عادوا من الأردن وجميعهم أجابوا أنهم لم يروه فبحثنا عنه ولم نجده، عندها عاد ابني عبد المالك وتراجع عن سفره إلى السعودية ليبحث عن والده المفقود، جاءنا خبر من رجل قال لنا أنه رأى أبو العبد وهو يقطع الشريعة (نهر الأردن)، عندها بدأ عبد المالك يجوب السجون الإسرائيلية عله يجد والده في واحد منها فذهب إلى الرملة ونابلس ولم يجد اسماً لأبيه بين أسماء المعتقلين، عندها بدأ الإسرائيليون بمضايقة عبد المالك، فخفنا أن يقوموا باعتقاله فذهبنا أنا وضرتي لنبحث عنه في المعتقلات الإسرائيلية، ذهبنا لأكثر من بلد ولم نجد له اسماً في جميع السجون التي ذهبنا إليها، وبقينا على هذه الحال أكثر من عام ونحن نبحث عنه دون كلل أو ملل ولكن دون أن نجده".
بعد مرور أكثر من عام جاءت امرأة كانت تعمل في أرض بالقرب من نهر الأردن بالخبر المؤلم، فقد كان أبو العبد قد قطع نهر الأردن مع مجموعة من الرجال، وقامت القوات الإسرائيلية بإطلاق النار عليهم وأصيب برصاصة، عندها طلب من المرأة أن تحضر له ماءً ليشرب، فذهبت لتحضر له الماء، وعند عودتها وجدت الإسرائيليين قد أحضروا جرافة ودفنوا كل من أصابوهم.
"وقع الخبر علينا كالصاعقة فاسود وجهي من كثرة البكاء عليه، وكان وضع أبنائي مأساوياً للغاية فأخذوا بالبكاء والنحيب على أبيهم، كنا قبل ذلك اليوم نحتفظ بقليل من الأمل أن يلتم شملنا في يوم من الأيام، ولكن ذلك الخبر جاء ليقطع علينا كل أحلامنا بأن نجتمع معه مرة ثانية".
"رحل أبو العبد وترك في رقبتي أطفال صغار، وبيارة تحتاج إلى عناية ورعاية، فحرصت طوال السنين على أن أصون الأرض وأرعاها وأربي الأبناء وكأنه موجود بيننا، الحمد لله بعد مرور خمسة وأربعين عاماً على رحيل (أبو العبد) إلا أن ضميري مرتاح فقد صنت أرضه وربيت أبناءه كما أراد حتى بلغوا أشدهم".
سنوات طويلة عجاف عاشتها مريم، شهدت خلالها على أشد مراحل التاريخ الفلسطيني قسوة، فبعد سلب الأرض ورحيل الرفيق عاشت مريم أياماً عصيبة دفعت خلالها ربيع عمرها وزهرة شبابها، ولكن بالرغم من الأحزان التي أثقلت كاهلها، ما زال الحلم بالعودة يراودها، لم يبق في العمر أكثر مما مضى فقد تعود مريم أو قد يعود أحفادها أو ربما أحفادهم.
هذه المقابلة مقتبسة من المقابلة التي أجراها فريق العمل في موقع ديرتنا مع الحاجه مريم يوسف محمد سرحان (أم عبدالمالك) أمد الله في عمرها.
رابط الإلكتروني الخاص في هذه المقابلة:
http://www.deretna.com/vb/showthread.php?t=50597