الشهيد الأول
عبد القادر أبو الفحم..
صالح أبو طايع
الشهيد الأول
عبد القادر أبو الفحم »أبو حاتم«
الإنسان الذي لم تمنعه جراح معركة الرصاص
عن المشاركة في معركة الإرادات.
معركة الإضراب عن الطعام.
الإهداء..
إلى رفاق القيد..
إلى الذين جعلوا، ولا زالوا، منسنيِّ عمرهم لبنات، بثواني العذاب ودقائقه، يجبلونها ليبنوا فيها مجد فلسطينوعزتها..
صالح..
صالح إبراهيم أبو طايع
- فلسطيني مواليد 28/12/1944 قرية زيتا- طولكرم.
- هاجرت عائلته في تاريخ 1950 إلى الأردن – اربد
- سافر عام 1965 إلى ألمانيا للعمل
- التحق بالعمل الفدائي – حركة فتح – عام 66 في ألمانيا
- دخل فلسطين في شهر آب عام 1967 ضمن دورية عسكرية
- وقع في الأسر بتاريخ في شهر تشرين أول عام 1967.
- تحرر من الأسر عام 1985 ضمن عملية تبادل الأسرى (عملية الجليل) بين الجبهة الشعبية – القيادة العامة وبين العدو الصهيوني.
عبد القادر أبو الفحم «أبوحاتم«
* عالم الشهادة والشهداء، والقداسة، والمقدسات، عالمان مترابطان، يعطي كلمنهما الآخر، يؤثر فيه، يبعث فيه دفئاً، نوراً، فيزيده ألقاً.
الثاني نهر غزير، ينبع من الأزل، يمر في الحاضر، ليصب في المستقبل، في الأبدية.
الأول، رافد قوي، وغزير أيضاً، ينبع من الحياة، يسير معها، حتى يلتقي ذلك النهر الأزلي، فيزيده قوة وتأثيراً.
الثاني، سابق للأول، وأساس له، فهو ابن الأزل، أما الأول فهو ابن الحياة يضفي على ذاك قيماً إنسانية، بعداً إنسانياً.
بلا أدني شك، هناك فرق، ينجلي ذلك، حين الولوج إلى أي منهما، فعند الدخول إلى مكان مقدس يعتري الداخل إليه شيء من الرهبة، والخوف، لأن من أضفى القداسة على ذلك، قوة غيبية، إلهية، غير ملموسة، ولا واضحة للعيان، مع أنك قد تدرك كنهها، تظل عاجزاً عن إدراك حدودها، فتصورك أو قدرتك على التصور لا يمكنها الوصول لأبعاد غير المحدود، والإلمام به.
أما عند الولوج إلى عالم الاستشهاد، ترى أمامك، إنساناً معروفاً ملموساً، كائناً محدداً ومحدوداً، إلا أن عمله، وما قام به، حين ضحى بنفسه راضياً فاق أبعاد ذلك الجسد وطال أبعاد اللامحدود، أبعاد القداسة، غير المدركة لديك قبلاً، فتدركها وتكاد تلمسها، بفعل ذلك العمل العظيم.
عندها يعتريك الخشوع، وليس الرهبة، يعتريك الإعجاب والتقدير، وليس الخشية والخوف، فما تشاهده، يثير محبة، عاطفة إنسانية، إزاء ذلك الإنسان العظيم، يثير لديك الرغبة والأمل، أن تغدو بمستوى ذلك البطل الشهيد، أن تصبح لديك القدرة لتتمثل ما بنفسه النبيلة، من مبادئ وقيم سامية.
حينئذ يصير المحسوس مجرداً، يصبح قيماً ومعان إنسانية، تلتحق بالنهر الأزلي فتبات جزءاً منه، رغم ذلك يبقى واضح الأبعاد، يظل معلماً على الطريق، يرشد الآتي نبعده، والسائرين على دربه.
هكذا كان أبو حاتم، إنساناً، وشهيداً، وما تركه من انطباع، لحظة موقفه العظيم ذاك، هي لحظة معرفتي به لحظة قصيرة كانت، بل قصيرة جداً، من حيث الزمن لكنها قوية، وعميقة من حيث الأثر، قوية، قوة الإيمان الذي اعتمر قلب ذلك الإنسان النبيل وعميقة عمق الكبت والقهر اللذين ضاق بهما صدر أول عبد في التاريخ، فأطلقها، صرخة مدوية، لازال صداها، فاعلاً، وسيبقى يشق طريق الحرية، عبر التاريخ.
والآن، وأنا أخط عنه هذه السطور.. أتساءل إن كنت قادراً على إيفائه حقه، بسطور أو صفحات قليلة!! هل أقدر على صياغة وتجسيد مأثرته، وعمله العظيم ذاك؟!
لا أعرف. لكن حتى لو نجحت، فالفضل، أولاً، وأخيراً، سيكون له، أما الفشل، أو لتقصير، فهو مسؤوليتي، فالصائغ الذي يتناول مادة خام، لأي معدن ثمين، كي يشكل منها حُلية جميلة، ذات قيمة.. فسواء نجح أم فشل، لن يقلل، بأي حال من الأحوال، من قيمة ذلك المعدن الثمين.
الشهيد الذي بدمه الطاهر صاغ مجده والذي هو بالضرورة، مجد شعبه، مجد أمته. جعل من دمه الغالي، بعمله الإنساني ذاك، مداداً ليصيغ به من يشاء، سيره ذاتية قصة، قصيدة، أو أي عمل إبداعي، فإن نجح في جعل ذلك الدم الحبيب، يتسلل عبر الكلمات، ليكسبها القوة والتأثير، فالنجاح حتماً سيكون حليفه، إلا أن الفضل سيبقى بالضرورة، للدم المقدس، دم ذلك الإنسان، الإنسان، والفشل لن يؤثر بأي حال على قيمة الدم وطهارته.
إن إبراز، تلك المأثرة الإنسانية، هو حق، وواجب. حقه علي، كواحد كنت معه لحظة مأثرته، أنا الذي أفتخر، بتلك اللحظة، وأعتز.
واجب عليّ، وقد كنت شاهداً، مع آخرين، على إنسانيته التي تجلت في موقفه العظيم ذاك. واجبي أنأ برز تلك المأثرة التي جسدت قمة التفاني، بل كانت التفاني ذاته، وهل هناك تفاني أكثر من أن يحرم إنسان أطفاله حنان الأبوة، ليهب الحنان لكل أطفال فلسطين. بأن يكون لهم مستقبلاً، أن يكون لهم وطن.
من الواجب أن يعرف شعبنا البطل، وأمتنا العظيمة، أن ما يجري الآن، من تسابق هناك في فلسطين، صوب الشهادة، لم يأت من فراغ، ولم يكن نبتاً شيطانياً، حتى يستنكره أدعياء الثقافة، والمثقفين، عبدة الدولار. لقد جاء من رجال »صدقوا ما عاهدوا الله عليه« من رجال أدركوا، ووعوا مبكراً، أهمية الشهادة، والاستشهاد. كشهيدنا البطل وربحي أبو الشعر، الفوسفوري، راسم حلاوة، علي الجعفري وآخرين.
قبل الدخول إلى رحاب الشهيد، والحديث عن شخصه، والظروف التي أحاطت باستشهاده، وكيف استشهد، أرى لزاماً العودة إلى أيام الاعتقال الأولى، وقبلها بقليل، وما تميزت به تلك الفترة، سواء من جهتنا نحن، أم من جهة العدو.
إن ظاهرة الاعتقال والمعتقلين، في ظروف ثورة، ظروف شعب يقاوم الاحتلال كشعبنا هي ظاهرة طبيعية، وحتمية، يمليها منطق الأمور، وطبيعة الصراع.
إلا أن ذلك الأمر، على بساطته، وبداهته لغاية الوعي والإدراك، وأهميته وضرورته لذات الغاية، لم يكن واضحاً للعديدين والكثير من المقاتلين الفلسطينيين لم يدركوا ذلك والسائد كان فهم خيالي يقول: لن أقبل بالأسر، لأني سأترك آخر رصاصة لنفسي في حال الاشتباك مع العدو.
لقد ثبت أن ذلك الكلام، لا يعكس حقيقة، وناتج عن افتقار للمعرفة، بحدها الأدنى، لطبيعة العدو، وعن فهم رومانسي للعمل المسلح، والثورة عموماً، بعيد كل البعد، عن الحقيقة، والواقع وتبين، في حالات كثيرة، أنه يعكس طيشاً وغروراً.
كثيرة هي الحالات التي كان يقع الإنسان فيها أسيراً، من حيث لا يدري، بلا حول ولا قوة. وفي الانتفاضة الباسلة التي يخوضها شعبنا العظيم، منذ عامين تقريباً، رأينا رجالاً صمموا على الاستشهاد، وتقدموا لتحقيق ذلك، فوجدوا أنفسهم وسط ظروف حالت دون تحقيق حلمهم، فباتوا أسرى لدى العدو.
لابد من الإشارة، إن انتقادي، لهذا الأمر، ليس انتقاداً للشباب الذين كنت واحداً منهم وتفكيري ورؤيتي لم يختلف عن فكرهم، ورؤيتهم، فهذه طبيعة الشباب: الاندفاع، والمغامرة، والذي يتحمل مسؤولية ذلك، ليسوا هم وإنما الفصائل بكافة ألوانها، التي كانت تفتقر للكادر السياسي القادر على رفع السوية السياسية والنضالية للمقاتلين، حيث في حالات عديدة، كان الكادر السياسي لا يختلف عن المقاتل نفسه، في فهمه للأمور ونظرته لها.
الحقيقة الساطعة، إننا لم نكن نعرف عن العدو شيئاً ذا قيمة، اللهم إلا سلبه أرضنا وتشريده لشعبنا، وهو أمر بلا شك مهم. فعلى أهميته، ويفيد بالتحشيد حتماً، فأنه لا يفيد في المواجهة خاصة، إذا كان يتيماً، وكي يكون ذا فائدة، إضافة إليه، يجب أن تكون هناك، معرفة جيدة بالعدو، من مختلف الجوانب.
إذا كان العدو، من حيث الشكل قد شكل مفاجئة للكثيرين، عندما رأيناه جندياً، أو مستوطناً في شوارع نابلس، طولكرم، جنين، والمدن الفلسطينية الأخرى، وكان السؤال الغريب على لسان الكثيرين: أهذا هو اليهودي؟ فأين نحن من المعرفة الحقة به؟
نعم كنا نعرف إنه الذي اغتصب أرضنا وشرد شعبنا، وواثقين من معرفتنا تلك، ولم يكن بمقدور فيلسوف صهيوني أن يقنع إنسان فلسطيني، عكس ذلك، حتى لوكان ذلك الإنسان أمي، فمحو الأمية، بحاجة إلى كتب، وأقلام، ومعلمين ومدارس، أما أنتعرف أن فلسطين أرضك، وأن الصهاينة هم الذين شرّدوك واغتصبوها، فليس بحاجة لكل ذلك، فقد تم عفوياً وتلقائياً. فمن جهة المأساة يعيشها الجميع صغيراً وكبيراً، متعلماً وأمياً، من جهة أخرى أحاديث الجد والجدة، الوالدين والكبار عموماً. الذين ولدوا في فلسطين، وعاشوا على أرضها، تنسموا عبيرها، وبعرقهم وجهدهم صارت خيراتها التي تنعموا بها، بحكاياتهم لأطفالهم عن فلسطين، وأرض فلسطين، عن حيفا ويافا، عن الجليل، والبحر، ومرج ابن عامر، بحيرة طبريا والحولة، عن برتقال فلسطين وخيراتها، عن الأحبة والجيران، الأفراح والأتراح، عن النكبة وتداعياتها، وما آلت إليه فلسطين وأهلها. تلك المعرفة، العفوية جداً، والضرورية جداً، لم يكن لأي تنظيم فلسطيني فضل بها، الفضل كل الفضل، لأولئك الناس البسطاء، الطيبون، العظماء، الذين بأحاديثهم، ربما من حيث لا يدرون كانوا يزرعون حب فلسطين في أبنائهم، كانوا يسلمون الراية لجيل ما بعد النكبة.
واعتقد جازماً، أن الجهل في العدو وطبيعته، لم يقتصر على المقاتلين فقط، بل تعداه إلى غالبية القيادات على اختلاف اتجاهاتها، إن لم يكن جميعها.
فلا أزل أذكر، سؤال وجهه أحد الأخوة المقاتلين، قبل انطلاقنا إلى داخل الوطن المحتل لأحد القادة السياسيين، والسؤال كان: ماذا سنفعل بالجنود اليهود في حال وقوعهم أسرى بأيدينا؟؟.
الجواب: ماذا ستفعل بهم!! هذا عدو، ليس معترفاً بك، ولا أنت تعترف به، أطلب من الأسرى أن يتجه اليهود الشرقيون إلى جهة، والغربيون إلى جهة أخرى، ثم أطلق النار فوراً على اليهود الغربيين، واقتلهم. أما الآخرين، وهم يهود شرقيون فألق بهم محاضرة قصيرة، على أننا عرب، وأصحاب قضية واحدة، ثم أطلق سراحهم.
عندما سمعت ذلك الكلام، اعتبرته توجيهاً مهماً، وأوامر يجب الالتزام بها. بعد الاعتقال والاحتكاك بالعدو، تبين لي مدى الجهل الحاصل، وهو ينسحب على الجميع: قيادةً، ومقاتلين، وأنه لا يعكس جهلاً بطبيعة العدو فقط، وإنما لا يعكس فهماً لطبيعة فلسطين وتضاريسها، حيث لا يوجد مكان في فلسطين يوفر الحركة الآمنة لعدد من المقاتلين، قادراً على أسر عشرات ومحاكمة بعضهم، والمحاضرة أمام البعض وإطلاق سراح آخرين.
بهكذا حال، وهكذا فهم، أصبحنا أسرى لدى العدو. فكانت عملية الأسر ذاتها، مفاجئة مذهلة، وما قد يترتب على مفاجئة كتلك من تداعيات.
أما بالنسبة للعدو خلال فترة الاعتقال الأولى (أي في النصف الأخير من العام 1967) فلم يظهر هناك ما يوحي باتخاذ إجراءات معينة لصياغة سياسة خاصة للتعامل مع المناضلين الأسرى. لم يهتم العدو بذلك، معتقداً أن الإجراءات والقوانين التي كانت قائمة سابقاً، قادرة على معالجة ظاهرة الأسرى الجدد.
سجن الرملة وهو السجن المركزي الذي أخذ العدو يجمع فيه ذوي الأحكام العالية، في قسم خاص يطلق عليه »قسم المتسللين«. كانت المعاملة فيه معقولة، بل جيدة في جوانب عدة. هناك أسرّه للأسرى، مخدات، شراشف، الأكل كان جيداً، الفاكهة تقدم مع وجبات الغداء، الفورة »النزهة اليومية«. في البداية كانت هناك مضايقة، أثناء الفورة، لكنها، أي المضايقة، لم تستمر، وانتهت، وكذلك الزيارة كانت جيدة، فلقاء الأهل كان يتم دون حاجز، وحتى بلا شبك فاصل. وإذا سألنا: لماذا كانت مثل هذه المعاملة المعقولة؟ أعتقد أن ذلك ناتج عن عاملين:
الأول: خروج العدو منتصراً على ثلاثة جيوش عربية، فربما خلق ذلك لديه الكثير من الغرور.
الثاني: وأعتقد إنه الأهم، سبق للعدو أن تعامل مع ظاهرة فدائيين، الشهيد مصطفى حافظ ضابط المخابرات المصرية، في قطاع غزة، إضافة لعدوان 1956 وما تلاه. حيث وصل عدد المناضلين في سجون العدو، خاصة سجن شطة، عدة مئات.
الظروف التي عاشها أولئك الأبطال، عدم اهتمام، ومعرفة الرأي العام، خاصة الفلسطيني، والعربي بهم، جعل العدو ينجح في فرض الشروط التي أرادها عليهم، فلم يستطيعوا مقارعة العدو، داخل المعتقل، إلا في قلوبهم العامرة بالإيمان بالله، وبحقهم، وبالحقد على عدوهم، وسالب أرضهم، وأنا هنا لا أقصد الحط من قيمة أولئك الرجال، والتقليل من شأنهم، لقد آلم أولئك الأبطال العدو كثيراً، بما قاموا به من أعمال، وهم الذين ولدوا ونشأوا وعاشوا على أرض فلسطين، ويعرفون تضاريسها جيداً. والدليل ما يقوله أحد الكتاب »الإسرائيليين« عن تلك الفترة في كتابه: »كان هذا سري جداً« حيث يتحدث في أحد المقالات عن عملية اغتيال الشهيد مصطفى حافظ أقتبس هنا جزء مما قاله عن الذي جرى في تلك الفترة لهم:
»إلى أي مدى وصل القتل، والاختراقات لحدود الدولة. ما بين 1-7 نيسان 1956 بعد أسبوع من تبادل إطلاق النار، على حدود القطاع، حين رد الجيش على عمليات الفدائيين. لقد أرسلوا إلى داخل إسرائيل عشرات الخلايا، ما يقارب 200 رجل،
لقد ذهبوا حتىالشمال لمدينة اللد. في قرية »جبر« قتلوا عدة أشخاص دون تمييز في مستوطنة »ستيرا« ذبحوا بالسكاكين المستوطنين وهاجموا من الكمائن السيارات على طريق بئر السبع، أطلقوا النار على السيارات التي تسير على شارع الرملة تل أبيب قتلوا الجنود، وجعلواالرعب يخيم على الدولة.
إن أكثر ما آلم العدو من الناحيتين المادية والمعنويةنجاحهم في الهرب من سجن شطة، بعد أن سيطروا على مخزن السلاح، وقتلوا الحرس، فاستشهدمنهم من استشهد. وفر الكثيرين من السجن.
لقد جعلوا العدو، يستحضر الذكرى المؤلمة في كل عام، ليستقي العبر، وينقلها للجيل الجديد من حرس السجون. والحقيقة أن العدو شديد الحرص، وباعه طويل في هذا المجال، فما أن تحدث مشكلة أو تمرد، أو عملية هرب كبيرة، في سجن ما من العالم، يبادر بإرسال لجنة خاصة، من إدارة السجون إذا كان ذلكم مكناً، لدراسة الحالة واستخلاص العبر.
ما فعله أولئك الرجال، لم نستطع فعله نحن، وذلك ليس لعدم توفر رغبة لدينا للهرب، أو التحرر فذلك أول ما يفكر به السجين، وأكثر ما يشغل باله، خاصة في بداية الاعتقال. لكي نكون صادقين مع الغير، ومع أنفسنا، وأن لا نجعلها عرضة للجلد دائماً. إن اجراءات العدو الدائمة، والمتجددة. مجمل الشروط المفروضة، الوقت الطويل داخل الغرف المغلقة، مساحة الحركة المسموح بها من حيث المكان والزمان، شكلت عائقاً من الصعب، أن لم يكن من المستحيل تجاوزه. كان أولئك المناضلون رجالاً بحق، آلموا العدو وأزعجوه كثيراً وهو لم ينس لهم ذلك، فبعدد خول قطاع غزة عام 1967 أخذ بجمع المعلومات عنهم واعتقل من استطاع اعتقاله منهم وفي سجن الرملة، رأينا هناك أكثر من واحد منهم.
ربما لهذين السببين أظهر العدو ما أظهره، في البداية من معاملة معقولة، وربما أيضاً لسبب آخر، رغبته أن يتعامل معنا كخلية نحل، من حيث القطف، قطف الدم طبعاً، وليس قطف العسل.
في الأيام الأولى، أو الأسابيع الأولى، عندما كان غالبية المعتقل من الموقوفين، والمحكومين قلائل نسبياً، جاء مدير سجن الرملة المدعو »الياس« وهو يهودي من أصل روماني، مع ضابط إدارة السجن وهو يهودي مصري يدعى "إدغر". طلب الأخير بحضور مدير السجن من المعتقلين الـ 150 التبرع بالدم لإخوانهم الفدائيين الجرحى المتواجدين في المستشفيات. طبعاً، مسالة الإخوان الجرحى، هي تضليل من جهة، وتوفير تبرير من جهة أخرى، للأسير أمام ذاته، ولأن الاعتقال كما قلت، كان مفاجئة، فقد أخذ العدو 150 وحدة دم 500 س. س من كالأسير.
بعد ثلاثة أشهر، جاءت الإدارة مرة أخرى فاصطدمت بممانعة لكنها لم تكن شاملة. فقد أعطى 30 شخص، كما أعطوا في المرة السابقة. ومن جديد جاءت الإدارة بعد ثلاثة اشهر، في هذه المرة كان الرفض شاملاً، فلم تعد بعدها.
إثر النتيجة المذهلة لحرب الأيام الستة، حيث غدا الجزء المتبقي من فلسطين، أرضاً وشعباً تحت الاحتلال الصهيوني، إضافة لمناطق عربية أخرى كسيناء، والجولان.. إذ أصبح بحدود مليوني فلسطيني، عربي، عدا فلسطيني الـ 1948، تحت نير الاحتلال، ورغم الصدمة المذهلة، نتيجة لذلك العدوان، فإن شعبنا العظيم، الذي سبق وامتشق السلاح، قبل تلك النتيجة الكارثية، لاستعادة حقوقه، لم يخضع، ولم يستسلم، بل أخذ بمقاومة الاحتلال، بواسطة المؤسسات الشعبية، كاتحاد المرأة، والنقابات العمالية والحرفية، والهيئات الطلابية، وقطاعات أخرى من جماهير شعبنا العظيم.
لقد كان شعبنا عظيماً، وهو ينخرط بالمقاومة بمختلف فئاته، في الوطن، والشتات. شكَّل من وسائل النضال المختلفة أدوات وآلات جاعلاً منها فرقة تعزف لخلود الوطن، فغدا لحناً، غاية في الروعة ترك آثاراً طيبة على المجالات السياسية، والاجتماعية ليس على الصعيد الفلسطيني فحسب، وإنما على الصعد العربية، والإسلامية والإنسانية، فغدت فلسطين محط أنظار أحرار العالم، وشرفائه، وصارت قبلة لمحبي الحرية، وعشاقها، يرفعون لواءها، يدافعون عنها في كل محفل، ولم يزدها صلف الأعداء وعنصريتهم، إلا تألقاً، وبهاءً.
صارت قضية الأسرى، لما تمثله من أهمية، واهتمام، وتقدير إنساني، في الوجدان الشعبي الفلسطيني خاصة شعبنا في الوطن المحتل، خط تماس مع العدو، دائم المناوشة، يشتعل، ويخبوا تبعاً لظروف المعتقلين، وحركتهم الهادفة تحسين شروط حياتهم.
إن ما تم تحقيقه خلف جدران السجن، لم يتم بفضل نضال المعتقلين فقط، وإنما بفضل جهد ومعاناة، أخواتنا وأمهاتنا، وشعبنا عموماً، الذين كان لهم الفضل الأكبر في الإنجاز.
منذ البداية، كان للتحرك الشعبي أثراً إيجابياً علينا داخل المعتقل، الأمر الذي جعلنا نحس الدفء، رغم برودة الجدران، وشعرنا، رغم القضبان، والأسوار العالية، إننا لسنا وحدنا وأن شعبنا وأمتنا معنا.
بسبب ذلك، بفضل الحالة الشعبية الإنسانية المتداخلة، والمتأثرة جدلياً، بنواحيها المختلفة ورغم افتقار الغالبية منا، للوعي بأشكاله المتعددة، ربما كلمة تنظيم كمفهوم لم تكن مدركة من قبل الكثيرين، مع كل ذلك، بدأت تتشكل نويات للوعي الوطني والسياسي، فأخذ المعتقلون الأوائل يرشدون القادمين حديثاً، الذين لم يحاكموا بعد، كل بأسلوبه الخاص، كيف يواجه المحقق، وكيف يقف في المحكمة، وماذا يقول. فكان ذلك بداية تشكل الوجدان الجماعي، الشيء الذي لم يألفه العدو وربما لم يتوقعه، ولم ولن يقبل به.
كان في سجن الرملة، بعض مراكز العمل، ليعمل بها المعتقلون. أسوأها وأثقلها على النفس العمل في شبك تمويه الآليات العسكرية، ولأن التنظيم في السجن كان في بداية الطريق، ولم يصل لما وصل إليه لاحقاً، من حيث الضبط والالتزام، صار رفض ذلك النوع من العمل، قراراً شخصياً للمقتنع بخطورة ذلك النوع من العمل، فبدأ الرفض كأفراد ومجموعات صغيرة.
كان مصير من يقدم على ذلك، الحكم عليه، من قبل مدير السجن، أو نائبه، أن يرسل إلى الزنزانة لمدة أسبوعين، أربعة أيام، يومين من كل أسبوع، يحرم خلالهما من الطعام باستثناء الخبز والماء وأحياناً يكون هناك عزل عن السجن لفترات طويلة في الانفرادي، أو أن يتم الحرمان من زيارة الأهل، مرة أو مرتين.
صحيح أن تلك الطريقة في الرفض، لم تؤد إلى إغلاق مركز العمل ذاك، إلا أنه اصبح عامل توتر بين الإدارة والمعتقلين، غدا كالنار دائمة الاشتعال، وقودها، دوام واستمرار الرافضين لذلك النوع من العمل.
بدأت إدارة السجن باتخاذ خطوات إجرائية ضد المعتقلين، فأخذت بتغيير نوعية الطعام، الفاكهة لم تعد موجودة، سحبت الشراشف، تم تقليص وقت الفورة. كانت إدارة السجن، تركز في تعاملها مع المساجين الأمنيين كما كانت تطلق علينا، على أساس فردي وأن الفرد مسؤول أمامها، عما يقوم به لهذا كانت شديدة الحرص على محاربة أية علاقة بين المعتقلين، تجعل منهم، أو تساعدهم، في أن يشكلوا مجموعاً صفاً واحداً يقفقبالتها. وهذا أمر منطقي ويعتبر نهج لأية إدارة في أي سجن من سجون العالم، في حالالمساجين المدنيين، خاصة وإن أولئك هم مجرمون طبعاً للقانون المتبع في هذا البلد أوذاك، وهم في النهاية، مهما كانوا لا رابطة بينهم ولا هدف يجمعهم.
أما بالنسبةلنا، وهو ما كانت إدارة العدو، بالأحرى سياسة العدو تتجاهله، فالعلاقة بيننا قوية،وهي جزء من فكرنا، من نفسيتنا والهدف في أعماق تلك النفس نشأ وترعرع، وصار جزءاًأساسياً منها. شيء لا يمكن تجاهله، أو محاربته. والانتصار عليه، إلا بقتل تلك النفسمعنوياً، إفراغها من محتواها وجعلها مجرد إطار، يملؤه العدو، بما يحب ويشتهي كي يكون خاضعاً له، يأتمر بأمره. كان الصراع شديداً، وغدت تلك المسألة، قانون الصراع الأساسي، في ساحة الأسر، وحسم ذلك الصراع من قبل العدو، يعني تحقيق هدفه، وتعني النهاية لنا، أما بقائه والانخراط فيه من قبلنا يعني الحفاظ على وجودنا الإنساني، وهو الهدف.
لقد كنا ندرك ونعي جيداً، أن حسم الصراع القائم في ساحة الأسر غير ممكن، فحسمه يعني تحقيق الهدف، تحقيق النصر، تحرير فلسطين. فأي معتوه هذا الذي يمكن أن يعتقد ذلك!!
بقاء الصراع فقط، واستمراره هو الذي يحفظ وجودك، ككائن سياسي، أو كحيوان سياسي إن شئت فذلك مهم، بل مهم جداً. وهو يعني حفظ الحلم، وصونه في نفوسنا، خاصة وأن العدو لا يمكن أن يغير طبيعته، ويقر بإنسانيتك. ولو فعل ذلك،لزالت عنه صفة العدو.
عندما كنا نضرب عن الطعام كان العدو يدعي أن هدف الإضراب سياسي. ادعاء كهذا من حيث الشكل يبدو هراء، كلام فاضي، حيث ظروف الاعتقال القاسية أصعب من أن تؤكد ادعاء كهذا. أما من حيث المضمون، هو كذلك بالفعل، وادعاء العدوصحيح من خلال هدفه ورغبته بإخضاعنا. إعلاننا الإضراب أيضاً صحيح، وليس له أبعاد سياسية، إلا إذا اعتبرنا تمسكنا بإنسانيتنا هو هدف سياسي، وهو كذلك بالفعل، لكن المطلب هنا، أقل ما يمكن أن يطلبه إنسان، كالماء والهواء. عندما نتمسك بإنسانيتنا، يعني أن نتساوى مع الإنسان، أي كان، ونتميز فقط عن الحيوان كقول المسيح عليه السلام: »ليس بالخبز وحده يحيى الإنسان« الحيوان قد يعيش بالخبز، وأقل من الخبز، أما الإنسان فلا. وهذا ما نريده، ونتمسك به. حتى لو كلفنا حياتنا.
بينما العدو يبذل قصارى جهده كي يحرمنا من ذلك، بهذا الشكل، بهذه الصيغة، يكون الصراع صراع سياسياً، وذلك يكشف مدى العنصرية التي يتميز بها العدو.
لو فرضنا جدلاً أن العدو وفَّر الضروري لحياة الإنسان، دون استهداف إنسانيتنا والمساس بها، وقمنا حينها بإعلان الإضراب عن الطعام، بذريعة ما، حينها يكون هو في موقف القوي ونحن في موقف الضعيف، الشيء الذي لم ولن يحدث.
أصدق تلك التجليات، كانت تظهر أثناء الإضراب عن الطعام، ففي اليوم الثالث أو الرابع في أكثر تقدير تتعطل جميع غرائز الجسم، بالأحرى غرائز النفس، حتى غريزة حب البقاء، قد لا تظهر مباشرة وتبقى غريزة الأكل، كحيوان مفترس، تجوب النفس والذاكرة والوجدان، حتى تسيطر على الجسم والنفس، والعقل يغدو كائناً منهكاً يفضِّل النوم والهدوء.
مركز الكون غدا الطعام، إذا ما تخيلت أمك، أو أختك، أو أي إنسان عزيز، لرأيت الطعام معه أو إلى جانبه. والإنسان في حالة كتلك يصير أنانياً، ممكن أن يزاحم أمه، أخوه، أو حتى طفله الصغير على الطعام، فما الذي يجبر الإنسان على الصبر في هكذا حالة!! لماذا لا يجري خلف الغريزة، ويطلب من الشرطي طعاماً، وحتماً سيستجيب له على الفور. لكنها القيم، الأخلاق الإنسانية. فما أن يطرح -وهذا الأمر المثير الذي يؤكد إنسانية الإنسان- موضوع إنهاء الإضراب بناء على اقتراح من أحد رجالات الإدارة، حتى يستفيق العقل فجأة كشمس بددت بأشعتها اللاهبة جماعة الغيم، فبدت مشرقة، ترسل الدفء على الكون، وهكذا العقل ينهض صافياً يناقش بهدوء، ومسؤولية، مسألة حل الإضراب أو عدمه.
كثيرة هي الأمور المضحكة التي تحدث في جو كهذا، فتصبح دعابات يخفف بها السجين وحشة السجن. الطعام يصبح عالم المضربين عنه، ومهما يكن نوع الحديث بينهم، يقود في النهاية إلى الطعام، وصنعه، والإنسان بينه وبين نفسه في تخيلاته، أحلام اليقظة التي يسأمها ويملها أحياناً كثيرة, فيرفضها ويطردها من مخيلته، لتعود رغماً عنه، مع الموضوع المفضل الوحيد، الأكل والطعام.
في الإضراب العظيم، بل الإضرابين، الذي يفصل الأول عن الثاني، شهر بالتمام، فقد انتهى الإضراب الأول في 25/1/1977، لنعود إلى الإضراب من جديد، بعد نكث مديرية السجون التي وعدت به على لسان مديرها العام »حييم ليفي« في 25/2/1977.
في اليوم الواحد، والأربعين، أو الثاني والأربعين، من الإضراب الأول، عندما كنا معزولين في سجن بيت ليد، كنا نتحدث وليد الحسني »أبو صلاح«، خالد عبد الرحيم، اسماعيل دبج، وبدران (رحمه الله)، وأنا. بدأ الحديث أبوصلاح، حين قال: بعد خروجنا من السجن، سأفتح محل حدادة، واشترك الجميع في الحديث وحددت طبيعة المحددة، في النهاية، لم يعرف أحد كيف صار لتلك المحددة مطبخاً، يطبخ أطيب الأكلات وأشهاها.
في ذات الفترة، وهوس الطعام لازال مسيطراً على النفوس، جاء زوار إحدى مناطق قطاع غزة.. خرج رأفت النجار وكانت أمه آتية لزيارته، فأخذ يطلب منها أن تربي واحدة أو اثنتين من الماعز، وتسقي الحليب لإخوانه، وتطبخ لهم رز وحليب، وتعمل لهم لبن، ولبنة. بعد خروج أمه من الزيارة أجهشت بالبكاء، لاعتقادها أنولدها قد فقد عقله.
عطية العبطان »أبو العروبة« (رحمه الله). شاب من شمال العراق، ومن خيرة الشباب العربي كتب رسالة لأهله فور انتهاء الإضراب، ضمنها برنامجاً غذائياً لزوجته، يشرح فيه كيف ومتى تقدم لأطفاله التمر، وهو كثير في العراق، مع الحليب الموجود عندهم بكثرة أيضاً.
بعد مدة من كتابة الرسالة، وبعد أن تخلصنا من هوس الطعام، إذ بأبي العروبة يضحك بصوت عال، حتى دمعت عيناه ليتضح بعد ذلك أنه يضحك لتذكره الرسالة التي عندما ستصلهم كما قال: سيقولون عني إني انخبلت، أي جننت.
وأشياء أخرى كثيرة، لا تزال تثير لدينا نحن الأسرى، الضحك عندما نجتمع ونتذكر مثل تلك الأشياء.
لكل ما تقدم، استهدافنا من قبل العدو، إدراك ذلك، الإضراب ومعاناته، وحتى الأشياء المثيرة للضحك، التي جسدت القول المأثور »شر البلية ما يضحك« كل ذلك يوضح عظم المأثرة والعمل الإنساني العظيم للإنسان الشهيد »أبو حاتم« تضحيته تلك وهو يعرف المخاطر وما قد يترتب عليها من نتائج. المخاطر التي ربما لم يقدرها، أو يحس بها. بعض من كانوا يتحلقون حوله، في لحظة شموخه تلك.
حقاً إنها مأثرة، وعمل عظيم، جدير بها إنسان مثله.
سمعت أول مرة بالشهيد، حين أعلن العدو، تقريباً في نهاية عام 1968، وكنت حينها في سجن الرملة المركزي، عن إلقاء القبض على »المسلح عبد القادر أبو الفحم« كلمة مسلح كان يطلقها العدو في إعلامه، خاصة الإذاعة الناطقة بالعربية، على الفدائيين الفلسطينيين، بعد معركة لميقل في سياق إعلانه، إنها كانت عنيفة، بل عرفنا ذلك لاحقاً، ألقي القبض في نهايتها على الشهيد، وهو مثخن بالجراح، خاصة في الصدر والبطن.
وصف العدو الشهيد في ذلك البيان، إنه أحد قادة »قوات حرب التحرير الشعبية« ومن الاهتمام الذي أولاه إعلامه ترك انطباعاً بأهمية ذلك الإنسان، وخطورته عليه، وما سببه له من آلام، وإنه ليس بالإنسان العادي.
مرت الأيام، وفي 17/3/1970 نقلت مع آخرين إلى سجن عسقلان، وعسقلان في تلك الأثناء، لم يكن سجناً عادياً، كان قتلاً وتخويفاً، لم يهدف العدو منه إرهاب المناضلين المتواجدين، داخل السجن فقط، لقد أراد وعمل كي يمتد تأثيره إلى كافة المعتقلات، لذلك فقد شرع بعد افتتاحه باختيار عدة أشخاص من سجن ما، ويرسلهم إلى عسقلان بعد مدة. بعد أن يعيشوا ذلك الجحيم المسمى عسقلان، يعيدهم أو بعضهم، إلى المكان الذي أحضروا منه، ليبث الخوف في قلوب المعتقلين، وينتشر ويعم بقية المعتقلات، كي يصبحوا أكثر هدوءاً، أكثر انصياعاً للأوامر، أو كما كان يحلوا للعدو القول، أكثر تأدباً.
لهذا، فقد انتشرت وعمت أخبار عسقلان في كل المعتقلات تقريباً، وفي سجن الرملة سمعنا تلك الأخبار ولمسناها.
بحدود منتصف العام 1969جرى نقل مجموعة من سجن الرملة إلى عسقلان، كان بينهم شاب يدعى محمود الضميري.
هناك في سجن الرملة، ثمة مستشفى للمساجين الأمنيين وغير الأمنيين، عرباً ويهوداً، يحضر إليه المساجين من كافة السجون بناء على قرار من الطبيب في هذا السجن أو ذاك. بعد يومين من نقل تلك المجموعة، ذهب أحد الأشخاص لم أعد أذكر اسمه إلى المستشفى بتوصية من طبيب العيادة.
هناك في المشفى، كان عدة أشخاص بينهم قادم من عسقلان، حليق الرأس والشنب وجه مليء بالكدمات، وأحد فكيه مكسور، لم يعرف سجين الرملة، أي من الموجودين ليتفاجأ بعد ذلك أن حليق الرأس، ذو الفك المكسور، هو محمود الضميري الذي كان معه في غرفة واحدة قبل يومين فقط، طبعاً تم ذلك بعد أن عرفه محمود على نفسه.
أية مجموعة كانت تصل إلى عسقلان، يكون باستقبالها صفان من الجنود مزودين بهراوات غليظة، وفور نزول القادم، من الزنزانة »البوسطة« يواجه بالصفعات واللكمات والركلات والضرب بالهروات لغاية وصوله إلى النظارة وهناك بعد أن يصل كل أفراد المجموعة يأتي الضابط المناوب، برفقة عدد غفير من رجال الشرطة.
يبدأ الضابط السؤال عن أسماء المعتقلين واحداً إثر الآخر، وما أن يجيب أول المعتقلين عن اسمه حتى ينهال عليه الضرب، مرة ومرتين، بعدها يصرخ به قائلاً: قل اسمي فلان يا سيدي. بعد ذلك يُؤخذوا واحداً، واحداً تحت الضرب إلى الحلاق الذي يحلق الشعر كاملاً، ثم الشنب »الشوارب« لمعرفتهم قيمة الشنب عند العرب.
بعد أن ينهي الحلاق عمله، يُرسلون إلى المخزن، وهناك يرشونهم بمادة ال دي دي تي، وهم عراة، والصفعات واللكمات طالعة، نازلة، يُسلمونهم الملابس بعد أن يجردوهم من ملابسهم الخاصة، ويأخذوا ما لديهم من أشياء.
تسليم الملابس يتم كيفما اتفق، فقد يكون نصيب رجل سمين، بنطال أو قميص بالكاد يناسب إنسان وسط، أو العكس، ثم يأتي الانتقال إلى العيادة، أن ترى رجل شرطة يضرب سجيناً، فذلك يبدو منطقياً، أما أن ترى ممرضاً، أو بضعة ممرضين يفعلون ذلك!!.
في الختام الانتقال إلى الزنازين، يظلون هناك لمدة أسبوع، ومع وجبات الطعام الثلاث مثلها ومرافقة لها وجبات ضرب، ليس من شرطي واحد، وإنما يجتمع على الاثنين الموجودين في الزنزانة بحدود العشرة من رجال الشرطة.
بعد انقضاء أسبوع في الزنازين، يُنقل المعتقلون إلى الغرف، وهناك يمنع السجين من فرش أي من بطانياته الأربعة، سواء أكان ذلك للجلوس، أو النوم.
الأوامر أنتبقى البطانيات مرتبة جيداً، بشكل هندسي كمربع، أو مستطيل على أن لا تطول البطانية عن الأخرى، أو تقصر عند الترتيب، علماً أن البطانيات، ليست متساوية الحجم دائماً. ثم يوضع البشكير على البطانيات بتداخل بين طياتها لتبرز تلك الطيات مكسوة بالبشكير، كي يضفي عليها ذلك جمالاً، فالجمال مطلوب، وضروري لرفع سوية الذوق لدى المعتقلين!! ثم يوضع كأس البلاستيك فوق تلك التحفة الفنية!!. الصحون، يجب أن تكون مرتبة فوق بعضها البعض كهرم، حيث من شأن ذلك أن يضفي الجمال والسحر على جو الغرفة!!
فيوسط الغرفة كانت توضع في النهار حصير ليجلس عليها المساجين، وهي بالتأكيد لا تتسع لكل المعتقلين، في حالة رغب الجميع في الجلوس، فكيف بمن يريد النوم نهاراً؟ حتى تلك الحصير، كان يتم إخراجها بالليل ساعة النوم، كي لا يستفيد منها أحد، فتبقى البطانيات الأربع، فراشاً، وغطاءاً، صيفاً، وشتاءاً.
مدة الفورة كانت ربع ساعة صباحاً، ومثلها بعد الظهر، فيخرج المعتقلون وأيديهم خلف ظهورهم ورؤوسهم محنية صوب الأرض، يدورون حول الساحة اثنين، اثنين خلف بعضهم البعض.
للحقيقة، أقول: إن عسقلان وإجراءاته لم تهزم الفلسطيني، لكنها بعد المعاملة المقبولة نسبياً في سجن الرملة بداية الاعتقال قد فاجأته.
كان عسقلان مسلخاً، المهم إن ذلك المسلخ، لميتم افتتاحه بناءاً على اقتراح، أو أمر من قبل مدير السجون، بل بناء على أوامر من المؤسسة الصهيونية العليا. إذ سبق تلك الخطوة بعدة أسابيع تصريح لوزير شرطة العدوفي حينه »إلياهو ساسون« مضمناً تصريحه ذاك، تهديداً صريحاً »للمخربين« الذين يقفون في المحاكم، يفاخرون بانتمائهم وأهدافهم. بعد ذلك كان عسقلان.
العدو مثل كل العنصريين في التاريخ، قديمه، وحديثه، بل هو الطليعي فيهم، وخلاصة مركزه لتلك التجربة البغيضة، لم يتعظ من تجارب الماضي القريب والبعيد، لم يتعلم، ولم يدرك مغزى انتصار عبيد روما على أسيادهم، رغم ما كان، يملكه، أولئك الأسياد من وسائل قمعية وأخرى معنوية، قادرين بواسطتها، إقناع العبيد إنهم عبيد.
لم يتعلم الصهاينة من التجربة الإنسانية، مغزى انتصار الإنسان على الظلم، فأصروا على إعادة سيرة أسلافهم، تحدوهم رغبتان، الأولى الانتقام من الذين يعتبرونهم دونهم، ليثبتوا تميزهم وتفوقهم. الثانية: تفوقهم على أسلافهم بتحقيق ما عجز أولئك الأسلاف عنه.
يتميز الإنسان عن كافة المخلوقات بقيمه، وأخلاقه، برفضه الذل، والإذلال، فأية حياة هي تلك الخالية من القيم والأخلاق، والمشبعة بالذل والخضوع؟
عندما يرى الإنسان المناضل أن كلما يؤمن به من قيم ومبادئ في كف، والحياة في كف آخر، فمن المؤكد والأكيد، أن يختار الموت انتصاراً للحياة كي يعيشها بكرامة وشرف، من سيبقى بعده، أهله ومحبيه هكذا كان، رغم كل أشكال القمع الهمجي المباشر، في حالة إعلان الإضراب، رغم كل ذلك أعلن مناضلو عسقلان في 5/7/1970 الإضراب عن الطعام.
في الليلة الماضية لذلك التاريخ، بعد العدد المسائي الذي تجريه إدارة السجن، حيث يتم بعده إغلاق الغرف، جلس المعتقلون في غرفهم، ليحددوا موقفهم من الإضراب. ويبين كل موقفه منه، الموافقة، أو الرفض. فالإضراب عن الطعام ليس أمراً بسيطاً، ولا هو نزهة، فالمفروض أن يعلن الشخص موقفه سواء كان الرفض أو القبول.
في غرفة رقم واحد، كان عددنا اثنا عشر. وافق ستة على الإضراب، ورفض الستة الآخرون. كان المناضل محمود حسين نصر الله »أبو حنفي« رحمه الله، أحد الذين وافقوا على الإضراب، وهذا ليس بالأمر المفاجئ، الدافع للإضراب، والأسلوب الذي طرح فيه موافقته هو المفاجئ.
أبو حنفي رحمة الله عليه، مثل غالبية شباب فلسطين، كان يعمل في إحدى دول الخليج. كان هو وإخوانه الاثنين حامد، وخميس في السجن، كل منهم نزل دورية، دون علم الآخرين، والتقى الثلاثة هناك.
محمود شاب نموذجي بالفعل، من حيث الشكل، طويل القامة، عريض المنكبين، أشقر، ذو عيون خضراء واسعة، وتقاطيع متناسقة، خلوق، وروح تتصف بالبساطة والطيبة، مرح. وكما يقال: »ابن نكتة« نزل على رأس دورية من مناطق الأغوار صوب قريته في منطقة نابلس "بيت فوريك".
الدورية التي كان يقودها جسدت الوحدة العربية، مناضل عراقي، وآخر جزائري، والثالث يمني. في طريقهم صوب الهدف وقعوا في كمين للعدو، استشهد الثلاثة، وأصيب محمود في فكه، وبإحدى يديه، لكنه ظل متماسكاً وأخذ بإطلاق النار ويتراجع زحفاً للخلف.
لما اعتقد أنه خرج من مجال مرمى النار، أصلى الكمين صلية طويلة، وقام يعدو سريعاً نحو النهر، ففتحت أبواب جهنم خلفه، وأصيب بعدة أماكن في رجليه ومناطق أخرى، وظل يركض، ابتعد عن مرمى النار، قرب الفجر كان ملقى في إحدى بيارات طوباس القريبة من النهر. إلا أنه لم يعد قادراً على الحراك، فقد نزفت جراحه الكثير من الدم.
في الصباح جاء صاحب البيارة وهو مختار طوباس في حينه، فعرض عليه أبو حنفي ساعته الذهبية قائلاً له: أن الثورة ستكرمه، على أن يوصله على دابته حتى حافة النهر، لكن ذلك الكائن عديم الإحساس، استدعى له الجيش.
بعد أن تأكد العدو وتحدث مع محمود عن بعد، خوفاً أن يكون قد فخخ نفسه، تقدم أحد أفراد العدو راكضاً بسرعة، وقفز في الهواء، فدفع محمود بعيداً وارتد إلى الاتجاه المعاكس. فطار صواب أبو حنفي من شدة الألم.
أخذ الجنود أبا حنفي، وحكم عليه بالسجن المؤبد. أكثر ما عانى منه محمود فكه المكسور. فمنذ إلقاء القبض عليه في شهر أيلول أو تشرين أول، وأبو حنفي يعاني من ذلك الجرح. عدة مرات أخذوه إلى المشفى، فيعملون على تجبير الكسر بربط أسنانه العلوية بالسفلية بأسلاك معدنية خاصة لتثبيت الفك المكسور، يقدم له الغذاء على شكل سائل، خلال عملية الربط تلك التي تستمر بحدود الشهر، بأنبوب صغير عبر فتحة خلفها غياب ضرسين من الفكين العلوي والسفلي. بعد أن تحل الأسلاك، ويحرر الفك تمضي فترة وجيزة نسبياً، ليعود الفك السفلي كما كان. واستمر الحال على هذا المنوال لغاية العام 1978 فاستعانوا بقطعة من عظم الفخذ، فخذ أبو حنفي طبعاً، وتم علاج ذلك بطريقة طبية، لا أعرف كيف، المهم أن محمود انتهت معاناته تلك.
كان أبو حنفي يقول كلمة سيدي لأي من رجالات الإدارة بسبب أو بدون سبب أحياناً كثيرة كان ينادي على الشرطي الموجود بالمردوان: سيدي فلان، أعطني ولعه، سيدي فلان افتح الباب، يفعل ذلك وهو يضحك كأنه في منتهى السعادة. فاجأ أبو حنفي الجميع وهو يعلن أن السبب الرئيسي لموافقته على الإضراب هي كلمة سيدي. قال: قد تستغربون، أعرف أني عودتكم، ورجالات الإدارة على قول تلك الكلمة، بأسلوب يختلف عن الجميع. كنت أفعل لأشعر رجالات الإدارة، أن مثل ذلك القول لا يعني لي شيئاً، وهو أمر عادي ولا يضيرني قوله. كنت أرغب أن لا يشعر رجل العدو وأنا أقول تلك الكلمة بالزهو والافتخار، مع إني بالحقيقة، كنت أتألم من قول تلك الكلمة اللعينة، والآن، من أجل تلك الكلمة وحدها، أنا موافق على الإضراب.
كان أبو حنفي رحمه الله من خيرة المناضلين، حرر في عملية الجليل عام 1985، التي قامت بها القيادة العامة. تزوج بعد خروجه من السجن، وخلف بنات وأولاد. وتوفي قبل عدة أعوام متأثراً بمرض السرطان. رحمه الله وكل مناضلي وشهداء شعبنا وأمتنا.
كان ثمة مفارقة، في نفس الليلة، وفي نفس الغرفة، كان هناك شخص لا أريد أن أذكر اسمه خشية أن أجرح مشاعر من هم على علاقة به من أهله ومحبيه، أما هو فقد توفي منذ عدة سنين فرحمة الله عليه. كان بحدود الأربعين من العمر، طويل القامة، وقوي البنية، وكان هناك شاب صغير نسبياً ابن ثمانية عشر عاماً اعتقل عام 1969 وعمره سبعة عشر عاماً، إنه الصديق العزيز عبد القادر يوسف سليم حماد »بدران« رحمة الله عليه. حرر في نفس عملية عام 1985 التي قامت بها الجبهة الشعبية لتحرير فلسطين القيادة العامة. تزوج وخلف طفلين هم شباب الآن طارق وبدران. توفي عام 1989إثر نوبة قلبية رحمه الله. الأول رفض الإضراب، مدفوعاً بخوف هستيري. أما بدران، فقد كان متحمساً جداً لفكرة الإضراب حتى نتخلص من الإذلال المفروض علينا. كما كان يقول.
بدران من قرية سلواد قضاء رام الله، تربى في بساتينها وجاب جبالها. فغدا كإحدى سنديانات تلك الجبال، قصير القامة، وقوي البنية. صفات بدران الحميدة كثيرة، أروعها صفاء الذهن وقوة المنطق. لقد كان قادراً بصفاء ذهنه، ومنطقه البليغ أن يُجَسِّم الفكرة التي يريد أمام محدثه كأنها قطعة منحوتة من الصخر.
التحق إلى صفوف حركة فتح، وهو في الخامسة، أو السادسة عشرة. في إحدى المرات كان ينتظر عند إحدى المنعطفات بين جبال قريته، ينتظر آلية عسكرية، فمر جيب عسكري، ومن مكمنه أعد القنبلة وألقاها حال مرور الجيب، فجاءت في منتصفه.
فر عائداً إلى القرية، وما أن وصل هناك حتى كان الطوق العسكري قد سبقه، التقطته إحدى الدوريات وقادته حيث أحد الضباط.
كان هناك بعض الشوك العالق في حذائه الأمر الذي جعله موضع شك. فرد بقوة واندفاع: بأنه تلميذ، خرج لمراجعة دروسه خارج القرية، وللتدليل على صدقه أخرج الكتاب الذي كان بجيبه، ربما لقوة منطقه، أو لصغر سنه أو الاثنين معاً، أمر الضابط بإطلاق سراحه، ليعود بعد عدة أسابيع لاعتقاله من جديد بعد أن وشى به أحدهم. فحكم عليه بالسجن المؤبد.
كان بدران من خيرة الشباب المناضل، قدوة للآخرين في الالتزام، والفعل الحسن، داع ومخلص للعلاقة الوطنية، يمقت ضيق الأفق وضيق النظرة. كان يمقت التعصب، دائم الدعوة إلى الالتزام، فلم يسجل في تاريخه النضالي خروجه يوماً عن المجموع. لم يكن من الملتزمين بأي عمل نضالي لتحسين شروط الاعتقال فقط، وإنما كان دائماً من أوائل الداعين لذلك والباذلين الجهد لأي عمل نضالي ليصير حقيقة ويفرض في لحظة أو ظرف معين. رحمه الله وكل الشهداء من أبناء شعبنا وأمتنا.
فيتلك الليلة، وذلك اليوم لم أكن قد رأيت بعد الشهيد أبو حاتم، لكن ما عرفته لاحقاً، أن الشهيد أصر على المشاركة ولم يثنه عن قراره توسل العديد من الأخوة أن لا يشارك حفاظاً على حياته، لم يستجب وظل مصراً على موقفه. مشاركته الإضراب، لم تكن كمشاركة أي مناضل لا جرح فيه، ولا مرض لديه، المشاركة كانت تعني الشهادة، ودليل ذلك الطريقة التي يستخدمها العدو لدى إعطائه الوجبة القسرية للمضربين عن الطعام.
بعد أن يُجلسوا المضرب على كرسي، يجعلون يديه خلف ظهره، خلف الكرسي، ثم يكبلون يديه بالقيود، فيضع أحد رجال الشرطة قدمه على سلسلة القيد ويضغط إلى الأسفل، شرطيان آخران يثبت كل منهما إحدى رجلي المناضل على الأرض، فيصبح بعدها، في وضع لا يقدر فيه على الحراك، شرطي رابع يمسك الرأس، فيأتي المسؤول في السجن ويدعي زوراً ممرض، ويسمى "يودا" بيده أنبوب مطاطي بطول المتر ونصف المتر قطره بين 1-2 سم، ينتهي بمحقن مطاطي يدفع الأنبوب، بعنف ظاهر إلى المعدة عبر إحدى فتحتي الأنف يتدفق الدم، فتخ الأن عينك جهة الفتحة المستهدفة خرجت من محجرها. يسحب النبريش ليعاود إدخاله في الفتحة الأخرى مرات، ومرات.
يقوم الشرطي المتحكم بالرأس، بفتح فم الضحية بالطريقة التي يشاء، ويضع بينسة "زرادية" مفتوحة داخل الفم، فيظل ذاك فارغاً.
يقوم "يودا" هذه المرة بإدخال النبريش عن طريق الفم، يسحبه قبل أن يصل مبتغاه. يشعر الإنسان حينها كأن ناراً تسري مع النبريش المندفع خارجاً. من جديد يدخله، وعندما يصل إلى المعدة، يدكه هناك دكاً، وهكذا يتابع عمله. بعد حوالي 10-15 دقيقة، بعد أن يرى »الممرض« الجزار، أن لا فائدة. فالمناضل الذي بين يديه صلب ولا طائل من المحاولة، يضع كأساً من الحليب في المحقان المطاطي، ليذهب السائل بواسطة الأنبوب إلى المعدة المنهكة.
لنتصور الأثر الذي تركه الأنبوب على الجراح، غير الملتئمة أصلاً، وهي في الصدر والبطن. سنعرف دون عناء، سبب استشهاد بطلنا الغالي. وهو مثل كل المناضلين في عسقلان، وقبل إعلان الإضراب كان يعرف جيداً أسلوب التغذية ذاك، نعمر كان يعرف، وعرف أيضاً ما كان ينتظره.
كان يعرف أن مشاركته تعني الشهادة، فلم يتردد، ليس رغبة منه بالموت، ولا زهداً بالحياة. كان إصراره لإدراكه أهمية ومغزى المواجهة كل شيء مستهدف، روحنا، قيمنا، إيماننا بحقنا. كذلك وفاءنا لشعبنا، وإخلاصنا لقضيتنا، لهذا رأى الشهيد إن الاستنكاف مهما تكن المبررات ومهما ستكون النتائج يعني التسليم للعدو بما يريد.
الشهيد لم يكن شاباً في مقتبل العمر، يندفع دون روية، دون تفكير وراء شعارات أو أمور تبدو للبعض مجرده مثالية.
كانفي حدود الخامسة والثلاثين من عمره، وأب لطفل وطفلة، وفي هذا ما هو محسوس، ملموس، أقوى من أي خيال، أو نزوة يشد الشهيد إليه.
إي إنسان هذا الذي يرمي نفسه إلى الهلاك تهوراً، واندفاعاً، وعنده الزوجة والولد!. في حالة كهذه، لا وجود للخيال أو التهور.
قام بما قام به عن وعي، وإيمان، في وجدانه، كان محسوساً، ملموساً آخر، أقوى واشد تأثيراً من الأول، يشده يجذبه إليه. طرده من قريته مع أهلها، والذكريات، حياته اللاحقة في المخيم، كان الأهم والأشد تأثيراً.
اختار حب الوطن، عن وعي تام، الإخلاص للزوجة والأطفال الأساس لذلك الحب العظيم من أجل أن يكون لأطفاله وطن بالأحرى أن يعود لهم الوطن.
في اليوم الرابع من الإضراب، كنا بحدود الثلاثين مناضلاً. بعد الانتهاء من مرحلة الصراع مع النبريش جمعنا العدو في مكان كان يستخدم كمنجرة، أصبح فيما بعد حماماً للسجن.
كانت السعادة تغمرنا فرحين لتجاوزنا الامتحان الصعب "الغذاء القسري" رغم الدم الذي لازال ينزف من أنوف العديدين. كانت السعادة والفرح تعلوا الوجوه المنهكة، نشوة النجاح تتسلل عبر العيون، فتعكسها تلك شعاعاً من الفخر والاعتزاز، وإلى النفس والعقل تتسلل فتتمكن منهما فيشعر أحدنا أنرأسه بات يلامس سقف ذلك المكان، أو كأنه يحلق في الهواء، فلا عجب في ذلك حيث متوسط العمر كان 22-23 عاماً تقريباً.
فجأة، فُتح الباب ودخل إنسان طويل القامة، نحيل الجسم، والتعب والإرهاق باديان عليه والدم يسيل من أنفه وفمه.
قال أحدهم: هذا هو أبو حاتم.
هب الجميع للقائه، حيانا بيده، وجلس على الأرض، ثم تمدد على جانبه الأيمن والاصفرار يعلو وجهه والدم ما انفك يسيل.
اندفعنا إلى الباب، وهو عبارة عن قضبان حديدية، مغلف بالصاج، وفي الوسط منه فتحة صغيرة "كوة" بدأنا ندقه بأيدينا، ولما جاء الحارس طلبنا منه إحضار الممرض لأن أبو حاتم مريض جداً.
جاء »يودا« يسير على مهل، دون إبداء أي اهتمام، بالتأكيد يعرف ما ينتظره، فما حدث لأبي حاتم من صنع يديه.
دخل، محاولاً اصطناع اللطف. ألقى التحية مبتسماً، وتوجه إلى أبي حاتم، فبدا كمن يغني في عزاء، أو يجدّف في مكان مقدس.
قال لأبي حاتم، دون أن يفحصه، أو يسأله مما يعاني: صحتك جيدة، فقط عليك أن تأكل، وسأحضر لك إذا أردت طعاماً من مطبخ الشرطة.
لم يكن الشهيد قادراً على الرد، فأشار بيده: أن لا.
كرر يودا المحاولة. ومرة أخرى أشار: أن لا. والدم لا زال يسيل من أنفه وفمه.
لم يفعل شيئاً، خرج وهو يقول: لا أقدر عمل شيء، عليك أن تأكل أولاً.
أصعب لحظات السجن تلك التي يتجلى فيها عجز الأسير، حينها يضيق السجن، بغض النظر عن المساحة، عن مكان وجودك في الزنزانة، أو حتى في الساحة يضيق المكان عليك، فيكاد يخنقك.
غالباً ما يظهر العجز لحظة التفاصيل، لذلك ترى الإنسان يهرب، غريزياً، وفي حالات كثيرة وعياً، وإدراكاً صوب العموميات، الأصح يتحصن بها، بالمثل العليا، بالأهداف التي اختار لأجلها تلك الطريق، مثل الإيمان بالله، الإخلاص، التضحية، إنك صاحب حق، عدم شرعية العدو، مهما تكن قوته، هنا لا مجال للتفوق عليك، حتى لو قضيت داخل السجن.
المثل العليا هي أداة الأسير، هي حصنه، والتفاصيل أداة السجان، آلة بطشه، لكن ليست جميعها. فثمة تفاصيل تتعلق بالأنا، وأخرى تتعلق بالغير.
الأولى: سم زعاف قد تبرز رغبةً بسيجارة، أو فنجان قهوة، أو سراب على شكل آمال يمنيك العدو بها.
السيجارة، قد يتصاعد دخانها، فتخنق ذلك البائس. وفنجان القهوة، ربما يتعاظم أيضاً، ويتحول إلى طوفان يجرف ذلك التعيس، والسراب حتماً سيقود إلى الضياع، في جميع الحالات الأغلب تكون الأنانية، أساساً للسقوط والانحراف.
أما التفاصيل الناشئة عن التفكير بالغير فهي ميزة إنسانية نبيلة، وهي أقرب إلى العموميات إلى المثل العليا.
أن ترى صديقاً لك، رفيق دربك يتألم، والألم يكاد يقتله يستحوذ وضعه على تفكيرك. تفكر، وتفكر دون نتيجة، كأنك تدور في حلقة مفرغة، ولازال أمامك يتألم، تشتد حيرتك، يشتد ألمك، والوضع على حاله، لو صرخت، أو ضربت رأسك بالحائط، فلن يفيدك ذلك بشيء فتلمس عجزك أو تحسه، فتتعاظم حيرتك، ويزداد ألمك.
في النهاية، بصبر ذلك الإنسان، بقدرته على تحمل الآلام، ينقلب السحر على الساحر، فإذا العدو الذي أراد ردعك، والتأثير عليك، مستغلاً حالة ذلك الإنسان الضعيف، والواهن جسدياً، وعظيم القوة روحياً، ظاناً أنه أداة مادية لا روح فيه، ولا حياة قد بث بهمن حيث لا يدري قوة وقدرة على التحمل والصبر، ليتعاظم قدره بنظرك، فتنتقل حالته المعنوية لك، فتمدك بالقدرة الفائقة على التحمل والصبر، فيصير ألمه وألمك بوتقة تصهر معاناتكم معاً، لتزيد العلاقة بينكم وحدة، وقوة، فيغدو ذلك الضعيف الواهن جسدياً والعملاق روحياً بطلاً وقدوة. ويظهر العدو على حقيقته، وحشاً، قاتلاً، وحقيراً.
هكذا كان الإحساس العام، عندما خرج "يودا" ولم يفعل شيئاً. مرت عشرة دقائق تقريباً، والصمت سيد الحال، كانت فترة طويلة وثقيلة ومؤلمة جداً. بعدها فتح الباب ودخل سجانان يحملان نقالة وتوجها حيث أبو حاتم، وضعاه على النقالة، وذهبا به. بعدها لم نره. بعد أن أخذوا الشهيد، ساد شيء من الهدوء. شعرت حينها أننا قد هوينا جميعاً، من عالم النشوة والخيال، على حقيقة ذلك الإنسان المصر على التمسك بموقفه رغم وضعه الصحي.
طارت النشوة التي اجتاحت نفوسنا، وتأثرت بها عقولنا، فحدّت من فعلها وتأثيرها، فعدنا إلى الواقع، مأخوذين بعزيمة، وصلابة ذلك الإنسان الإنسان.
بعد ظهر ذلك اليوم نقلونا إلى الزنازين، وقضينا تلك الليلة هناك. في صباح اليوم الثاني بحدود الساعة العاشرة، أخرجونا إلى الساحة الخاصة بزنازين الانفرادي وأحضروا آخرين من غرف أخرى. جاء مدير السجن "ألبرت حيوت" وأخذ يفاوضنا من أجل حل الإضراب، واعداً إيانا بأشياء وأشياء. المهم أن ذلك المدير الذي كان قبل الإضراب ينضح عجرفة وغروراً، غدا غاية في اللطف، ومن الجدير ذكره أنه كان هناك شاب اسمه محمد خليل أبو عمر، في اليوم الثالث من الإضراب بدا يشكو من الم في ساقه، الألم صار يتزايد يومياً. المعروف عن ذلك الشاب الذي كان عمره، بحدود الثلاثين عاماً، كله نشاط وحيوية، يعشق الرياضة والحركة.
عندما كان المدير يفاوضننا، كان متمدداً على الأرض، رأسه على فخذ رجلي، ويصرخ من الألم، لكن ذلك لم يمنعه من مقاطعة المدير قائلاً: لا تردوا عليه، كذاب.. أي والله، كان يقول ذلك. وهو الوحيد الذي كان يعارض حل الإضراب بالشكل الذي تم فيه، ثم يعود لألمه، ويقاطع من جديد، ورغم الإهانة كان المدير يرد عليه ضاحكاً عندما ستأكل سيزول الألم.
انتهى الإضراب في صباح ذلك اليوم، وأخذوا أبو عمر إلى المشفى خارج السجن، ليعود بعد شهر أو أكثر بقليل، وقد بتروا ساقه من فوق الركبة.
لا يمكن أن تكون ضرورة طبية التي استدعت بتر ساق أبو عمر، لكن رغبتهم أن يجعلوه عبرة لنا جميعاً، حتى لو كان هناك ضرورة للبتر، فالسبب التجاهل، والإهمال الذي لاقاه منذ بداية الألم هما اللذان أديا إلى ذلك.
كان حكم أبو عمر 15 عاماً، وقد خرج من السجن قبل انتهاء المدة بقليل. أتمنى أن يكون أبو عمر قد وجد من مد له يد العون وأن يكون ناجحاً في حياته.
في مساء اليوم الذي انتهى فيه الإضراب، كانت نشرة أخبار باللغة العربية، في إذاعة العدو فقد أعلنوا: "أن المسلح عبد القادر أبو الفحم قد توفي متأثراً بجراحه". طبعاً المقصود جراح معركة الرصاص ولم يشيروا لا من قريب أو بعيد، للإضراب وتأثيره. في نفس اللحظة، العديد من المناضلين، من مختلف الغرف، كأنهم على موعد صرخوا بصوت عال هذا كذب.. هذا كذب..
العظيم والجميل في الأمر، أن الشهيد لم يكن شهيد مصادفة، لم يفاجئه الموت هنا أو هناك لقد رأى الموت جاثماً أمامه، لم يفزع، أو يتردد أو يعتريه خوف، لم يتقهقر، ظل مصراً على السير والموت ينظر إليه بدهشة، وربما بإعجاب.
في لحظة الحقيقة تلك، كان أمام أبو حاتم وجهان، وجه يودا القبيح، ووجه الموت. الأول أراد سلبه إنسانيته. الثاني أراد حياته. فاتجه دون تردد نحو الموت. من يعرف!! لعله رأى فيه جمالاً وإنسانية لم يرهما في وجه ذلك الصهيوني الحقير، اختار الموت انتصاراً للحياة وحباً بها وبمعانيها السامية.
جاءت التضحية في الكتب المقدسة، كي يعلم الله الإنسان، معنى الحياة، مع هذا لم تكن التضحية اختياراً أو تطوعاً، بل طلباً وتكليفاً. فلا سيدنا إسماعيل عليه السلام، ولا عبد الله بن عبد المطلب، والد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم بادرا إلى التضحية، بل طلب منهما ذلك.
أنا هنا لا أقارن بين مسألة دينية، وأخرى دنيوية، حاش لله، فقط أريد القول: إن المناضل الصادق إن لم يصل إلى مصاف الأنبياء والصالحين، فهو أقرب الناس إليهم.
هكذا، ذهب الشهيد عبد القادر أبو الفحم، فغدا دمه زيتاً، أضاء قنديل الثورة في المعتقلات، فصارت بحق بفضل ذلك الدم الغالي مدرسة خرجت آلاف المناضلين.
صالح أبو طايع
17/9/2002