في غرفة معتمة في مخيم برج البراجنة في بيروت، لا يزال للذكرى مكان في قلب "الحاجة عائشة"، المرأة السبعينية المقعدة، والجالسة على سريرها بعجز، بينما الدموع المتلألئة على وجهها تختزل 62 عاماً من المعاناة والحرمان والفقر.
بحروف مليئة بالحزن تقول: "اشتقتُ الى نسمة هواء منبعثة من فلسطين.. فهذا القبر الكبير الذي أعيش فيه غير مريح".
تصمت متخبطةً بين طفولتها الساحرة في فلسطين وبين حاضرها المرير، تسكنها الأرض بكامل تفاصيلها، تحتفظ ذاكرتها بملاعب الطفولة رغم أن طفولتها لم تدم طويلا ً هناك، فقد تركت بلدتها "الشيخ داوود" في قضاء عكا، يوم كانت في التاسعة من عمرها.
"كان.. كان.. كان.... اكره هذه الكلمة... نعيش على الذكريات فقط..!!" هذه هي كلماتها لدى سؤالها عن ذكرياتها في فلسطين، وكيف كانت الحياة هناك.
وحدها في الحياة
الحاجة "عائشه محمود حمود"، مواليد 1939، من بلدة الشيخ داوود قضاء عكا. مقعدة، تتحرك بصعوبة، ولا تستطيع خدمة نفسها. لا معيل ولا أحد لها.. تعاني من الكثير من الامراض أبرزها السكري، والضغط، والجيوب الانفية، وانحناء بالعمود الفقري، وغيرها، وقد أجريت لها عدة عمليات".
تعلق قائلةً: "قالوا لنا سنعود إلى بيوتنا بعد أسبوع، لكنَّ الأسبوع صار 62 عاماً، ونحن لا نزال نحلم بالعودة!! بدأنا بنكبة واحدة وهي نكبة ضياع فلسطين، ولكن ألا تعتقدين أنّ النكبة الأشدّ ألماً هي معاملتنا في مخيمات اللجوء؟ إنها نكبة انعدام الحقوق الإنسانية بسبب هوية مشؤومة! اذا احتجت لدخول مستشفى، عليّ أن اؤمن المبالغ الباهظة، وإلا لن يستقبلوني".
حكاية التشرد
لا تزال تتذكر لحظات النزوح المؤلمة، فتقول :"يومها كنتُ في منزل جدتي، حين أتى اليهود، خافت جدتي، فطلبت مني أن آخذ أختي وأخي الصغيرين، وألحق بالناس الهاربين. خفتُ وصرتُ أنادي أمي، فقالت لي جدتي إنني حتماً سأراها بين الحشود. التقينا بأمي واخذتنا الى بلدة عمقا. ولكن لاحقنا اليهود إلى هناك، وكانوا يطلقون النار في الهواء. تركنا عمقا مشياً، وصلنا الى بلدة اسمها جات للدروز. ثم وصلنا الى بين ليف، فاستقبلونا اهلها بالترحاب ونصبوا لنا الخيام، وقدموا لنا الاكل والشرب والاحتياجات الضرورية".
وتتابع متنهدة :"هناك التقينا أبي واخوتي وباقي أفراد العائلة. بقينا في بيت ليف مدة شهرين. وكان أبي قد أحضر معه البقرة، فكنا نشرب الحليب وكانت والدتي تصنع اللبنة واللبن والأرز بحليب والحلويات".
وتتابع مسترسلةً في حديثها :"قالوا لنا سنرجع بعد أسبوع إلى بلدتنا. وكان ابي قد احضر الحمار معه ايضاً، فكان يذهب بالخفاء إلى بلدة اخرى ليحضر لنا المؤونة محملةً على ظهر الحمار. كان يذهب مع اخي، وكانا يعانيان مشقات كبيرة وأورام عدة في الأقدام بسبب بعد المسافة".
تتابع قائلةً :"جاء فصل الشتاء، وأصيب والدي بالملاريا. نصحه أحد الأقرباء بالذهاب الى سوريا. فباع الحمار والبقرة والكثير من أغراضنا القيّمة، وتوجهنا إلى سوريا. لكننا لم نصل الى هناك، بل تركنا أحد الاقرباء في مدينة صور جنوب لبنان. اضطر أبي لتركنا في الشارع، وذهب ليجلب باقي اغراضنا، فصارت أمي تبكي لانها لا تعرف أحدا ً. عاد أبي في الليل، وصرنا نسير. توقفنا أمام مسجد، فدخل أبي وروى قصته. ويبدو أنّ هناك شخصا ً تأثر بقصة والدي، فخرج ورآنا: 6 اطفال صغار مع والدتنا".
تغمض عينيها كأنها تعيد شريط الذاكرة إلى الوراء، وتقول: "كان هذا الرجل فلسطينيا ً من حيفا. فأخذنا إلى مخيم البص، وأسكننا في منزل قديم. وبعد شهرين اتت الانروا وأخذتنا إلى مخيم عين الحلوة في صيدا. أسكنونا كلنا في خيمة صغيرة. وكان البرد شديدا ً والهواء قارساً، وكانت الشوادر تطير عنا وقت النوم، وكان أخي طويلا ً، فكانت رجلاه تصلان إلى خارج الخيمة، ومرة أذكر انهما تجدمتا من البرد. ولم ترض الأنروا اعطاءنا شادرا ً آخر بحجة ان عددنا أقل من 10 أفراد".
دمعة على وطن
تتأوه وتقول :"آه تنقلنا كثيراً.. انتقلنا من مخيم عين الحلوة إلى عدلون، وبعدها إلى مخيم البص، ومن ثم الى مخيم الرشيدية، والآن اعيش في مخيم برج البراجنة في بيروت. لم يكن والدي متحدثاً عظيماً.. بل كان صامتاً معظم الاحيان، يتذكر بلدتنا بصمت.. يجلس على سطع بيتنا وينظر بعيداً، كأنه يرى فلسطين ويعيش فيها. مات ولم يحدثنا الكثير.. كأنّ الحديث يؤلمه.. لكنني سرقتُ منه الكلام وكانت ذاكرتي تحفظه جيداً".
وتتابع قصتها بينما ترتسم على وجهها تعابير غير مفهومة :"لم أعرف يوماً واحداً سعيداً في حياتي. زوّجتني والدتي من ابن خالي "أحمد يوسف الخليل" عندما كنتُ في الخامسة عشرة من عمري، وكان يكبرني بعشرين سنة. وكان متزوجا ً من امرأة غيري، لكن لم يرزقه الله بأطفال. وبعد زواجي بثلاثة أشهر، عانيتُ من التهاب الزائدة، وبدلاً من استئصال الزائدة، تمّ استئصال الرحم والمبيض. كان الخطأ من الطبيب، وشارفتُ على الموت مرات عديدة. توفي زوجي وتوفيت زوجته، وبقيتُ وحدي في هذه الحياة لأعاني من شتى انواع الحرمان".
عندما تتحدث عن فلسطين لا تتوقف.... لا أعرف ماذا حصل لبلدتي، لكنها لا تزال جميلة في قلبي وذاكرتي. كانت بلدة الشيخ داوود تشتهر بالتين والقطنيات والزيتون والصبار والذره والقمح".
ترتسم ملامح الحنين على وجهها، وتقول: "كانت بلدة صغيرة، فيها حوالي 300 شخص فقط...." وهنا اختتمت حديثها لتودعنا الحاجة عائشة بدموع تقول العودة قريبة.
بيروت – جيهان القيسي – إنسان أون لاين -2010 -