حسن محمود مصطفى الشولي مواليد 1933، الشيخ داوود.
الشيخ داوود في قضاء عكا، تقع في الجزء الغربي الشمالي من فلسطين، قريبة على لبنان، المسافة بين الناقورة وبلدنا حوالي 25 كيلومتر فقط. (شرق شمال عكا) وهي قرية صغيرة عدد سكانها كان 450 شخص.
سُمِّيَت الشيخ داوود نسبة الى مقام فيه قبّة وغرفة وفيها قبر لكن غير معروف ماذا يعمل وإسمه الشيخ داوود. والحارة التي بجانبها فيها نفس المقام ونفس القبر وإسمه الشيخ دنّون. وفي زمن البريطانيين كان إسم الحارتين الشيخ داوود، البريطانيون غيّروا إسمها الى الشيخ دنون. البلد لم يكن فيها شوارع، ولكن بزمن اليهود هذه الأيام صار فيها شوارع.
من عائلات الشيخ داوود، دار الشولي، حمود، ياسين، العينين، البيتم، هذه من أكبر العائلات. ومختار البلدة هو أحمد البيتم ومات ببرج البراجنة، كان عنده مضافة يستقبل فيها الناس.
لم يكن في البلد مدرسة، فكان البريطانيون يفتحون مدارس بالبلاد الكبيرة أو البلد التي فيها مسيحيين، بلدنا كانت صغيرة وفيها مشايخ، الشيخ هو الذي يعلّم القرآن واللغة العربية وبعض الحساب. وكان من يختم القرآن بالبلد، كان أهله يعملون له إحتفال.
وعندما جئت الى لبنان سنة 1949، كان إتحاد الكنائس المسيحي قبل الأنروا فتح مدارس بصور وبقانا للفلسطنيين، وكنا يومها نسكن بالرمادية قرب قانا وتعلمت أنا واخي في هذه المدرسة وهو دكتور الآن، فأخذنا شهادة "السرتيفيكا".
بلدنا ليس فيها مسجد، ولكن حضروا الحجار وقبل تعميره طلعنا، ولكن أهل بلدنا والقرى المجاورة كانوا يصلون بجامع الغابسية، فهو جامع قديم من زمن ابراهيم باشا (من زمن تركيا).
كان عندنا دكاكين، كان في دكانة لواحد اسمه حسين ناصيف عكاوي من دار البيتم، كان بالدكانة سكاكر، سكر، أرز، سميد..
لم يكن في القرية ملحمة، ولكن كان هناك اثنين واحد اسمه أحمد الشيخ المدد وآخر إسمه ديب السيد، كان كل يومين ثلاثة واحد منهم يذبح ذبيحة لأن البلد كانت صغيرة.
لم يكن بالقرية فرن، وكان كل بيت يخبز، وفي طابون أو على الصاج أو بالطابون هو يصنع بالصيف لأنه معمول من طين ويغطوه بغطاء من تبن وزبل يابس ويولعون النار فيه، ويضعون قطع فخار، فحجارة الفخار تُصبح حمراء من الحرارة ويُضع الخبز على الحجارة ويُقفل الطابون. وخبزه لذيذ جداً.
بيتنا نحن كبير له قنطرتين وكنا نحن والدواب ساكنين بنفس البيت.
عند الدخول الى البيت في محل للحيوانات (البقر والفرس والحمار) ويُعمَل لهم طاولة مثل الحوض ليوضَع العلف فيها. وبعد ذلك المنطقة العالية تسكن فيها العائلة، وكان عنا غرفتين باطون فوق بعضهم وفيه جسر مثل سلُّم الحديد نسكن فيها بالصيف، وفي الشتاء بالبيت الكبير.
نضيء بالليل بالنوَّاصة (وعاء فيه زيت وفتيلة من قماش وتُضاء) ثم قبل أن نخرج بقليل إستعملنا السراج الذي يعمل بالكاز.
لما كنت بفلسطين بقضاء عكا، نزلت على عكا كثيراً أبيع تين وصبير وعبرت بحيفا مرة واحدة لأننا ذهبنا الى عرس لأقربائنا بشفا عمرو، وركبنا من جانب البلد لعكا ومن عكا لحيفا وثم الشفا عمرو، ولما ذهبت في 1991 و1992 وجدت معظم المدن الفلسطينية شفتها وطلعت باتجاه الجولان وصلّيت مرتين بالأقصى بالقدس.
كان في شارع ترشيحا هو بين ترشيحا وعكا، فكان هذا الشارع يمر بقرية النهر وقرية النهر قريبة علينا، فكنا ننزل ماشيين على النهر ننتظر الباص من ترشيحا ليوصلنا الى عكا، وهكذا.
أما بالنسبة للقرى التي حولنا، اقرب شيء من الشمال كانت الغابسية ثم الكابري، والجنوب الشرقي يوجد عمقا والجنوب الكويكات، ومن الغرب النهر وبعد النهر أم الفرج. ولم يكن عندنا ماء والغابسية وعمقا والكويكات أيضاً، كانوا يحفروا بيارة ويجمعوا ماء الشتاء، ولكن نشرب فكنا نُملَي من النهر، والنهر كان فيها نبع وبركتين أو ثلاثة.
كنا نتسلى بشيء شبيه الفوتبول إسمها الكرة، وأيضاً كان هناك الغميضة.
بالزواج كان فيه ظلم شديد للبنت، لأنه كانوا يعتبروا أنه من العيب إستشارة البنت قبل الزواج، فيوافق الأهل دون إستشارتها.
وكانوا أيضاً يقبلوا بالرجل الغني حتى لو كان فيه عيب، أعرج، أعور أو أي شيء... فالبنت ليس لها رأي أبداً.
الغريب في الأمر أنه كما سبق وذكرت أن قريتنا صغيرة وكل الناس تعرف بعضها وتجتمع الأهالي ويتزاورون، والغريب أن الشاب والفتاة قبل الخطبة يكون هناك بينهم نقاش وحديث ولكن بعد الخطبة يصبح لا يجوز الحديث بينهم ويتحاربون.
فيأتي أهل العريس يطلبون العروس وبعد الموافقة، يعقدون الزواج ويعملون العرس. ففي العرس تتم عزومة القرى المجاورة، ويعملون تعليلة قد تطول 3 ليالي قبل العرس. وكانوا يُشعلون النار للإنارة ليلاً ويجلبون حدّاي والشباب والرجال يقفون صف والحداي يغني ويصفقون له.
بالمناسبات والأعياد، ففي رمضان كان في مسحِّر والناس كانت تهتم بالصيام، والكل يصوم ويتسحّر، ويحتفلون بالعيد كثيراً لدرجة أنه كل بيت لازم يربّي خروف ليذبحوه على العيد سواء كان فقيراً أو غنياً.
كان هناك تآلف ومحبة وتعاون بين الناس، هذه الأمور افتقدناها هذه الأيام، فالأخ لم يعد يحب أخوه. كان هناك تعاون بالبلد ففي العيد معظم الناس تزور بعضها البعض.
وبالنسبة للتعاون، نحن بلاد زراعية، نزرع نحصد وندرّس، فنجد واحداً يدرّي (يعني، زرعنا القمحات وحصدناهم ونقلناهم على جمال للبلد وبالبلد يوجد البيدر، وعلى البيدر ندرس القمح وننعمهم، ونفصل الحب عن التين، وهناك من يرفع القمح حتى يُفصل القمح عن القشر وعند الإنتهاء تنقل التبن الى البيت)، النساء تتجمع وتأتي لوحدها دون الطلب منهن فينقلن التبن الى البيوت.
كان في معصرتين بدائيتين على البغل للزيتون، في حجر صوان كبير بالمعصرة وهنا حجر واقف صوان ومفرغ من الوسط وفيه خشبة هذه الخشبة يُربط البغل فيها ويصير البغل يدور فيدور الحجر، ونضع الزيتون على الحجر الذي تحت فَيَتِم عصره.
معصرة لمحمود فهد الشولي وأخرى لدار رستم. ومقابل العصر كنا نقدّم زيت اجرة. حتى الحلاق بالبلد يحلق لسنة مقابل قمح أو ذرة.
لم يكن هناك قهوة بل دواوين، أي من كانت حالته جيدة، وعنده غرفة واسعة، فيفرشها ويعمل قهوة سادة، وبالليل تجتمع الرجال بهذا الديوان.
كان في مقبرة للبلد كلها، وكانت مقسّمة حسب العائلات مثلاً عائلة فلان بالمنطقة الشمالية والجنوبية لعائلة أخرى، وهكذا...
أما العلاج والطبابة، لم يكن شيء طبي بالبلد، كنا نذهب الى عكا أو نذهب الى نهاريا (مستعمرة يهودية شمال عكا)، وهناك أطباء يهود.
ولكن عنا مطهِّر ومجبِّر وداية لتوليد النساء، فمعظم من كان عندهم طرش غنم وماعز كان عندهم خبرة بالتجبير، وعندنا داية نقول لها ست البلد (نايلة ناصيف).
فلسطين، بداية مشاكلنا مع اليهود بوعد بلفور، في الحرب العالمي الثانية ليرضى اليهود وعدهم بوطن قومي بفلسطين، ولما تغلبوا على الدولة العثمانية فقسموا البلاد بين بريطانيا وفرنسا. فكانت لبنان وسوريا حصة فرنسا، وكانت مصر وفلسطين والأردن والعراق حصة بريطانيا، وكان المقصود من انتداب بريطانيا على فلسطين هو يستقبل هجرة اليهود إليها ثم صارت بريطانيا تدربهم ومدَّتهم بالسلاح سنة 1948 ليتغلَّبوا على الدول العربية، فإنسحبت سنة 1948 وأعلن اليهود دولتهم بفلسطين.
المؤامرة معروفة من أول الإنتداب ولكن الشعب الفلسطيني أعزل فلم يفعلوا سوى المظاهرات والدول العربية كانت إمّا مستقلّة حديثاً وإمّا شاركوا بالمؤامرة إشتراك تام، أنا طلعت من فلسطين عمري 15 سنة، وأقسم بالله أنه لو الفلسطينيين عرفوا أنهم لن يرجعوا إليها لما خرجوا، لأننا طلعنا بناء على طلب الجيوش العربية لإخلاء البلد فيحاربون هم اليهود ونعود الى ديارنا الى أساس مدّة شهر أو شهرين...
نحن جئنا الى لبنان، وفُتِحت الحدود كلها لندخُلها دون أي سؤال، وعندما جئنا الى صور كان هناك قطار يأتي من سوريا الى البص لمن يريد الذهاب الى سوريا إن لم تُعجبه لبنان. يعني الدول العربية علناً إشتركت بالمؤامرة.
بالنسبة لمجزرة دير ياسين، سمعنا عنها أثناء وجودنا بالقرية، كانت هذه المجازر تُؤَثِّر نفسياً علينا وتنشر الرعب والخوف بين الأهالي.
أهالي الشيخ داوود، كل واحد يستطيع شراء السلاح، فكان يشتري السلاح من لبنان وكان السلاح ضعيف وقديم وليس عندنا خبرة بالسلاح معظمه معطل ولا توجد ذخيرة كافية.
عندما سقطت عكا انهارت القرى الصغيرة وصار الأهالي يتركون البلد، فعندما جاء اليهود الى القرى لم يجدوا أحداً.
عندما تركنا البيت أخذنا ما نستطيع حمله على الحمار، فراش وأغطية، كان لدينا خوابي زيتون كلها تركناها وأخذنا تنكة واحدة.
طلعنا بالأول الى عمقا ومنها الى بلاد الدروز ومنها الى لبنان. وفي هذه الرحلة لم نرَ اليهود على الطريق.
المعركة الوحيدة التي اشتركت فيها كل القرى المجاورة للشيخ داوود، اسمها معركة الريّس بجانب الكابري، الريّس على الشارع الذي يصل لترشيحا، اليهود إشتروا قلعة جدّين (شرق البلد) قديمة، ووضعوا فيها مجموعة جنود، وهي مُحاصرة بالقرى العربية، وعند مدِّهِم بالتموين، فالأهالي عرفت بأنه هناك سيارات تموين لجدّين وسوف تمرّ بالقرى الفلسطينية (السميرية، أم الفرج، النهر والكابري) لتصل اليهم. فكان مجموعة أردنية بالكابري من جيش الإنقاذ (العربي)، وكانت السيارات قافلة، وهجموا على اليهود من جميع الجهات عليهم فقُتِل 85 يهودي وعندما ذهبت على فلسطين، محل المعركة عاملين حائط مسجّل عليه أسماء اليهود الذين قُتِلوا، وكل سنة بالربيع يحضر اليهود أطفالهم ويقولون لهم أنهم أبطال الإستقلال.
عندما غادرت القرية كان الشهر أيار. وأول قرية بلبنان وصلنا اليها إسمها بيت ليف بقينا فيها من 4 الى 5 أشهر. وبدأ الخريف والشتاء ونحن نعيش تحت العريشة، فكان هناك مخيّم بالبرج الشمالي (خيم) فذهبنا الى البرج ولم يُعجبنا السكن فذهبنا الى الرمادية قرب قانا. وهذه القُرى ليس فيها ماء للشرب، وفي سنة لم تُمطر وقلَّت المياه فذهبنا الى البص وبقينا من سنة 1952 الى 1965 عند الآثار، فهيئة الآثار طلبت من الأنروا أن يتم ترحيلنا الى الراشدية، وسنة 1965 جئنا الى الراشدية وبقينا الى الآن.
وعندما جئنا الى الراشدية كانوا قبلنا 1963، كان معمّرين للناس الآتين من بعلبك، وكانوا معمّرين بيوت (إسمها نُمرة). وكانت الحمّامات عمومية وليس بكل بيت حمام وبعد ذلك عملنا حمامات بالبيوت.
بقي بعض الناس بقرية الشيخ داود. ولم تخرج منها.
عمتي زوّجت ابنها لبنت أختها، فاتفق ابنها وزوجته أن يأتوا الى لبنان ولكن الأم والأب لم يوافقوا على الخروج. فقالت عمتي: تريد زوجة إبني أن تأخذه عند أهلها لأنهم خرجوا أيضاً، فقالت لها الزوجة ما دام قلتي هذا الكلام فوالله لن نخرج ونبق. وفعلاً بقوا هناك حتى الآن.
عندما عدت الى البلد سنة 1991، وجدتها متغيّرة كثيراً.. بقيت يومين حتى إستطعت أن أعرف الأماكن القديمة. البيوت القديمة مهبّطة كلها.
ولم يكن بالبلد شوارع الآن يوجد فيها شوارع.
الله أعلم.. بإسمي وبإسم جميع الشعب الفلسطيني أنه لن نوافق على اي تعويض عن فلسطين، فمن ليس له وطن ليس له كرامة.