الحاج محمد أحمد مجدوب إبن مختار عمقا، بعد ما كان يِتْنَعنَف بِالرِزِقْ، صار حرّاث وأجير عند الناس
حاوره رفيق بكري
نصغي بألم عندما تُردَّد في قرانا ومدننا العربية في البلاد أسماء عائلات مُهجّرة.
قرية عَمْقَا المهجّرة كانت بلد عامْرِه بأهلها وناسها، وحنين وحلم العودِة إلها يراوِد أهلها اللي بعيشوا في الشتات، فكم بالحري أبناء عمقا اللي عايشين على مرمى حجر منها.. سمعت عن الحاج محمد أحمد مجدوب، (ابو احمد) العمقاوي 93 عاماً وبِسْكُن في كفرياسيف، فتوقّعته مسنّا تِعِب من الدنيا وهمومها، وْسَمَعو خفيف، بَسّْ لمّا التقيتو، استقبلني وهو واقِفْ ومُنتَصِبْ على رجليه.
لمّا شفتها أوّل مرّة قَطْعَتْ لي ظهري وحطّيت عيني عليها
قلت: كيف لِمروِّة يا بو أحمد؟ قال بصوت رجولي: الحمد لله أنا من مواليد تركيا سنة 1914.. مِشّ حياالله، أبوي المختار قاسم حسين المجدوب من أيام الإنكليز، بيت المجدوب من الله خَلَقنا لفَكّْ المشاكل، وين ما بتصير مشكلة يركبوا عالخيل ويروحوا يحلّوها، المختَرة كانت لدار المجدوب أباً عن جِدّْ وما كان حدا يتعدّى عليها. خْلِقت في عمقا وتزوّجت سنة 1934، كان عمري بوقتها عشرين سِنِة، يعني إلي متجوِّز أربعة وستين سنِة..قُلت: إحكيلي كيف تعرّفت على ام أحمد؟ ضِحِكْ وقال:لمّا شفتها أوّل مرّة قطعت لي ظهري، وحطّيت عيني عليها، حَكيت لأهلي وما قِبلوا بالأوّل، ويوم من الأيام قُلت لأبوي: إذا ما أخذت بنت محمد الناطور واللهِ بَبليكوا، وإذا واحد ثاني بِروح يحكي فيها بقتل الجهتين... وأبوي ما كذّب خَبَر راح وحكالي فيها واتجوّزتها، يعني باختصار قلبي هواها وأخذتها عَمحبِّة.... توقّف أبو أحمد عن الكلام وهزّ راسو وقال بْحُزنْ: أم أحمد أعطتك عمرها قبل ثمن سنين، ما كنت أناديها إلاّ (الغالية)..قالولي شو رايك يا بو أحمد تتجوّز؟ قلت: لا يمكن أتجوَّز..أم أحمد ذهب عتيق، أنا ما عرِفت من النِسا إلاّ مَرتي، وما راح أبدِّلها بْمَرَة ثانية.
الناس كانت على باب الله الفقير كان يعيش لَلغني
قلت:إحكيلي عن عمقا والعيشة فيها.. قال:كانت معيشتنا على لِفلاحَة، كنّا ملاّكين نْمَشّي فداّنين، كنت أزرع كل شي: قمح وشعير وكرسنِّة وعدس وسمسِم وكل أنواع الزرع.. وكان عِنّا زتون... السِنِة الحامْلِة تجيب 150 تنكِة زيت..كانت لِفلاحة تْربِّحْ، وكنّا نِدفع عُشْر المال للإنكليز. بعد ما توفّى أبوي رُحت عالماليِّة أطلَعْت الكوشان وكان مأيِّد عإسمي سبعين دونم، وصّاني عليهن وبعدني ما تنازلت عنهِن.
المصاري بهذيك الأيام كان إلها قيمِة، بالليرة الإنكليزية تصرِف فيها على عيلِة، كنا نشتري اللحمِة بالرطال. قلت: طيِّب هاي حالِة الملاّك الغني وكيف كانت حالِة الفقير؟ قال: الفقير كان يعيش عند الغني يشتغِل ويعيِّش ولادو وعيلتو..كانوا الشْلَتيِّة الفقرا بأيام الحصيدِة ييجو عالبيادِر، هاذا يقول بدّي عديلِة تِبِنْ، وهاذا بدّو عديلِة شعير، وكنت أكرَم عليهن وأعطيهن لأنّو مثل ما قال المثل ألله أطْعَمْك كُلّْ واطْعَمْ، وقال المثل كَفّْ مَلانْ بيدر مَلانْ..الناس كانت على باب الله والفقير مِشْ عايِشْ، كان يعيش لَلغني، كانت أكثر من ثِلث البلد فُقَرا.
إسّا يرُدّوني عالبلد مستعِّد أقعُد تحت عديلِة خيش.. أعمَلها خيمِة واسكن فيها
والبلد يابو أحمد بتِتذكّرها منيح وْصِفلي ايّاها؟ قال: عدد سكان عمقا بأيام الإنكليز كان 1750 نفر، كانو مسجّلين عند أبوي المختار... كل ما يخلق 15 ولد ينزل أبوي عالمحكمِة ويسجِّلهن.. بيتنا كان بأوّل البلد في الحارة الغربية وقُدّامو بيرين ميّ نَقَرْتهِن بإيديِّ، وحكورة فيها كل ما بتِشتهي نِفسك. في هاي الحارة كانت ساكنِة عيلِتنا دار المجدوب...آآآآخ آآآخ يازَلَمِة إسّا يرُدّوني عالبلد مستعِّد أقعُد تحت عديلِة خيش، أعمَلها خيمِة واسكن فيها..الوطن قتّال ... في أغلى من الأرض والوطن!!.
طيِّب ما علينا منرجع للبلد: بتِمشي في الشارِع الثاني تَتِصَل للحارة الشمالية عند عيلِة الحَوامْدِة، وبِتلِفّْ عالحارة القبلية عَدار عبد الرازق، وبِتميِّل عالحارة الشرقية عَدار عويِّد...شمالي عمقا قرية الشيخ دنون ومن غربَة لِكويكات اللي تهجّرت معنا في الهجيج، ومِن شرقَة أبوسنان، ومن قِبلِة كفرياسيف. الشارِع اللي بودّي على نهريا كان يِفصِلْ بين عمقا ولِكويكات.. قلت: وكيف كانت علاقِة العماقْنِة والكواكْنِة؟ قال: زيّ الذهب، يَدِّيِة وَحَدِه...كان إذا واحد يعتدي على الثاني أو يِرْعالو الباميات مثلاً، ييجي يتْشَكّى لأبوي المختار.. يقُلّلو أبوي: مين أحسن لك يروح صاحِب الباميات يتشكّى عليك ولاّ نقدِّر ثمن لِخسارة وتِدفعها عالسّكِتْ؟ وبهيك تِنحلّْ المشكلة بسرعة.
يا أهل البلـ ااااااد..... إجا أبو خالد لتحصيل دار العُشر والمال
واسترسل أبو احمد في كلامو ورِجع بذاكرتو لأيام الإنكليز وقال: كان يطلع واحد من عكا بقلولو (ابو خالد)، هذا كان مبعوث من الإنكليز، وظيفتو يِظُبّ عُشر المال من الناس.. يصل على عمقا ويُقعد ثَمَنْ أيام عند أبوي المختار يوكل ويشرب، ويعلِّق لَفَرَسو المُخلاي برقبِتها ويعبّولو اياها شعير. والصُبِح يطلَعْ الناطور في البلد وينادي يا أهل البلـ اااااااد إجا أبو خالد لتحصيل دار العُشر والمال، وتيجي الناس لعند المختار تِدفع، والوَصِل كان بقِرشْ، وبعِد ما يخلِّص يِركب أبو خالد فَرَسو ويروِّح. قلت: بِتحِنّ يابو أحمد للعيشِة القديمِة؟ قال: كانت الحياة كيف وبَسطْ والبال هادي..إذا بدّك تشتري ذبيحَة تروح لعند صاحِب الطَرشْ تشتري سَخِلْ..يقول حقّو ليرة ونُصّْ.. تقُلّلو :غالي.. يقول: يالله خليه بليرَة. تنكِة الزيت كان حقّها رُبع ليرة.. كنّا عايشين زيّ لِملوك، فرق كبير بين حياة اليوم وحياة زمان، اليوم عيشِةْ طَفَرْ، والطَفَر بعمي البَصَر، الناس عم بتموت من اليأس وقِلِّة المصاري. بِعمقا كان كل ثلاث سنين تنّو يموت واحد... ضِحِكْ أبو أحمد وقال: يا زلَمِة لو انّي بَعِدني بْعَمقا بعيش كمان ميت سنة. أي هو أكل اليوم فيه فائِدِه!! في أطيب وأفيَد من لِمْجدَّرة، ولِمنَزَّلِة مع بيتِنجان وحُمُّص، والرُّز لِمْفَلفَل مع يَخْنِة فصوليا، واللوبيِة، وغيرو وغيرو، كان يا عمّي للأكِل نكهة خاصّة، والاّ اللحمِة كانت المِعْزة حُرَّة بَعْليِّة مِشّْ مثل لحمِة اليوم مَلهاش طعمِة (عاتعروفِتْ) يعني العَلَف المُصنّع. وميِّة الشُربْ كنّا نجيبها من قرية النهر حدّْ الكابري، من طيابِتها كانو يسمّوها (ميِّة عين العسل)، يحُطّْ الواحد أربع غلانِة عالدّابِّة ويملّيها من النهر.
مَشُفتلّيش جوزي؟ ما التقيتِشْ مع إبني بطريقَكْ؟ هاي تبكي وهاي تسأل عن زَلْمِتها
قلت لأبو أحمد حكيلي شويّ عن عمايل الإنكليز..قال: سِنة 1934 كنت مِتجوِّز جديد كانوا الثوار يحاربو الإنكليز على شارع عكا صفد لعِند منطقة الّليات حدّْ مجد الكروم، ولمّا أجت الطيارات وبلّشت تقصُف.... الزلَمِة اللي يخلِّص حالو ويمزُط بريشو، ما شفت حالي إلاّ أنا غربي جولس.. وانهزَمت، ولمّا هِدْيَتْ الحالِة رجِعت من بين الزتون غربيّ كفرياسيف بِاتِّجاه عمقا، ولمّا وصلت على عين كفرياسيف هالنِسوان تِسألني: مَشُفتلّيش جوزي؟ ما التقيتِشْ مع إبني بطريقَكْ؟ هاي تبكي وهاي تسأل عن زَلْمِتها.. كنت أجاوبهم: لا والله ما شُفت حدا.. أنا أسلَمْ بحالي وما حَدا قدّي، وِرْجِعتْ على عمقا لعِند مَرَتي.
قُلت: وراحو الإنكليز يابو أحمد!! قال: تركيا حكَمَت أربَعميتْ سِنِة وراحَتْ والإنكليز ثلاثين سِنِة وراحو، وهاي إسرائيل شو بدّها توخُذ.. الوضع يعني مقَلْقَزْ .. حرب وبدها تصير.
في الـ48 بعد ما استحلّوا لِكويكات حدّنا، ضرب مِدفع الهاوِن عالبلد وصارت الناس تِتْفَرعَط، وما توعّوا يحملو إشي بإيديهن.. حتى صَلايِبْ القمح ظلّت مَحَلّها على كْوام القمح عالبيادِر.. وكل واحد سلّمتو إجريه.. كان عندي ثلاث ولاد حْمِلْتهِنْ أنا وِعيالي وطلِعنا على جت عِند سليم لِحمَد وعِشنا عندو حوالي سِنِة... كان يدوِّر على حرّاث، واشتغلت عندو حرّاث كل المُدِّة... شو بدّي أعمل بَدنا نْعَيِّشْ لِولاد وِنطعميهِن.. بعدين نْزِلْتْ على كفر ياسيف عمِلت برّاكية وقَعدِت فيها.. أجاني واحَد وقلّي: تُحرُثْ يا بو أحمد؟ قلت: بَحرُثْ..واشتغلت عندو.. قال المثل إشتغِلْ بْقِرشْ وحاسِبْ البطّال.
الصِعِبْ إنّي بَشوف الرِزِق قُدّامي ومِشْ قادِر أصيبو
شُفت أبو احمد تغيّر لونو وصار يِدَنْدِنْ، قلت: مالك يابو احمد حزين قال: أوف أوف أوفففف:
شمالي يا هوى الديرِه شمالي
على اللي بوابها تِفتح شمالي
يا ويلي ويلّلي مسافر شمالي
سلِّملي على كل لِحباب
قلت: كانت صِعبِة عليك بعد ما كان المال والمُلُك بإيدك صُرت تشتغِل أجير.. قال وتأفأف شوي: كنت أنزل بالسِرقَة عالبيادِر وأجيب شويِّة قمح من قمحنا عشان نوكُل..وبالليل أنزل على زتوناتنا على ضيّ القمر وأمْرُشلي شويِّة زتون وأرُصهن... كان صاحب البيت بِجت لمّا يجيب صحن الزتون كنت أحِسّْ اني باكُلْ زيّ الشحاد، بعِد ما كنت على زمان البلد أرُصّْ ثلاثين كيلو زتون من رِزْقي..ويجيك واحَد يشفَق عليك ويقُلَّك: خُذّْلك مغراف هالزيت، بعِد ما كنت أكيِّل عشرات الرطال من الزيت في كل موسم..سكَتْ أبو احمد شوي وقال: يا زَلَمِة بتحصَّر عهذيك الأيام..بدّي أفقع لمّا بتذكّر..يا ويلي عليّ، لو انّي إسّا اتنَعنَفْ بالرِزِقْ، أفرُط هالزتونات وأكيِّل الزيتات، وانا قاعِد زيّ الأفندي.. هاذا الظُلُم ما صارْ لا عِندْ الله ولا عِند عبيدو..الصِعِبْ إنّي بَشوف الرِزِق قُدّامي ومِشْ قادِر أصيبو، هياه فِشّْ اثنين كيلومتر من هون لعمقا!! إطَلَّعْ بعينَكْ واقهَرْ بْقَلبَكْ، يازلَمِة في مثل اللي بكَيِّلْ بْرِزْقو!!، دَنْدَنْ أبو أحمد بصوت العتابا الحزينِة مع مَدِّة الأوف... أوف أوف أوف:
طْلِعنا بْراس تَلِّة وارْتَعبناي
واشتَبكنا بِالمحبِّة وارتَعَبناي
يا ربِّ البيت لا تْضَيِّعْ تَعَبناي
سلِّملي على كل لِحباب
يا زَلَمِة لو في دين وديانِة وعدالِة بالدنيا، على الأقلّ اللي بقيو بِلبلاد يِرجعوا على بلا دهن وارضهن، شو هالقهر هاذا.
يا زَلَمِة الناس لا حارَبت ولا تشحّرت
قلت: بدّي أرجّعك يابو أحمد كمان مرّة عاللي أخذوا الأرض مِنَّك..قال: يا زَلَمِة الناس لا حارَبت ولا تشحّرت، بَلَدْ تْهَجِّجْ بَلَدْ..نروح على بلد يقولوا: شو بعِدكو هون؟ قوام انهِزموا...وكانت الطريق للشمال وللشرق دايماً مفتوحَة.
الأرض لا بْتِنباع ولا بْتِتْبدَّلْ
قلت: وشو صار في البلد بعد ما طلِعتوا منها؟ قال: البلد كلها انهدمَتْ ما ظلّْ فيها حجر على حجر، وما بقي منها إلاّ الجامع اللي بعدين كَعَرْ مِنّو حيط. وسكنوا البلد يهود يمنيين بَعِدهِن لليوم عايشين بأرضنا بعمقا وصار إسم البلد (عمكا) .. رُحتْ مرّة عأرضي بعمقا لاقيت يهودي يمني ساكِن عليها قُلتِلّو:هاي الأرض اللي انتي معمِّر فيها إلي..قال: هاي الأرض حقنا ومالكاش إشي هون..قلت: إنتي اللي ملكاش إشي إجيت وأعطتَك الحكومِة أرضي، بَسّْ بقُلَّك.. هذا تعبي والله لا يبارِكْلَكْ فيه.
قُلت: وشو بِتوصّي اولادك وأحفادك؟ قال: بوصّي الكُلّ ما يبيعوا وما يبادلوا الأرض، لأنّو اليهود ما بِحلموا إلنا بالخير وبدهِن يضحكوا عليهِن..الأرض لا بْتِنباع ولا بْتِتْبدَّلْ..يعني حتى لو قبِلنا بالتبديل، شو بدّهن يعطونا..هنِّ إلهن إشي بهاي لبلاد..بِعطونا بدل الأرض أرض من أملاك الغايبين، ساعِتها مْنُملُكْ أرض لِمهجّرين.. يالله بعوِّض الله علينا.. بس لا بُد من حلِّة والوضع ما بِدوم على هالحال.
المصدر: د.محمد فهيم نعيم سعيد داود الخالدي
amqaa@hotmail.com