جديدنا: وثيقة - مركز الوثائق الفلسطيني
مع دوي الانفجارات وعويل النساء وصراخ الأطفال والقتل والتشريد، كانت بداية المأساة للشعب الفلسطيني الذي هجر قبل نحو 62 عاما. ذكريات كلما تمر ببال الحاجة الثمانينية أم خالد كباجة، تبكي عيناها وهي تروي لأحفادها المتحلقين حولها.. تذكرهم بالماضي الذي تأمل أن يعود مع كل زفرة تخرجها حسرة على بلادها التي ضاعت عام 1948 بسبب ما أسمته "خيانة الحكام العرب". تجاعيد يديها ووجهها تعكس حكاية التهجير القسري التي مرت بها هي وعائلتها.. تتحدث وهي تنظر بعينيها الغائرتين، فالزمن لم يبق لها سوى القليل من النظر.. لتحكي قصة الوطن المسلوب. تنحدر الحاجة كباجة من قرية "الجورة" المحتلة التي تلامس رمالها مياه البحر الأبيض المتوسط وتبعد قرابة 5 كيلو مترات غربي جنوب مدينة "المجدل". تقول عن طفولتها "كانت طفولة جميلة وكنا نلعب بعض الألعاب التي كانت مشهورة في زماننا مثل لعبة حاكم جلاد والحجلة والاستغماية والقلول "البنانير" والكثير من الألعاب". تزوجت الحاجة كباجة وهي طفلة في الثانية عشرة، وفق عادات القرى الفلسطينية، والتي وصفته بالمأساة، حيث كانت تجهل مفهوم الزواج والغاية التي ذهبت لأجلها عند زوجها. وعن عادات قرية الجورة في أعراسهم أشارت أم خالد إلى أن العروس كانت تتزوج بالبدل "أن تبادل عائلتين بنتها بابنة العائلة الأخرى مقابل ابني كل منهما". تدمع عينا أم خالد وهي تذكر الجو الجميل الذي كان يغمر قرية "الجورة" حين تعقد الأفراح، وتقول :"عند زواجي أشعلوا النار..كانت حياة جميلة بكل معنى الكلمة". وأشارت الحاجة خلال حديثها عن علاقات الجيران قبل التهجير والتي تميزت بالألفة والمحبة والتزاور في الأفراح والأتراح، منتقدة الضعف الذي حل بالعلاقات الاجتماعية التي تربط الأسر الفلسطينية حاليا. اعتلت سماء القرية غيمة سوداء ولف جنباتها الحزن حين بدأت قوات الاحتلال بالاقتراب من المدن الساحلية فلم يتركوا بيتا إلا وعاثوا فيه خرابا. وعن تفاصيل التهجير تقول أم خالد :"بدأ اليهود بإطلاق القذائف على البلدة من البوارج البحرية والطائرات تقصف على البيوت واستشهد ما يقارب الثلاثون شخصا من شدة الإنفجارات المتواصلة على أهالي القرية". وأضافت: "غادرنا قريتنا إلى قرية هربيا المنحدرة أسفل قرية الجورة لنحمي أنفسنا من زخات الرصاص المتوالية على البيوت"، وتتابع "لم يأخذ المسير من قريتنا إلى هربيا سوى ساعات قليلة ومكثنا هناك ولم يكن معنا ما أسد به رمق زوجي وابني الذي يبلغ من العمر أربعة أشهر حينها إلى أن لاحقتنا قوات الاحتلال لترحل أهل القرية وتعيث خرابا ودمارا فيها". وأشارت إلى أن القوات العربية وجهت رسائل لسكان القرى تحذرهم من إشعال النيران ليلاً وان عليهم الخروج من بيوتهم لمدة خمس أيام أملا بأن يعودوا بعدها لقراهم. وتروي الحاجة كباجة وهي ترتدي ثوباً ومنديلا مطرزين، حكاية نكبتها التي لن تنساها أبدا، "انتقلنا إلى قطاع غزة خلال أسبوع ونصف الأسبوع وبدأنا بالتأقلم مع الوضع الجديد ومن ثم إلى مدينة رفح وجلسنا حينها تحت شجرة الجميز التي أصبحت فيما بعد أقطف ثمارها لصاحب الأرض المزروعة فيها مقابل بعضا من الثمار". انتقلت أم خالد وزوجها الذي كان يعمل صيادا في قريته التي هجر منها، من مدينة رفح إلى مخيم "الشاطئ"، مكثت فيه خمسة عشر عاماً، لكنها تستقر اليوم في حي الشيخ رضوان بمدينة غزة. لم تستطع أم خالد أن تحتفظ بشيء يثبت أملاك عائلتها في قرية الجورة والمتمثلة في بساتين البرتقال والخضراوات، بسبب ما اسمته "خيانة الإدارة المصرية" التي طالما وعدتهم بالعودة إلى أراضيهم. وبكلمات ملؤها الثبات قالت أم خالد: "لن نسمح لليهود بتشريدنا من قطاع غزة مجددا"، في إشارة إلى الحرب الأخيرة على قطاع غزة، والتي تشردت فيها العشرات من العائلات عقب تدمير بيوتها.."يكفينا نكبات" كما قالت. وتعتبر الحاجة أم خالد أن الحكام العرب خذلوا الشعب الفلسطيني وما زالوا كذلك، لأنهم من وجهة نظرها "لا ينظرون إلى ما يحل بالشعب من نكبات ومذابح وآلام". ويبقى حلم أم خالد بالعودة يراودها وإن لم تعد هي فسيعود أحفادها، حتى يعيدوا للأرض مجدها وعزتها التي سلبت على يد الجيش الذي يزعم أنه "لا يقهر" وتؤكد الحاجة اللاجئة وهي أم لأربع من الأولاد وخمسة من البنات، ولها من الأحفاد الكثير، أنها لم تدع لحظة لم تذكرهم فيها بقريتهم الأصلية "الجورة" التي حتما سيعودون لها مهما طال الزمن.